المستعربون ما بين الانتفاضة الفلسطينية الأولى والثانية

إنعام حامد
16-03-2022
تحميل المادة بصيغة PDF

دراسات

المستعربون ما بين الانتفاضة الفلسطينية الأولى والثانية

إنعام حامد

مُقدمة:

تتناول هذه الدراسة ظاهرة المستعربين ما بين الانتفاضة الفلسطينية الأولى والثانية من خلال إظهار كون المُستعربين أداة من أدوات عنف الاستعمار الصهيوني، وبيان أنّ العنف المكون الأساس في عملية الاستعراب. كذلك تتناول الدراسة التطور في عمل المُستعربين من خلال تكثيف عددهم خلال الانتفاضة الفلسطينية الأولى والثانية وما حدث بينهما، وبيان كيف شكلت الانتفاضة الأولى تغييرًا في مسار عمل المُستعربين مُقارنةً مع السابق، وبيان أن الزيادة باستخدام المُستعربين من قبل المؤسسة الأمنية الصهيونية هو مؤشر على قوة المقاومة الفلسطينية، ومن ثم التطرق إلى كيفية إنشاء عدد أكبر من وحدات المُستعربين في الانتفاضة الثانية.

المستعربون خلال الانتفاضة الفلسطينية الأولى:

استخدم المستعربون من ضمن وسائل سيطرة أجهزة الاحتلال الأمنية والعسكرية على ردة فعل مقاومة الفلسطينيين خلال الانتفاضة الأولى1987- 1993، وتعبيرًا عن حاجة البُنية الاستعمارية لدولة الاحتلال في فرض سيادتها المُستمرة على حيز المُستَعمر، بالتالي فإن تاريخ بدء الانتفاضة الفلسطينية الأولى هو تاريخ بدء مسار تكثيف عمل المستعربين عبر ممارسة العنف والفوضى وسيلة لإخضاع الفلسطينيين.

تشكل فترة الانتفاضة الأولى المحطّة البارزة التي استخدمت فيها المؤسسة الأمنية الصهيونية المستعربين بصورة مكثفة أداة قمع وسيطرة على الفلسطينيين، فقد شُكّلت وحدة "الدوفدفان" في الضفة الغربية ووحدة "شمشون" في قطاع غزة، وجرى تنفيذ الآلاف من العمليات والكمائن بحق الفلسطينيين في مخيم بلاطة وفي غزة، عمل على توثيقها مركز المعلومات الفلسطيني لحقوق الإنسان.  تلك العمليات أدت إلى اندلاع مظاهرات شعبية في مختلف فلسطين ما دفع الأجهزة الأمنية الإسرائيلية إلى استخدام الوحدات الاستخبارية السرية بقيادة إسحق رابين في الأشهر الأولى من اندلاع الانتفاضة الفلسطينية[1].

لم تكن الانتفاضة الأولى حدثًا مفاجئًا بل كانت نتاج تجارب واحتجاجات ضد ممارسات السلطات الإسرائيلية في المناطق المحتلة بالرغم من كون حادثة دهس العمال في غزة الشعلة في رفع الحراك الوطني الفلسطيني ودخول الفعل الجماهيري حيز العصيان المنظم. دفع ذلك "إسرائيل" إلى تشديد سياساتها القمعية والعقابية من أجل وقف تلك الاحتجاجات وإحباط الانتفاضة الشعبية من خلال فرض منع التجول ونشر النقاط العسكرية للتفتيش وإغلاق المؤسسات الخيرية والإعلامية واستخدام سياسات الإبعداد والاعتقال والتعذيب وهدم المنازل، فضلاً عن اتباع "إسرائيل" لسياسة فرض حظر التجول في إجراء عقابي جماعي لأيام طويلة[2].

أما وجهة النظر الصهيونية بحسب أرييه شاليف فتذهب إلى أن سبب اندلاع الانتفاضة هو غياب الرادع الإسرائيلي الذي يُعزز تصاعد وتيرة الانتفاضة ويزيد من أعمال "العنف الفلسطيني" عن طريق تلاشي خوف جيل الانتفاضة من مواجهة السلطات الإسرائيلية[3]، لكنه أيضًا يذكر الأدوات التي استخدمتها الشرطة في قمع الفلسطينيين لإنهاء الانتفاضة من الضرب بالعصي والرصاص المطاطي ومنع السفر واستخدام الغاز المسيل للدموع وتقييد حركة السكان والبضائع، وركز على استخدام وحدتي "دوفددفان" و"شمشون" من أجل القدرة على إلقاء القبض على المُلثمين وأفراد اللجان الشعبية، إذ تم اعتقال المئات منهم في المدن والقرىالفلسطينية[4].

