عدم الاستقرار في الساحة السياسية الصهيونية، وانعكاسه على القضية الفلسطينية
عماد أبو عواد
13-01-2021
ورقة تحليلية:
عدم الاستقرار في الساحة السياسية الصهيونية، وانعكاسه على القضية الفلسطينية
عماد أبو عوّاد\ محلل الشؤون "الإسرائيلية" في مركز القدس
مقدمة
بالرغم من تشكيل حكومة صهيونية، بعد الانتخابات الثالثة والتي جرت في آذار 2020، وجمعت حزب الليكود وتحالفه من الحريديم مع حزب "أزرق أبيض" وحليفيه العمل و"طريق البلاد"، كان واضحًا بأنّ هذه الحكومة لن تعمّر طويلاً، وأنّ هدف نتنياهو منها الانتقال إلى خوض انتخابات رابعة في وضعية مريحة أكثر.
تشكيل الحكومة كان على حساب بعثرة التحالفات الداخلية من جديد، فبعد أن مثّل حزب "أزرق أبيض"، (الذي حمل صفة المركز وتحالف مع اليسار كحزبي ميرتس والعمل)، بديلاً عن التوجهات اليمينية لنتنياهو وتحالفه.. جاءت خطوة جانتس غير المفاجئة، بإعلانه الانضمام لحكومة نتنياهو، ضربة قاصمة لوضوح الاصطفافات الداخلية، الأمر الذي أعاد الشرذمة الداخلية، إلى واقعِ يفوق سوءًا الذي سبقه.
فمع بقاء المظهر الخارجي للتكتلات تحت مظلتين، الأولى "لا نريد نتنياهو"، والثانية "نتنياهو بأي ثمن"، فإنّ الانقسام الجديد انزاح إلى اليمين أكثر بشكل كبير، بين يمين متطرف ومعتدل، وكذلك يمين براجماتي، الأمر الذي حوّل اتجاه الصراع إلى صراعٍ يميني داخلي؛ ستكون له انعكاسات كبيرة داخليًّا، وكذلك في التعاطي مع الملف الفلسطيني تحديدًا.
منحنيات التغيير في الساحة الصهيونية
الناظر إلى الساحة الصهيونية، يلاحظ التغيرات المتسارعة في السنوات الثلاث الأخيرة، لتشتد أكثر في العام 2020، من حيث الترتيبات الداخلية للاصطفافات المُختلفة، واندثار أيديولوجيات تاريخية، وظهور أخرى. ورغم أنّ ظاهر هذه التغييرات والمُنحنيات بغالبيتها داخلي، فإنّ تلك المُتغيرات على عناوينها المُختلفة سيكون لها انعكاسات كبيرة على الساحة الفلسطينية.
اعتادت الساحة الصهيونية ومنذ تأسيس الكيان على وجود تيارين أساسيين، (اليمين واليسار)، وإن كان أصل التسمية يعود إلى الخلافات الاقتصادية بينهما، لكن مع مرور الوقت تبنى كلّ طرف رؤى خاصة فيما يتعلق بطريقة الحكم، والنظرة إلى المؤسسات القائمة، كمحكمة العدل العليا، أو علاقة الدين بالدولة.
خلال الأعوام الأخيرة ومع سيطرة اليمين الصهيوني بزعامة نتنياهو على المشهد، وتآكل حزب العمل التاريخي المُمثل أو الحامل لتسمية اليسار، بات التقسيم الأكثر شيوعًا في الساحة الداخلية الصهيونية ما بين يمين، ومركز- يسار، فقد عُدّت الأحزاب، الليكود وأحزاب الحريديم والصهيونية الدينية، وكذلك حزب "إسرائيل بيتنا" بزعامة ليبرمان على أنّها يمين، فيما عُدّ حزب "أزرق أبيض"، وحلفاؤه، على أنّها أحزاب مركز، لتبقى ميرتس وحدها مُمثلاً لليسار التاريخي.
