المحددات العسكرية والأمنية للاستيطان الصهيوني في الضفة الغربية
مقدمة:
تمثل المحددات العسكرية والأمنية الأساس الذي قامت عليه الحركة الاستيطانية في الضفة الغربية، حيث سيطرت الاعتبارات الأمنية على فكر واعتبارات النخبة السياسية القادمة من الصفوف العسكرية، وتبلورت اتجاهات مركزية تؤكد أن بعض المناطق في الضفة الغربية لا يمكن التنازل عنها وبخاصة القدس والأغوار، وتم ربط الاستيطان بنظرية الأمن القومي الإسرائيلي لتأخذ أبعاداً جديدة تتمثل بضرورة توافر حقائق جغرافية تضمن "الأمن الإسرائيلي"، وضرورة بناء الحدود الآمنة المستندة إلى نظام من المستوطنات الحدودية، واعتبار أن الحدود الجديدة بعد حرب حزيران 67 تعتبر مثالية لتحقيق الأمن "لإسرائيل"، وبحسب تعبير قادة الاحتلال: فهذه الحدود ستجعل العرب يفكرون قبل الهجوم مرة أخرى علينا وتجعل الهجوم مخاطرة، كما أنها تساعدنا على تحقيق النصر بأقل عدد ممكن من القتلى، أما شارون فقد كان أكثر صراحة في رأيه بضرورة الاحتفاظ بالضفة الغربية بالكامل بتأكيده: أن أمن "إسرائيل" يفرض عدم التخلي عن الضفة الغربية، ويشرح إيغال آلون صاحب المشروع الاستيطاني الأول في الضفة الغربية طبيعة الاستيطان وأهدافه العسكرية بقوله: ان استيطانا تدعمه قواعد ومراكز عسكرية يشكل رداً على مقتضيات الأمن للدولة، كما أن إسحاق رابين عبر عن نفس الأفكار بقوله: أن المستوطنات التي أقيمت خارج الخط الأخضر توسع الحدود، وتعزز أمن إسرائيل وتدعم مطالبنا بالسلام والحدود القابلة للدفاع، وانطلاقاً من هذه التصورات تصبح المستوطنات المقامة في الضفة بمثابة الدرع الواقية من الضربات الموجهة لإسرائيل، أي أن هذه المستوطنات ستكون حصوناً طبيعية ومراكز عسكرية "هجومية- دفاعية" وهذه المستوطنات - وفق الرؤية الصهيونية - ستغنيها عن الاحتفاظ بقوات عسكرية ضاربة على الحدود، وبذلك تستطيع أن توفر القوة البشرية العاملة والمختصة من أجل تشغيلها في التنمية الاقتصادية بدلا من تجميدها على الحدود[1].
قلاع حصينة:
لكي تؤدي المستوطنات الدور الأمني المطلوب منها فلابد من أن تبنى بناء خاصا يوفر لها الحماية، وهي وان بدت ظاهرياً وكأنها أماكن سكنية إلا أنها في واقع الامر قلاع حصينة، والمستوطن الصهيوني الذي يقيم في أي مستوطنة جماعية أو تعاونية أو دينية هو شخص عسكري قبل أن يكون أي شيء آخر، كذلك يراعى أن تقام المستوطنة على نمط حيوي مسيطر كي تؤدي دور الموقع العسكري المتقدم والحصين، وعلى أساس هذه النظرة الأمنية تم بناء معظم الهيكل الاستيطاني الإسرائيلي في الضفة الغربية.
العمق الاستراتيجي الجغرافي:
تحدث قادة الكيان الصهيوني حول نقاط الضعف التي تتسم بها حدود كيانهم قبل حرب 67، وكيف أن المدفعية العادية قادرة على أن تضرب أهدافها في قلب تل أبيب بكل سهولة انطلاقا من مرتفعات الضفة الغربية، ولذلك فقد سعى هؤلاء إلى تعديل الحدود وضم أراضي جديدة تكفل للكيان حدودا ذات عوائق طبيعية وذات عمق استراتيجي مقبول، وبتعبير يغال ألون:" حدود تعتمد على عمق جغرافي وعلى حواجز طبيعية كالحواجز المائية والجبلية والممرات الضيقة والتي تحول دون تقدم القوات البرية"[2]، مضيفا: "أن خطوط الهدنة التي تقررت في العام ٤٨ لا
يمكن أن تكون حدودا دائمة، إنها في غالبيتها خاوية من أية قيمة استراتيجية، وعودة إسرائيل لها تعني العودة إلى مصيدة موت محتملة".[1]
لقد قامت استراتيجية الاستيطان الصهيوني من الوجهة العسكرية على أن تمثل المستوطنات حدود الدولة الجديدة، وهذه المستوطنات ستكون قلاعا عسكرية بكل ما للكلمة من معنى، وهي ستكون قادرة – عسكريا- على امتصاص أي هجوم تتعرض له إسرائيل، وبحسب ما قال موشيه ديان وزير الدفاع الإسرائيلي في حرب 67:" أن المستوطنات المدينية والزراعية والصناعية والقواعد العسكرية سترسم خريطة جديدة"[2].