تقنيات عمل المُستعربين:

فيما يتعلق بعمل المستعربين خلال الانتفاضة الأولى فقد تمثل في أربع تقنيات أساسية واستمرت إلى يومنا الحالي وهي: التنكر والتمثيل والاختراق والعنف.

الهدف الأول والأساس للمُستعمِر من هذه التقنيات؛ هو القضاء على الحياة السياسية في المجتمع (أي مُجتمع المُستعمَر) واتباع سياسة الضرب والإماتة والقتل من خلال السيطرة على الناس والمجتمع. تلك التقنيات اتبعها المستعربون مُسبقًا وإلى الآن، وقد تصاعدت وترسخت مع الانتفاضة الأولى.

يقصد بالتنكر أو التمثيل؛ إخفاء مظهر المستوطن والظهور بمظهر الأصلاني، أي يقوم المستعرب بتقمص دور الفلسطيني عن طريق استخدام اللغة العربية واللهجة المحلية وارتداء الزي العربي الملائم للعملية المطلوبة وممارسة العادات والتقاليد. وبحسب ما قال شمعون تسومخ بأن أهم خطوة في تجهيز المستعرب هو جعله يتمتع بمظهر عربي، وأن أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية تهدف إلى إنشاء وحدة يظهر أشخاصها كالعرب، فإن أكثر ما يميز المستعربين هو القدرة على التخفي محاولين إزالة الاختلاف بين العرب واليهود، حيث ترتدي وحدات المستعربين الأزياء العربية عن طريق ارتداء الملابس المصنوعة محليًا من خلال التحدث ليس فقط باللغة العربية وإنما باللهجة المحلية[5].

يعتبر التنكر في عمل المستعربين مدخلًا  لتحقيق العنف والاختراق؛ الممكن تعريفه بأنه تجسيد لدور المستعرب لتحقيق أكبر قدر ممكن من الخوف والإرباك، وصناعة فاعلية الحدود الاستعمارية، حيث يقوم المستعمر بصناعة الحدود لتسهيل اختراقها بهدف الضبط والسيطرة على المستعمَر من أجل تنفيذ المهمة العسكرية الأمنية.

ظهر ذلك واضحًا وتكلل بنجاح عند قيام وحدة "الشمشون" في غزة بالتنكر والتمثيل بأن المستعربين هم باعة متجولون وشباب فلسطينيون عاطلون عن العمل مع مجموعة من النساء اللواتي لا يتم تمييزهن عن العربيات وعدد من كبار السن الذين كانوا مراقبين لسير العملية وقاموا باغتيال قائد كتاب عز الدين القسام (عماد إبراهيم عقل) وهو في وسط حي الشجاعية في تشرين الثاني/ نوفمبر 1993، وعلّق رابين مبتهجًا على اغتيال عقل قائلًا: "إن مقتل عماد عقل يمثل إنجازًا مؤثرًا ومهمًا في الحرب ضد الإرهاب" مهنئًا وحدة المستعربين المدافعة عن أمن "إسرائيل".[6]

يقول أحد ضباط المستعربين إنه عندما يتم تكليفهم بالقبض على أحد العناصر المطلوبة، فإنهم يتجولون في الأزقة كالعرب ويطرقون باب المنزل، وبينما يتم فتحه يركضون بسرعة على سريره ويتعرفون عليه من خلال الصورة التي بحوزتهم، وفي غضون دقيقة واحدة يخرجون وقد حصلوا على ما يهدفون له، ويقول إن المستعرب مؤهل على تقمص دور أي شخصية كانت، بمعنى قد يكون المستعرب عشرينيًّا، لكنه يتنكر مثل مسن كبير ويلعب دور مراقب مثلًا إذا تطلبت مهمته ذلك. وبحسب أحد الضباط الإسرائيليين؛ يكون المستعربون على دراية بالمكان والأشخاص أفضل من الفلسطينيين أنفسهم، وأن للمستعربين القدرة الوصول إلى كل شخص مطلوب بغض النظر عن مكانه[7].