هذه التقسيمة استمرت وصمدت خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة، لتشهد تغيّرًا كبيرًا خلال العام 2020، وتحديدًا مع نهاية هذا العام، لتُصبح أحزاب اليمين هي السمة الأبرز والأكثر تأثيرًا، وباتت المُفاضلة بينها داخلية، فقد تحول الصراع بوضوح إلى يمين- يمين، في انزياح كبير، وانعطافة جعلت من الساحة السياسية تحمل تقسيمًا جديدًا، بين تيارات يمينية مختلفة، في ظل وجود بواقي يسارية متمثلة بحزب ميرتس، وانسحاق لحزب العمل، وتآكل للمركز.
وفق الحُصص الانتخابية، ووفق استطلاعات الرأي، نجد أنّ أحزاب اليمين المُختلفة، تحصل على ما يزيد على 80 مقعدًا، في أي انتخابات قادمة، وذلك على النحو التالي: الليكود 30 مقعدًا، و"أمل جديد" بزعامة ساعر 18 مقعدًا، والحريديم بحزبيهم شاس ويهدوت هتورا 16 مقعدًا، وحزب يمينا بزعامة نفتالي بنت 12 مقعدًا، وحزب ليبرمان "إسرائيل بيتنا" 6 مقاعد[1].
وهذا يعني (إذا ما استُثنيت القائمة العربية التي تحصل على 11 مقعدًا)، أنّه وللمرة الأولى في التاريخ، سيُسيطر اليمين على ما يزيد على 75% من مقاعد الكنيست، الأمر الذي سيزيد من التنافس اليميني الداخلي، ويُثبت البرامج ما بين يمينية وأكثر يمينية، في انتظار صراعات داخلية في ملفات، وربما حسم ملفات أخرى.
أهم المُتغيرات على الساحة الصهيونية هي تلك التي ارتبطت بتعمّق الفجوات الداخلية، وكذلك ازدياد حجم الكراهية الداخلي، فمنذ تأسيسها؛ كانت "إسرائيل" في مواجهة تحديات الاختلافات الداخلية، التي قادت مع الزمن (إلى جانب الانقسام القومي ما بين يهود وعرب)، إلى ظهور فجوات اليمين واليسار، المتدين والعلماني، الشرقي والغربي، وغيرها من الفجوات.
اليوم يعيش المجتمع الصهيوني ذروة التناقض بين هذه المكونات، الأمر الذي دفعها نحو الانكماش نحو الداخل ومهاجمة الآخر، ورغم وجود تكتلين في المرحلة الحالية، "تكتل نتنياهو" و"تكتل لا لنتنياهو"، فإنّ داخل كلّ تكتل من التناقضات والفجوات ما يجعل الالتقاء بين تلك المكونات، أمرًا أقرب إلى الاستحالة، ومؤقتًا، في حال حصوله.
يصف موشيه جورلي ما يحدث في "إسرائيل" اليوم على أنّه الأكثر فرادة من نوعه، فلم يكن في تاريخها رئيس وزراء بهذا الشكل، استطاع أن يُقسم المجتمع "الإسرائيلي" إلى جمهورين، جمهور داعم له، وجمهور آخر يحمل له كلّ الكراهية، واصفًا نتنياهو بأنّه يُشكل ذروة الانقسام في المجتمع، بعد أن جعل كافة المؤسسات بما في ذلك القضائية محط خلاف[2].
وبالنظر إلى منظومتها الداخلية فإنّ "إسرائيل" باتت تعيش حالة الانقسام الأكبر حيال القضايا الأساسية، الدين والقضاء، ومن هو صاحب السيادة. ففي الوقت الذي باتت فيه الأحزاب الحريدية مركز ابتزاز لمن يريد الحكم، بفعل كونها بيضة القبان واستطاعتها تمرير الكثير من القوانين التي تخدم الدين، فإنّ ذلك ساهم بوجود ردّة فعل رافضة للوضع الذي كان قائمًا فيما يخص العلاقة بين الدولة والحريديم.
