من حلم الدولة إلى مقصلة دويلة وربع

عماد أبو عواد
12-09-2023

ثلاثون عاماً مرّت على توقيع اتفاق أوسلو، الذي كان من المُفترض أن يقود إلى دولة فلسطينية مُستقلة خلال خمس سنوات، ورغم تأكيد كلّ الأطراف بأنّ الاتفاق أصبح جزءاً من الماضي، وبأنّ العودة إليه مستحيلة إلّا أنّه يُلقي دائما بظلاله على كلّ من يرى بأنّ لا حلّ للقضية الفلسطينية إلّا بالعودة لمسار سياسي معين، مسارٌ بالمجمل هو أقل من أوسلو، يتعاطى مع الواقع ضمن سياق ما حدث على الأرض، وليس العودة لقرارات الشرعية الدولية -غير المنصفة للفلسطينيين- التي تُقر بها الدول العظمى ولكنّها تتنكر لإمكانية تطبيقها.

انتقلت أبجديات العمل الفلسطيني ككل مع مرور الوقت إلى الإيمان بمرحلية تحقيق الحقوق الفلسطينية، حيث شكلت الانتفاضة الثانية ومخرجاتها بدء تفكير حماس كأكبر حزب معارض، وبعدها كأكبر حركة في المجلس التشريعي، إلى تقديم رؤية تعتمد على مرحلية في التعاطي مع الاحتلال دون الاعتراف به، ما جعل الحالة السياسية الفلسطينية، ومنطلقات العمل السياسي الفلسطيني الداخلي أقرب بين حماس وفتح، مع اختلاف الرؤية النهائية للصراع، لكنّ الانقسام الفلسطيني حال دون إمكانية استغلال هذا التقارب، فجردت السلطة نفسها من نقاط القوّة وولجت في غياهب سياسة محاولة البقاء للحفاظ على مكتسبات السلطة، فيما حماس وجدت نفسها كقوّة عسكرية وقبلها سياسية حاكمة لغزة، لا تستطيع المجازفة باتجاه تجسيد رؤية سياسية خاصة بغزة دون الضفة.

ومع استمرار حالة الجمود الفلسطيني الداخلي، لا بلّ وتراجعه باتجاه المزيد من الاحتقان وتجسيد الانقسام، فإنّ الفلسطينيين قد يجدون أنفسهم تحت ضغط الواقع أمام خيارات تدفعهم باتجاه سياسات منفصلة بالتعاطي مع الاحتلال، الإقليم وكذلك دول العالم، وكلّ تحت ذرائع سيقنع بها اتباعه ومؤيدوه، حيث ستلتقي المصالح، وستظهر النتائج على أنّها حفاظ على المشروع الأهم وهو دحر الاحتلال والوصول إلى هدف التحرر، لكنّها قد تُجسد ما هو على أرض الواقع ربما لعقود أخرى وأكثر.

دولة غزة مصطلح كرره شامير ومن بعده كثُرٌ من سياسيي دولة الاحتلال، وآخرون من صنّاع القرار في العالم يدفعون باتجاهه، والرهان الأكبر هنا يعتمد على استمرار وضع العصي في دواليب أي تقارب فلسطيني، من خلال التلويح الدائم والتهديد المتسمر من قبل "إسرائيل" ودول أخرى للسلطة الفلسطينية بألّا تذهب خطوة واحدة في اتجاه ترميم الواقع الفلسطيني، وهو ما مكّن الاحتلال من استمرار استفراده في الضفة، ونسجه هو وآخرون سياسة الأنف فوق الماء تجاه غزة.

هنا يُراهن الاحتلال أنّ عامل الزمن سيؤدي إلى تغيير طريقة تفكير الفلسطينيين باتجاه اجتراح مسارات سياسية منفصلة على وقع الضغط هنا وهناك، عينه على دولة في غزة، وعينٌ أخرى على ضغط الفلسطينيين في الضفة باتجاه التسليم للأمر الواقع، وصولاً إلى إدارة فلسطينية تقبل التعاطي مع ما فرضته الوقائع، وربما الاتجاه نحو قبول مسار سياسي يُجمد ما هو موجود على الأرض دون تغيير، وفي هذا مكاسب إسرائيلية كبيرة، ومن وجهة نظر الفلسطينيين سيكون ايقافاً للنزيف الحاصل، ما سيمهد إلى رؤى أقل طموحاً من الماضي، وسياسة تحت عنوان الواقعية قد تقود إلى مسارات منفصلة.

فلسطينياً من دون تجميل للصورة نحن نقف على أعتاب دويلة وربع، استمرار استعصاء الواقع الداخلي قد يُبرر لغزة التغريد وحيداً في مسار تخفيف ألمها ومصابها والحد من حصارها، ستتعرض بالتأكيد لوابل غير مسبوق من الهجوم ممن دفعوها لهذا المسار، فيما السلطة في الضفة لن تستطيع تغيير الواقع شيئا، فهي من جانب لا تريد مقاومة، ومن جانب آخر تريد الحفاظ على نفسها كمشروع بحد ذاته، وهذا ما فهمته "إسرائيل" وضغطت من خلاله لتمرير كلّ سياساتها.

السنوات القليلة القادمة لا تحمل في طيّاتها الكثير من التغيير، رغم وجود حراك اقليمي كبير ووسط تغيير مؤكد في تركيبة السلطة مع تقدم الرئيس عباس في العمر، وهو ما سيقود إلى بحث الأطراف الفلسطينية عن حلول مرحلية منفصلة، على أمل أن تؤدي مستقبلاً المقاومة في احداث تغيير كبير في التعاطي مع القضة الفلسطينية، وأن تجد السلطة نفسها أمام حقيقة حتمية ترتيب الواقع الداخلي، مقصلة الدويلة والربع كابوسٌ اسود، لا يتمناه أي فلسطيني وتستبعده الغالبية، لكنه سيناريو نسير اليه على أمل ألّا نصله.