يجري الحديث عن هذه الوحدة بوصفها تتمتع بقدرات عالية للغاية، منها القدرة على الحضور في كل زمان ومكان بهدف إرباك المجتمع الفلسطيني وتعزيز حجم السيطرة الاستعمارية والتي عن طريق المستعربين تستطيع اختراق أي فضاء مناهض لأمنها (أي أمن "إسرائيل").

عنف المستعربين الممنهج:

فيما يتعلق بالعنف الذي يمارسه المستعربون فهو يهدف إلى تحقيق حالة كبيرة من الصدمة والإرباك عن طريق مفاجأة المستعمَر بالاعتقال والتصفية وخلق نوع من الفوضى بين الفلسطينيين وحالة من عدم التوازن بهدف الإخضاع والسيطرة عن طريق ممارسة التنكر والعنف، والهدف من السيطرة هو القضاء على أي مقاومة فلسطينية محلية منهاضة لسياسات الاستعمار وتقف عائقًا أمام تحقيق غايات المشروع الصهيوني.

وثق مركز المعلومات الفلسطيني لحقوق الإنسان حجم تكثيف عمل المستعربين في أول أربع سنوات من الانتفاضة التي راح ضحية عملياتهم 75 فلسطينيًا 8 منهم في عام 1988 و26ف لسطينيًا في1989 و12فلسطينيًا في 1990 و29 فلسطينيًا في 1991، قتلوا بأيدي وحدات المستعربين المتنكرين الذين يرتدون اللباس المدني[8]، تلك الأرقام تبرز زيادة استخدام المؤسسة الصهيونية للمستعربين في الانتفاضة الأولى أكثر من أي وقت مضى ضمن أدوات ضبط الفلسطينيين والسيطرة عليهم، فلتحقيق "إسرائيل" سيادتها لجأت إلى العنف المتمثل بالإرباك وبث الرعب في نفوس الفلسطينيين سعيًا في إنهاء الانتفاضة.

من الأمثلة على عنف المستعربين الممارس والممنهج هو قيامهم بعملية في 22 آذار/ مارس 1992 تمثلت بدخول أربعة جنود متنكرين بسترات سود وجاكيتات جينز إلى ملعب كرة قدم في طول كرم خلال مبارة محلية وانتقلوا من لاعب إلى آخر إلى أن توقفوا قرب جمال غانم وأطلقوا عليه النار فسقط أرضًا، وثبَّت أحد الجنود بقدمه كتفي جمال إلى الأرض مصوبًا مسدسه إليه أما الجنود المتنكرون الآخرون فقد أطلقوا النار في اتجاه مقاعد المتفرجين وأنذروا من كان لا يزال على أرض الملعب من الناس، أما العملية الثانية فقد نالت تغطية واسعة في الصحافتين العبرية والدولية حيث كان زوجان يهوديان يزوران بعض الأصدقاء العرب في إحدى قرى الضفة الغربية شاهدا أفرادًا من مجموعة ترتدي ملابس مدنية يطلقون النار على شباب عرب ملثمين كانوا يكتبون شعارات على الجدران. اعتقد الزوجان في البداية أن الأمر صراع بين فلسطينيين لكن اتضح فيما بعد أن الأفراد المسلحين كانوا أعضاء في القوات السرية الإسرائيلية يرتدون ملابس مدنية، وبحسب ما قالت الزوجة: "كان الأمر صدمة. لم تصدر إلى الشباب أية أوامر بالتوقف، ولم يكن هناك طلقات تحذيرية، بل أطلقوا النار عليهم بكل بساطة ومن مسافة قريبة"، أي أنها مذهولة من الوحشية التي رأتها[9].

يتضح أن المستعرب لا يُمنع من استخدام أي وسيلة تمثيل وتنكر حتى يحقق الهدف من عمليته، فالمستعربون يستخدمون أي نوع من المركبات العادية التي تحمل لوحات فلسطينية لأغراضهم الاستخبارية ومثال على وسيلة التنكر هذه هو وصول عدد من المستعربين إلى سلفيت بسيارة تحمل اسم محطة (إي بي سي) للإيحاء بأنها محطة تلفزيونية، بداخلها مجموعة يمثلون على أنهم صحفيون. نزل المستعربون من السيارة يحملون الكاميرات وقاموا بعمل مقابلة مع شاب فلسطيني وفور إنهاء المقابلة باشروا باعتقاله لاشتباههم فيه بأنه يلقي الزجاج الحارق على جيش الاحتلال[10].