ما زاد من حدّة الانقسام الحاصل، وضعية بنيامين نتنياهو الذي يعاني من وجود ثلاث لوائح اتهام، وفعليًّا ستبدأ محاكمته قريبًا، وأمام رغبته الجامحة بالاستمرار والتملّص من المحاكمة، فقد تنازل للحريديم بشكل كبير، الأمر الذي زاد من حدّة التناقض بينهم وبين العلمانيين، الأمر الذي دفع إفيجدور ليبرمان للمطالبة بإزاحة نتنياهو والحريديم، بعد أن كان ليبرمان حليفًا لهم في عدة حكومات.
يُضاف إلى ذلك رغبة اليمين الأيديولوجي في القضاء على دور المحكمة العليا، والتي مثلت عبر عقود طويلة بيضة القبان ما بين السلطة التنفيذية والتشريعية، خاصة في ظل غياب دستور ينظم الحياة في "إسرائيل"، فقد رفع اليمين شعار الشعب هو الحكم، وهو يريد بذلك تمرير الرؤى الخاصة به فيما يتعلق بالنظام الداخلي، الأمر الذي سيعني التصادم مع مكونات المركز واليسار، وفرض نمط حياة ديني، خاصة أنّ المتدينين هم بيضة القبان في الحكومة.
وربما يُمكن فهم سياق الاختلاف والتنافر بين مكونات المجتمع الصهيوني حول قضية هوية الدولة، ما بين يهودية وديمقراطية، في الوقت الذي تُشير المُعطيات إلى ارتفاع التوجه نحو العنف بين مكوناته، فقد كشف استطلاع لجامعة بار إيلان وكيرن منومدين، عن المُعطيات التالية[3]:
قد يكون الاختلاف في التوجه الفكري ونمط الحياة، أمرًا طبيعيًّا في أي منظومة أو دولة، لكنّه وصل في الحالة "الإسرائيلية" إلى مرحلة التنافر وإنكار الآخر، حتى وصلت "إسرائيل" من الناحية الجغرافية، إلى ما يُعرف بالدول الثلاث، "إسرائيل" الدولة، دولة تل ابيب التي تقطنها غالبية تنتمي للمركز واليسار، ودولة المستوطنين التي يغلب على سكانها الانتماء للتيار الديني الأرثودوكسي[4]، بنسبة تزيد على 67%[5].
دأب الحريديم منذ تأسيس أحزابهم، شاس في العام 1984، ويهدوت هتوراة في العام 1992، على جعل هدف التعاطي مع المنظومة السياسية هو تحقيق المكاسب الخاصة بالحريديم، دون إبداء توجهات سياسية معينة، بل ارتكز اهتمامهم على تطبيق رؤيتهم الدينية فيما يتعلق بالمعاملات الاجتماعية، وإرغام الدولة على إقرار قوانين مرتبطة بإعفاء شبابهم من المشاركة في التجنيد الإجباري المفروض في "إسرائيل".
فحزب شاس على سبيل المثال والذي دعم اتفاق أوسلو مع الفلسطينيين من خلال امتناعه عن التصويت، يُصنف أبناؤه اليوم على أنّهم الأكثر يمينية، وباتت قياداته تُعبّر عن توجهات سياسية ذات صلة بالصراع، مؤكدة رؤيتها اليمينية، وقد تجلى ذلك بوضوح عندما طالبت شاس في غير مرة بضرورة فرض السيادة الصهيونية على المستوطنات في الضفة الغربية[6]، في ما يُعرف بعملية الضم، قبل مغادرة ترامب للبيت الأيض.
دخول الحريديم وتحديدًا شاس الحلبة السياسية بمنطلقات يمينية أيديولوجية، ستكون له انعكاسات بجعل المُحددات السياسية في "إسرائيل"، ليست محط خلاف بين غالبية الجمهور وكذلك الشرائح السياسية، فالتركيز سيكون على الاختلافات والخلافات الداخلية، فيما يتعلق بالاقتصاد، والدين والدولة.
كان لجائحة الكورونا انعكاسات اقتصادية واجتماعية، الأمر الذي قاد إلى إحداث تغييرات طبقية، رفعت فئات اجتماعية دون أخرى، وزادت مساحة الفقر والطبقات المتضررة، جراء الإغلاقات المتكررة، مما سيكون له انعكاسات كبيرة على التوجهات السياسية الداخلية والخارجية.