ومن هنا فقد اتسمت المستوطنات التي أقيمت في الضفة الغربية - وبالذات في الفترات الأولى لاحتلالها - على الأمور التالية[3]:
1- يتم اختيار موقع المستوطنات في المفاصل الاستراتيجية العامة وفي الأماكن الغنية بالمياه والموارد الأولية والموارد الطبيعية.
2-يتم إعداد المستوطنة لتكون قادرة على الدفاع عن نفسها، والتعاون مع المستوطنات المجاورة لصد أي هجوم، أو إعاقته حتى تتمكن قوات الجيش من القيام بهجوم معاكس.
3- يتم تزويد المستوطنة بكل أنواع السلاح اللازم لصد الهجوم، وكذلك بكل وسائل الصمود المعيشية والعسكرية.
4- تهيئة المستوطنة لاستيعاب أكبر عدد ممكن من الرجال كتعزيزات عند الضرورة.
ومن المؤكد انه لا يمكن النظر إلى مستوطنات الاحتلال المُقامة بين البلدات الفلسطينية ككتلة إسمنتيّة وبيوت سكن لليهود فقط، وليست وسيلة سيطرة على الارض فحسب، بل تمثل ثكنة عسكريّة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، فقد بات وجود جيش الاحتلال وانتشاره مبررا بحجة حماية المستوطنات والمستوطنين وتأمين تنقلاتهم ضمن جدلية تبادلية "وجود المستوطنين يبرّر وجود الجيش، ووجود الجيش يشكّل حماية للمستوطنين" وهذا الاتجاه عبرّ عنه موشيه ديّان وزير حرب الاحتلال الاسبق بالقول إن المستوطنات ضروريّة «لا لأنّها قادرة على ضمان الأمن بصورة أفضل من الجيش، بل لأننا لا نستطيع من دونها أن نُبقي الجيش في تلك الأراضيّ، من دون المستعمرات لن يكون "جيش الدفاع الإسرائيلي" إلاّ جيشاً أجنبياً يحكم شعباً أجنبياً، يُضاف إلى هذا كلّه قيمة المستوطنة الأمنيّة وما تعنيه من سيادة على المنطقة.[4]
من الضربات الاستباقية الى الحدود الامنة:
بشكل عام يتفق المجتمع الصهيوني ونخبه الفكرية والسياسية والعسكرية على فكرة مفادها أن الخريطة الأمنية "لإسرائيل "في حدودها التيأقيمت عليها نتيجة لحرب 48 هي حدود يصعب الدفاع عنها، وبالتالي فإن حرب حزيران 67 أعطتها الإمكانية لتعديل هذه الحدود بما يخدم أغراضها الأمنية، ويوفر لها العمق الجغرافي الاستراتيجي، ويلبي قدراتها في تحقيق دفاع فعال قادر على امتصاص ضربات العدو.
هذا التصور انتج توافقا حول اهمية الاستيطان الذي يخدم المصالح الأمنية لدولة الاحتلال، وإن ظهر بين الأحزاب الإسرائيلية أي خلافات حول الاستيطان، فإن هذا الخلاف يدور حول أين يتم الاستيطان، وكيف له أن يخدم الأغراض الأمنية للدولة، وليس على فكرة الاستيطان بحد ذاتها، ويؤكد القادة العسكريين الإسرائيليين أن الدولة التي يتركز ثلثي سكانها في منطقة السهل الساحلي الممتد من غزة جنوبا حتى الحدود اللبنانية شمالا وبعمق لا يصل إلى 15 كم في بعض المناطق، ولا يزيد عن 50 كم في أفضل الأحوال هي دولة هشة، يضاف إلى ذلك أن هذا الساحل هو المنطقة الأكثر حيوية بالنسبة" لإسرائيل" لأن 80% من الصناعات "الإسرائيلية" توجد في هذه المنطقة، وعليه فإن حماية هذه المنطقة تعتبر حاجة أمنية حقيقية بالنسبة "لإسرائيل"[1]، وهذه الصورة[2] التي نشرها مركز اسرائيلي متخصص في قضايا الدفاع والامن، والتي اراد من خلالها توضيح مسألة انعدام العمق الجغرافي لدولة الاحتلال عبر الاشارة الى أن أي طائرة حربية قادرة على قطع المسافة من نهر الاردن الى البحر المتوسط خلال 4 دقائق فقط، تمثل وجهة نظر الاجماع الصهيوني.