كان المستعربون، وما زالوا، يتنكرون بطرق شتى من أجل إتمام مهامهم وتنفيذ عنفهم، فقد تنكّروا على أنهم صحفيون مرات عديدة، كذلك تظاهر عدد من الجنود في فترات التسعينيات بأنهم سياح، وفي عدة مناسبات كانوا يتظاهرون بأنهم يهزون رضيعًا ليتبين لاحقًا أنه سلاح، كما تظاهروا بأنهم موظفون في "الأونروا" (وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين)، بغية التسلل إلى مخيمات اللاجئين، وقد اعترف أحد المستعربين بأنهم كانوا يذهبون إلى أماكن مقنّعين تمامًا ويتظاهرون بأنهم أعضاء في منظمات فلسطينية فيرمون الحجارة على الجنود ويشاركون في أعمال المقاومة الفلسطينية من أجل التجسس على الشباب[11].

من الأمثلة كذلك على عمليات المستعربين، عملية عام 1988، حيث توقفت سيارة أمام محل لبيع اللحوم لعائلة الكردي في مدينة غزة، كان ركاب السيارة جنود إسرائيليون يتنكرون في أزياء مدنية ويتلثمون بالكوفيات وعملوا على اقتحام المحل وبدأوا بضرب العاملين من العائلة ولكمهم بأرجلهم وبعدها بدأ المستعربون المسلحون بإطلاق النار على الأفراد بشكل عشوائي فقتل 3 فلسطينيين من عائلة الكرد وجرت مساندة المستعربين فورًا بمجموعة كبيرة من الجنود العسكريين[12].

عدد كبير من عمليات المستعربين قاموا بها وهم يرتدون الأزياء المدنية وذلك وفقًا لما أشار إليه تقرير "بتسيلم" (مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة)، عن مقتل عدد كبير من الشبان الفلسطينيين في الخليل وغيرها من المناطق الفلسطينية عام 1988 و1992 على يد الوحدات الخاصة التي تتخفى بالزي المدني[13].

استخدم المستعربون وسائل النقل حتى يصلوا إلى المكان المُراد تنفيذ عملياتهم فيه عبر سيارات تحمل اللوحات الخاصة بالضفة الغربية أو قطاع غزة، كما استخدموا سيارات سبق وصودرت من أصحابها في المنطقة لأنها مألوفة للسكان المحليين، وتستعمل قوات المستعربين الشاحنات في كثير من الأحيان من أجل نقل الأعداد الكبيرة من القوات السرية ونقل القتلى والجرحى، تهدف أدوات التخفي هذه إلى طمس الفارق بين اليهودي والعربي، فتلجأ القوات السرية إلى ارتداء الأزياء التنكرية المحلية المدنية، وقد يستخدم الجنود، إن تطلبت المهمة، الشعر الاصطناعي والثياب الفضفاضة لإخفاء الأسلحة، وحتى العكازات المزيفة[14].

في الأشهر الأولى من سنة 1991 قُتل سبعة فلسطينيين على يد المستعربين، وفي الأشهر الأولى من عام 1992 قُتل سبعة عشر فلسطينيًا على يد فرق الموت السرية (وحدات المستعربين)، وذلك فضلاً عن الأعداد الكبيرة من الفلسطينيين الذين قُتلوا على يد الجنود الإسرائيليين غير المتنكرين، هنا لعبت "إسرائيل" دورًا واضحًا في تنفيذ أعمال قتل خارجة عن القانون (هنا نستطيع العودة إلى حالة الإستثناء عند جويجيو أغامبين)[15] بهدف تقليص المواجهة مع الجيش والاشتباكات العلنية مع الأهالي. تقليص عدد التظاهرات ضد الاحتلال الصهيوني، حل مشكلة التغطية الصحافية والدعاية السيئة وهو الأهم من وجهة نظر المؤسسة الأمنية الصهيونية في سعيها وهدفها الأول لقمع الانتفاضة[16].