وفق استطلاع رأي موجه، كشف 42% من "الإسرائيليين" أنّ وضعهم الاقتصادي ازداد سوءًا خلال أزمة الكورونا، و47% اعتقدوا بأنّهم لن يستطيعوا تغطية مصاريفهم، و15% أشاروا إلى قيامهم بتقليص مصروفاتهم على المأكولات، و12% استعانوا بعامل خارجي من أجل مساعدتهم في تغطية مصروفاتهم[7].
هذا يُضاف إلى ارتفاع نسبة البطالة في "إسرائيل"، فبعد أن كانت لا تتجاوز حدود 4%، وهي من أقل النسب في العالم، ارتفعت بسبب الكورونا إلى نحو 25%[8]، واتضح أنّ النسب الأعلى من بين طالبي العمل هي في المناطق الحريدية، وكذلك قُرب الفلسطينيين في الداخل المُحتل.
انعكاسات تلك التغييرات على القضية الفلسطينية
للوهلة الأولى، وفي ظل أنّ غالبية تلك المُتغيّرات مرتبطة بالساحة الداخلية الصهيونية، قد لا يبدو لذلك الكثير من الانعكاسات على الواقع الفلسطيني، لكن بنظرة معمّقة فإنّ تلك الانقسامات ستنعكس بشكل كبير على الفلسطينيين، في ظل الارتباط الكبير لكلّ متغير على الواقع المُعاش هنا، وكذلك التأثير العكسي للمتغيرات في الساحة الفلسطينية على "إسرائيل".
الخلافات الداخلية الصهيونية، همشت حضور القضية الفلسطينية في برامج الأحزاب الصهيونية، التي بات خطابها يتراوح ما بين تجاهل الموضوع الفلسطيني برمّته، أو جعله في ذيل برامجها الانتخابية، وربما يأتي ذلك تماشيًا مع توجهات الجمهور الصهيوني، الذي يعطي الأولوية للواقع الاقتصادي والفجوات الداخلية[9].
حتى أنّ بيني جانتس الذي عوّلت السلطة على أنّ مجيئه سيُعيد لعملية السلام بريقها، أكدّ بأنّ حل الدولتين بنسخته المعهودة غير وارد، وبأنّ المستوطنات جزء لا يتجزأ من "إسرائيل"، وهذا ما تبعه عليه خولدائي مؤسس حزب "إسرائيليون"، المحسوب على يسار المركز الصهيوني.
الواقع الداخلي أزاح عين المستوطن الصهيوني عن التفكير كثيرًا بالأبعاد السياسية المرتبطة بالقضية الفلسطينية لصالح مشاكله المرتبطة بالأمن، والاقتصاد والديمقراطية، وهذا يعني خلال الفترة المقبلة على الأقل، استحالة وجود تيار "إسرائيلي" مُستعد للعودة إلى تفاهمات دولته مع الفلسطينيين، الأمر الذي سيعني بالضرورة الانزلاق نحو التسليم بالأمر الواقع، والمزيد من استنزاف الوقت، وتثبيت ركائز الاستيطان في الضفة.
في ظل احتدام الصراع الداخلي الصهيوني على قضايا الدين والدولة، وفي ظل حقيقة أنّ رؤية اليمين السياسية هي ذات الثقل الأكبر، بحصولها على ما يزيد على ثلثي مقاعد الكنيست، فإنّ ذلك سيؤسس لمرحلة استيطانية جديدة، تضمن إجماعاً صهيونيًّا ليس فقط على مجرد بناء وحدات استيطانية جديدة أو على الدعم الموجه للمستوطنين من أجل مصادرة أراضي الفلسطينيين، وتثبيت بؤرٍ استيطانية عليها، بل وعلى الذهاب في اتجاه شرعنة تلك المستوطنات، وتحويل البؤر الاستيطانية إلى مستوطنات قانونية وفق رؤية اليمين.