يتضح من تلك العمليات التركيز على استخدام المستعربين في الانتفاضة الأولى من أجل إرباك المجتمع الفلسطيني من خلال تفريق مظاهراته وجعله في صدمة متكررة من خلال تنفيذ المستعربين لمهماتهم التي شملت على ممارسة التنكر والاختراق والمفاجأة واستخدام العنف بأي وسيلة من خلال مقدرة المستعربين على التنكر ووضع أنفسهم في حالة لا يقدر فيها الفلسطيني على تمييزهم وكشفهم من أجل أن ينجح المستعرب فيما بعد بنشر الفوضى ثم الانسحاب[17]، حيث يُسمح للمستعرب بإحداث أكبر قدر من العنف والفوضى في إطلاق النار العشوائي وهو ما يميز وحدات المستعربين في استخدام أعلى درجات العنف بغية تحقيق غايات الدولة المُستعمرة، حيث إن التنكر هو مفتاح الاختراق ومقدمة العنف الذي يسعى في النهاية إلى تحقيق أهداف المستعمرين داخل حيز المستعمَر من خلال إرباكه وإدخاله في حالات صدمة مستمرة ومتكررة من أجل ضبط الفلسطينيين بإعتبارهم أداة مناهضة للاستعمار، إذ يُعتبر الاستعراب أساسيًا في فرض السيطرة على الفلسطينيين، واستنادًا إلى ما قُدّم من وثائق من مركز معلومات حقوق الإنسان فإنه استشهد 847 فلسطينيًّا بالرصاص الإسرائيلي فقط في الأعوام الأربعة الأولى من الانتفاضة، من بينهم 74 استشهدوا على يد عناصر القوات السرية الاستعرابية وهم يرتدون ملابس مدنية[18].

 التطور في دور المستعربين بين اتفاقية أوسلو والانتفاضة الفلسطينية الثانية:

تراجع دور المستعربين بعض الشيء بعد اتفاقية أوسلو1993، فقد غيرت أوسلو شكل السيطرة الإسرائيلية على بعض المناطق الفلسطينية إذ تسيطر "إسرائيل" على الدور الأمني والاقتصادي للسلطة الفلسطينية، وتراقبه، وتفرض سيطرة كاملة على الفلسطينيين مع تعزيز العقوبات والتحكم من خلال فرض الحواجز والاعتقالات والتوسع الاستيطاني. في هذ الفترة كان يوجد تراجع في كثافة استخدام المستعربين، لكن هذا لا يعني الاستغناء عنهم، فالسلطات الإسرائيلية حتى تحقق أمنها تحتاج إلى تنفيذ عمليات سرية في المناطق التي انسحبت منها عسكريًا؛ يُنفذها المستعربون بالتأكيد، وهذا دليل على أن المستعرب يشكل جزءًا أساسيًا من بنية الاستعمار الاستيطاني الصهيوني[19].

تراجع حدة المقاومة الفلسطينية أدى كذلك إلى التراجع في استخدام المستعربين، ومع دخول أوسلو استمر عمل المستعربين في تصفية واعتقال المطلوبين، أما الكثافة الكبيرة لعمل المستعربين فكانت مع بداية الانتفاضة الثانية عام 2000[20].

لكن مع بداية الانتفاضة الانتفاضة الثانية جرى تعزيز عمل المستعربين وذلك تعبيرًا عن حاجة الدولة المُستعمِرة لهم من أجل إحكام السيطرة على الفلسطينيين وممارسة سياسة الإقصاء والضبط، فقد كانت وحدات المستعربين مُسبقًا عبارة عن وحدتين "الدوفدفان" و"شمشون"[21]، لكن مع دخول الانتفاضة الفلسطينية الثانية أضيفت وحدات أخرى من المستعربين وهي "اليماس"العاملة في الضفة والتابعة لحرس الحدود، و"يماس الجنوب" وتعمل على الحدود المصرية وغزة، و"يماس القدس" والعاملة في شرقي القدس وتابعة لحرس الحدود، و"جدعونيم" تنشط في شرقي القدس والشمال لمكافحة المقاومة الفلسطينية وفقًا للرواية الصهيونية وكذلك وحدة "اليمام"[22].

اندلعت الانتفاضة الثانية بعد انهيار المحادثات في كامب ديفد واستشهاد 7 فلسطينيين أثناء مقاومتهم اقتحام شارون للمسجد الأقصى، فقد أثرت تلك الحادثة على الفلسطينيين، الأمر الذي أشعل المقاومة الفلسطينية، في المقابل استخدمت "إسرائيل" أقصى وسائل القمع لضبط الفلسطينيينعن طريق استخدامها القصف الجوي والمدفعي للإطاحة بشخصيات بارزة في الانتفاضة، حيث استشهد خلال الانتفاضة الثانية أكثر من 4412 فلسطينيًا بالإضافة إلى أكثر من 48 ألف جريحًا.

جرى استخدام المستعربين، استخدامًا مكثّفًا خلال الانتفاضة الثانية (انتفاضة الأقصى)، من أجل زعزعة التماسك الفلسطيني المقاوم والسعي لإقصاء المستعمَر الأصلاني بأي طريقة.

تسعى المؤسسة الأمنية الصهيونية في إبراز أهمية العنصر المستعرب في داخل بنية المنظومة الصهيونية بكونه أداة ضبط وسيطرة، والدليل على ذلك هو أن في الفترة ما بين 2000- 2009 جرى تكريم 100 شخص، من بين المئة حصل 30 مستعربًا على وسام تكريمي على دورهم في ممارسة العنف على الفلسطينيين، والقيام بعمليات قتل لشخصيات فلسطينية نفذها مستعربون يتنكرون باللباس المدني ويركبون سيارات ذات لوحات فلسطينية.

من أمثلة التكريم هذه، ضابط مستعرب كرم بوصفه شجاعًا ومبادرًا ومميزًا في عمله بعد عمليته. هو ومستعربين آخرين عام 2004 التي تمكنوا فيها من قتل 5 شبان فلسطينيين مطلوبين بعد أن لاحقوهم في جنين وأطلقوا الرصاص عليهم وصادروا ما معهم من أسلحة. تلك العملية بطولية من وجهة النظر الصهيونية والتي تسعى إلى تعزيز مكانة المستعرب في مشهد وبنية الإقصاء الممنهج من قبل الاستعمار الاستيطاني الصهيوني، وتبين فيما بعد أن السيارات كانت مدنية وأصحابها يرتدون الزي المدني إذ تشكل هذه العملية مفتاحًا لفهم دور المستعربين الكثيف والكبير في الانتفاضة الثانية[23]. يعكس ذلك حاجة الاستعمار المستمرة في إنتاج المستعربين من أجل سعيهم المستمر على إقصاء الفلسطيني وضبطه.

سياسة القتل هذه التي يقوم بها المستعربون، والتي تعدّ الفلسطينيين "أعداء الدولة والقانون والنظام"، تجري دون اللجوء إلى القانون، وتخفي وقائع تلك العمليات التي تطال الأفراد والجماعات. تجب الإشارة إلى أنه في عام 1989 وافقت الجمعية العامة للأمم المتحدة على المبادئ التي تقضي بالمنع الفعلي لحوادث القتل خارج القانون، والتحقيق فيها، وينبغي، بموجب ذلك، امتناع الحكومات عن جميع عمليات القتل خارج القانون، مما يعني أن تنفيذ عمليات كهذه هو عبارة عن جرائم يتم المعاقبة عليها من جانب القوانين الجنائية[24].

خاتمة:

حاول هذا النص عرض الكثافة  في استخدام المستعربين خلال الانتفاضة الفلسطينية الأولى من خلال استخدام المؤسسة الأمنية الصهيونية المستعربين أداة في مواجهة المقاومة الفلسطينية باستخدامهم كافة أدوات العنف والإقصاء للقدرة على ضبط الفلسطينيين، كذلك بيان كيفية ازدياد حاجة الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي إلى المستعربين في الانتفاضة الثانية من خلال تعزيز عمل المستعربين وذلك تعبيرًا عن حاجة الدولة لهم من أجل إحكام السيطرة على الفلسطينيين وممارسة سياسة الإقصاء والضبط وذلك عن طريق تشكيل عدد أكبر من وحدات المستعربين التي تم توزيعها على كافة أنحاء فلسطين للقيام بالمهام الموكلة إليهم.

حاول النص كذلك فهم ظاهرة المستعربين التي لا يمكن أن تكون بمنحى عن فهم تاريخ وبنية الاستعمار الاستيطاني الصهيوني في فلسطين؛ من خلال فهم معنى العنف المُمارس من قبل المستعربين الذين يتم استخدامهم من قبل المؤسسة الأمنية الصهيونية من أجل فرض السيطرة على الفلسطينيين والعمل على إخضاعهم وجعلهم في خوف دائم، حيث تكمن مكانة الاستعراب في المشروع الصهيوني بأنه أداة سيطرة وإقصاء.

وجرى التعريف بالمستعربين من خلال إبراز تقنيات المستعرب المتمثلة بإستخدام التنكر والتمثيل والفوضى، وفي النهاية الهدف الحقيقي هو ضبط الفلسطيني ومحاولة إقصائه ونفيه وتعزيز العنف عليه بكافة الصور والأدوات المتاحة لتحقيق وتعزيز استيطان الصهيوني واستعماره لفلسطين، وتبين بالدراسة أنّ الاستعراب مقترن بشكل عملي ومباشر بعملية المحو والنفي للفلسطيني الذي ما يزال يُقاوم حتى يتمكن من دحر هذه المنظومة الاستعمارية.