حُلم تشريع البؤر الاستيطانية لا زال يراود أتباع الصهيونية الدينية، وأطياف واسعة من الليكود، حتى أنّ عوفر شليخ في تصريحٍ له بعد انشقاقه عن حزب "يوجد مستقبل" بزعامة يائير لبيد، أشار إلى أنّ الأخير فكّر بدعم الضم، لولا أنّه (أي شليخ) كبح جماحه، وهذا يؤكد بأنّ الاستيطان لم يعد محلّ خلاف، وقد يكون نتنياهو هو آخر من يكبح جماح التوجه السريع لليمين الأيديولوجي بهذا الاتجاه.
ويُمكن فهم معادلة التوجه اليميني من خلال قراءة الأرقام ذات الصلة بالبناء في المستوطنات، فمع أنّ مسيرة بناء الوحدات الاستيطانية في الضفة، بقيت حتى العام 2019 ضمن ذات السياق الذي يتراوح بين 1800 إلى 2000 وحدة استيطانية سنويًّا[10]، فإنّ هذا المعدل شهد قفزة في العام 2020، ليس من خلال زيادة عدد التراخيص لبناء الوحدات الاستيطانية، بل من خلال توزيعها.
تبين أنّ أكثر من 11 ألف وحدة استيطانيه بواقع 91.2%، أقرّ بناؤها في المستوطنات العشوائية[11]!، وليس في المستوطنات الكُبرى التي جرى التفاهم في جنيف على إمكانية بقائها في أي اتفاق سياسي، (وهو ما قد تقبل به السلطة الفلسطينية استنادًا لمبدأ تبادل الأراضي وفق صيغة مفاوضات عباس- أولمرت)، مما يؤكد، وبحسب الواقع على الأرض، أنّ رؤية اليمين باتت حقيقة ثابتة على الأرض، بعد أن استولت "إسرائيل" على غالبية المناطق الفارغة في الضفة الغربية، ونشرت على رؤوس جبالها بؤرًا استيطانية، سرعان ما ستتحول إلى مستوطنات.
الناظر إلى تعامل الاحتلال مع منظمة التحرير، وتحديدًا حركة فتح منذ ثمانينيات القرن الماضي، يرى بأنّ "إسرائيل" قطعت ثلاث مراحل في تطويعها للمسار السياسي الفلسطيني، الأول بعد أن تخلصت من المُعارضين لمسيرة المفاوضات، بحملة اغتيالات طالت قيادات كبيرة من فتح كخليل الوزير، ما لبث، بعدها، الرئيس الراحل ياسر عرفات إلّا أن وصل إلى مدريد، معلنًا قبول منظمة التحرير بمبدأ التفاوض لتحقيق الدولة الفلسطينية.
المرحلة الثانية، كانت من خلال التخلص من عرفات نفسه، فلم تكن "إسرائيل" تريد أن يكون على رأس السلطة شخص يؤمن باستخدام أدوات خشنة لتحقيق أهداف سياسية، فيما المرحلة الثالثة التي نعيشها، والتي حيّدت الأدوات الخشنة وفككت كلّ سبل المقاومة، لكنّها لا زالت تحمل طابعًا سياسيًّا، الأمر الذي لا يروق للاحتلال، رغم تدني سقف السلطة الفلسطينية.
المرحلتان الرابعة والخامسة، مرتبطتان جزئيًّا ببعضهما البعض، إذ تُريد "إسرائيل" تحويل السلطة إلى كيان إداري فقط، وإلغاء طابعها السياسي، وتعوّل "إسرائيل" على وجود من يقبل بذلك، في مرحلة ما بعد الرئيس عباس، ليجري بعدها الوصول إلى نهاية المطاف من خلال تقسيم الضفة الغربية، إلى مناطق إدارية مُنفصلة، تُعنى كل منطقة منها، بشؤونها، من غير ارتباط بنظيراتها.