 

قائمة المراجع:

أبو عشمة، عادل. الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في الضفة الغربية وقطاع غزة قبل وأثناء الانتفاضة. ط1، نابلس: جامعة النجاح الوطنية،1989.

الأغواني، أحمد ، "الصهيونية وعنف الفوضى: الاستشراق، الاستعمار الاستيطاني والمستعربين"، رسالة ماجستير، برنامج الدراسات الإسرائيلية في جامعة بيرزيت، 2018.

جورجيو أغامبين، "حالة الاستثناء الإنسان الحرام"، ترجمة ناصر إسماعيل (بيروت: مدارات للأبحاث والنشر،2015).

حبش، لورد وغادة المدبوح، "استثناء الاستثناء التعليم العاري في السياق الاستعماري في فلسطين"(مجلة عمران للعلوم الاجتماعية والإنسانية.العدد9، 2020)، ص92.

حميدان، زياد، اللاجئون سلاح جيو إستراتيجي، موقع مركز دراسات الوحدة العربية، https://bit.ly/36mHFsI

زريق، إيليا وأنيتا فيتولو. الحصاد الدامي لفرق الموت الإسرائيلية، مجلة الدراسات الفلسطينية، المجلد3، العدد10. ربيع1992.

 شالييف، أرييه. الانتفاضة:أسباب-خصائص-انعكاسات، ترجمة عليان الهندي. القدس: جمعية الدرسات العربية، 1993.

منصور، جوني، المستعربون: البدايات والجرائم، كيف أعدوا المستعرب وما هي مهماته؟ (قضايا إسرائيلية: مجلد4، عدد15، 2004). ص7.

تقرير بتسلم (مركز المعلومات الاسرائيلي لحقوق الانسان في الأراضي المحتلة): عمليات الوحدات الخاصة في المناطق، פעילות היחידות המיוחדות בשטחים ירושלים בצלם.

https://shababtafahom.om/post/1736/  

 

לוי,שי. לוחמי הצללים: 10 דברים שלא ידעתם על המסתערבים. ليفي، شاي.10 أشياء لا تعرفونها عن المستعربين.18-11-2015.

http://www.mako.co.il/pzm-magazine/Article-5da80c044b91151006.htm

 

 [1] إيليا زريق وأنيتا فيتولو، الحصاد الدامي لفرق الموت الإسرائيلية، (مجلة الدراسات الفلسطينية،المجلد3،العدد10.ربيع1992)، ص6.

 [2] عادل أبو عشمة، الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في الضفة الغربية وقطاع غزة قبل وأثناء الانتفاضة.ط1، نابلس: جامعة النجاح الوطنية، 1989، ص117.

 [3] أرييه شاليف، الانتفاضة: أسباب-خصائص-انعكاسات، ترجمة عليان الهندي، (القدس: جمعية الدرسات العربية، 1993)، ص33.

 [4] المصدر السابق، ص90.

 [5] إيليا زريق،مرجع سبق ذكره، ص10.

 [6] عمر موسى، عماد عقل.. الفلسطيني الملثم الذي أجبر إسحق رابين على وصفه بـالأسطورة،8-2-2019. https://www.sasapost.com/the-story-of-emad-aqel/

[7] محمد الليثي، المستعبرون: كيف يتخفى الإسرائيليون بين الفلسطينيين، مركز الإنذار المبكر، https://ewc-center.com/2021/05/20/المستعربون-كيف-يتخفى-الإسرائيليون-بين-الفلسطينيين؟/

 [8] إيليا زريق وأنيتا فيتولو، مرجع سبق ذكره، ص1.

 [9] المرجع السابق، ص2.

 [10] تقرير بتسلم (مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة): عمليات الوحدات الخاصة في المناطق، פעילות היחידות המיוחדות בשטחים ירושלים בצלם.

 [11] إيليا زريق وأنيتا فيتولو، مرجع سبق ذكره،ص10.

 [12] المرجع السابق.ص1.

 [13] تقرير بتسلم،مرجع سبق ذكره.

 [14] إيليا زريق وأنيتا فيتولو، مرجع سبق ذكره، ص10.

[15]. وفقًا لتحليل لجورجيو أغامبين الذي تحدث عن مفهوم "حالة الاستثناء" خلال مشروعه الفكري الضخم في كتابه (الكائن المستباح السلطة السيادية والحياة العارية)، فإن كل المواطنين في العصر الحديث يظهرون افتراضيًا منبوذين ومستباحين داخل حالة من الخطر السياسي. يهتم عمل أغامبين بالعلاقة السياسية الحياتية بين الحياة ضمن المجتمع (من يجب أن يعيش) والحياة التي يجب عزلها عن المجتمع (من يجب أن يموت)وبالاستعانة بمفهوم حالة الاستثناء عند أغامبين، يتضح أن تلك الحالة تقوم فيها السلطة الحاكمة (الاستعمار الصهيوني) بصفتها صاحبة السيادة بتعليق القانون لفترة ما لأسباب ظرفية واستثنائية، بحيث ينتج هذا التعليق للسلطة إمكانية ممارسة سلطتها من غير رقابة قانونية لتقوم بتوسيع حدود سلطتها وتغييرها بما يتماشى مع خططها الأمنية، ففي حين يعمل القانون على تضييق العديد من الوسائل، تقوم الدولة المستعمرة في حالات المقاومة والتمرد بتعليق القانون، **، كذلك حالة العري وفقًا لأغامبين هي حالة إسقاط صفة الحماية عن المواطن، فأصبح من الممكن قتل المواطن دون محاسبة قانونية ***، والفلسطيني يعيش في محيط جغرافي تتغير حدوده على واقع الأرض وفقًا لغايات المستعمِر وأهدافه وفي صراع السياسات المسموحة والممنوعة، وقانونيًا لا يعلم إذا ما كان هو معاقب ولماذا هو معاقب، فتتحول حياة الفلسطيني المُحاصر إلى ما يُمكن أن نطلق عليه الحياة العارية دون حماية أو حقوق سياسية وقانونية وممكن مصادرة حياته دون مساءلة قضائية للقاتل وهذا مماثل لحالة المستعربين في ممارسة عنفهم على الفلسطينيين.

* زياد حميدان، اللاجئون سلاح جيو إستراتيجي (مدونة أدبية وسوسيولوجية، 2018).

** لورد حبش وغادة المدبوح، "استثناء الاستثناء التعليم العاري في السياق الاستعماري في فلسطين"(مجلة عمران للعلوم الاجتماعية والإنسانية.العدد9، 2020)، ص92.

*** جورجيو أغامبين، "حالة الاستثناء الإنسان الحرام"، ترجمة ناصر إسماعيل(بيروت: مدارات للأبحاث والنشر،2015)، ص192.

 [16] المرجع السابق. ص3.

 [17] جوني منصور، المستعربون: البدايات والجرائم، كيف أعدوا المستعرب وما هي مهماته؟ (قضايا اسرائيلية: مجلد4، عدد15، 2004). ص7.

 [18] إيليا زريق وأنيتا فيتولو، مرجع سبق ذكره، ص3.  

 [19] يُشير بشكل عام مفهوم الاستعمار الاستيطاني إلى سيطرة دولة قوية على دولة ضعيفة وبسط نفوذها من أجل نهب واستغلال خيراتها ومواردها الطبيعية والبشرية، فضلًا عن تحطيم كرامة الشعب المستعمَر وتدمير تراثه وثقافته وفرض ثقافة المستعمِر عليها، والاستعمار الاستيطاني يُعتبر التوصيف الأقرب للاستعمار الصهيوني في فلسطين وهو جريمة وانتهاك لحقوق الإنسان وممارسة سياسات عنصرية على الفلسطينيين، يتضمن تلك السياسات عمليات إبادة ومحاولات محو للمجتمع الأصلاني (الفلسطيني). (مجدي المالكي وحسن لدادوة، "تحولات المجتمع الفلسطيني منذ سنة 1948 جدلية الفقدان وتحديات البقاء"، مؤسسة الدراسات الفلسطينية.2018).

 [20] أحمد الأغواني، "الصهيونية وعنف الفوضى: الاستشراق، الاستعمار الاستيطاني والمستعربين"، رسالة ماجستير، برنامج الدراسات الإسرائيلية في جامعة بيرزيت، 2018، ص130.

 [21] שי לוי، مرجع سبق ذكره.

 [22] المرجع السابق.

 [23] أحمد الأغواني، مرجع سبق ذكره.ص135.

 [24] ايليا زريق وأنيتا فيتولو، مرجع سبق ذكره، ص21.