وهذا ما ظهر من خلال اتفاق التطبيع بين الإمارات و"إسرائيل"، فقد عدّت الأخيرة أنّ السلام الاقتصادي يؤتي ثماره، ويُمكن الاكتفاء بذلك تجاه الفلسطينيين، بمعنى أنّ العلاقة مع الفلسطينيين لا يجب أن تتجاوز حدود الأمور الحياتية، خاصة في ظل وجود ما يزيد عن 200 ألف عامل فلسطيني في "إسرائيل"، وفي ظل تحكمها بأموال الفلسطينيين، وقد ظهر ذلك جليًّا في ملف المقاصة.
وربما في ظل علاقة المال والسلطة، ووجود شخصيات متنفذة ذات ثقل مالي كبير، فإنّ حماية المصالح المالية ستكون أولوية مقدّمة على التفكير بأي أبعاد سياسية، حتى أنّ "إسرائيل" لم تعد تولي أي اهتمام لمجرد التفاوض مع السلطة على أي قضية سياسية، وبات ترتيب العلاقات يجري عبر الإدارة المدنية، التي تهدف إلى ربط الفلسطينيين بها بشكل مباشر، وتسيير الكثير من الملفات من خلال العلاقة التنسيقية مع الشؤون المدنية في السلطة، على ألا تتجاوز تلك العلاقات سقف ترتيب الأمور الإدارية.
العمل الإسرائيلي على نسف أي صبغة سياسية لأي كيان فلسطيني، بات يُؤتي أكله، وربما التراجع الكبير للسلطة الفلسطينية، في الكثير من الملفات مؤخرًا، خاصة تلك المرتبطة بالعلاقة مع الإمارات والبحرين، أظهر أنّ السلطة نفسها باتت تتحاشى أي خطاب سياسي مستفز، من وجهة النظر الإسرائيلية. حتى على مستوى الإدانات والشجب والاستنكار، لم نعد نرى نفسًا قويًّا للسلطة، في إشارة إلى أنّ الضغط "الإسرائيلي"، بات يؤسس لمرحلة قبول السلطة، بالدور الإداري لا السياسي، ليس فقط من ناحية العمل، بل أيضًا من ناحية القبول الضمني.
خاتمة
الانعكاسات السلبية على القضية الفلسطينية، جرّاء التغيّرات الكبيرة في الساحة الصهيونية، جاءت، أيضًا، نتيجة للتسليم الفلسطيني، فباتت السلطة تخشى على مكتسباتها الاقتصادية، الأمر الذي منح الاحتلال المزيد من مساحة الضغط، وهذا ما يظهر في الخطاب اليميني الداخلي، المرتكز في الأساس على أنّ الهمّ الفلسطيني مرتبط بلقمة العيش وليس له أبعاد سياسية، الأمر الذي زاد من جمهور المقتنعين بأنّ لا حاجة لحلول تُفضي إلى انسحاب "إسرائيلي" من أي شبرِ من الضفة الغربية.
والحقيقة المرّة المترسخة بشكل أكبر، هي أنّ الجمهور الفلسطيني في ظل الأداء السلبي للسلطة الفلسطينية، بات هو الآخر يبتعد عن البعد السياسي للقضية، ويظهر ذلك جليًّا من خلال الأداء الفلسطيني المُقاوم في الضفة، والذي بات فرديًّا وضيقًا، دون وجود حشود جماهيرية حتى للتعبير عن رفضها، ولو بشكل سلمي.
وربما الذهاب باتجاه مطالبة السلطة بإنهاء الانقسام، والعمل على توحيد الجهد الفلسطيني بات أمرًا مستنزفًا، فالمؤشرات خلال ما يزيد ععلى عقد من الزمن، تؤكد رغبة السلطة في التخلص من غزة، وبناء مشروعها في الضفة الغربية، يُضاف إلى ذلك، حقيقة وجود مُعيقات "إسرائيلية" وإقليمية ودولية تمنع الوصول إلى تفاهمات فلسطينية داخلية.
من هنا فإنّ أكثر ما يُمكن أن تقوم به السلطة، إن أرادت ذلك، هو العمل على صياغة برنامج سياسي يستخدم أدوات خشنة بالحد الأدنى، يسبقه بالتأكيد تجسير الفجوة الكبيرة مع الجمهور في الضفة الغربية، من خلال تحسين أدائها الإداري والاقتصادي، والحد من الفساد المُستشري بشكل فاضحٍ في الكثير من المؤسسات، وخلاف ذلك، يعني قريبًا إعلان إلغاء الصبغة السياسية لمؤسسة السلطة.
[1] خدشوت سيروجيم، 8.1.2021، استطلاع: بنت وساعر قريبون من نتنياهو، خولدائي ينهار، خدشوت سيروجيم، https://www.srugim.co.il/524975-%D7%A1%D7%A7%D7%A8-%D7%91%D7%A0%D7%98-%D7%95%D7%A1%D7%A2%D7%A8-%D7%A0%D7%93%D7%91%D7%A7%D7%99%D7%9D-%D7%9C%D7%A0%D7%AA%D7%A0%D7%99%D7%94%D7%95-%D7%97%D7%95%D7%9C%D7%93%D7%90%D7%99-%D7%9E%D7%AA%D7%A8
[2] موشيه جورلي، 26.07.2020، تقسيم، تشظية وافساد، واضعاف للمؤسسات. كلكلست https://www.calcalist.co.il/local/articles/0,7340,L-3841699,00.html
[3] يوبال باجنو، 12.05.2020. الاستقطاب على الحائط، إلى أي حد عميق التجاذب في المجتمع الإسرائيلي. معاريف. https://www.maariv.co.il/news/israel/Article-764838
[4] يضم هذا التيار المتدينين بشقيهم، الحريديم وكذلك المُنتمين للصهيونية الدينية.
[5] خدشوت سيروجيم، 8.01.2019. معطيات رسمية، كم من اليهود موجودون في الضفة الغربية. سيروجيم. https://www.srugim.co.il/303929-%D7%A0%D7%AA%D7%95%D7%A0%D7%99%D7%9D-%D7%A8%D7%A9%D7%9E%D7%99%D7%99%D7%9D-%D7%9B%D7%9E%D7%94-%D7%99%D7%94%D7%95%D7%93%D7%99%D7%9D-%D7%99%D7%A9-%D7%91%D7%99%D7%94%D7%95%D7%93%D7%94-%D7%95%D7%A9%D7%95
[6] آنا برسكي، 22.01.2020. درعي: شاس ستدعم فرض السيادة على المستوطنات في الضفة الغربية وعلى غور الأردن. https://www.maariv.co.il/breaking-news/Article-742613
[7] دورون بروتمان، 19.11.2020. هكذا زادت الكورونا من الفجوات الاجتماعية في "إسرائيل". كلكلست. https://www.calcalist.co.il/local/articles/0,7340,L-3873930,00.html
[8] نفس المرجع السابق.
[9] شموئيل فازنا، 19.08.2020، إسرائيل ليست منقسمة بين يمين ويسار، بل بين سادة وخدّام. ذ ماركر. https://www.themarker.com/opinion/1.9085735
[10] جلوبس، 10.09.2020. هل ازدهر الاستيطان منذ أن ترك ليبرمان الحكومة. جلوبس. https://www.globes.co.il/news/article.aspx?did=1001342208
[11] شلوم غخشاف، 18.10.2020، العام 2020 هو ذروة البناء الاستيطاني. السلام الآن. https://peacenow.org.il/%D9%8Cplans-record-2020
عدم الاستقرار في الساحة السياسية الصهيونية، وانعكاسه على القضية الفلسطينية
عماد أبو عوّاد\ محلل الشؤون "الإسرائيلية" في مركز القدس
مقدمة
بالرغم من تشكيل حكومة صهيونية، بعد الانتخابات الثالثة والتي جرت في آذار 2020، وجمعت حزب الليكود وتحالفه من الحريديم مع حزب "أزرق أبيض" وحليفيه العمل و"طريق البلاد"، كان واضحًا بأنّ هذه الحكومة لن تعمّر طويلاً، وأنّ هدف نتنياهو منها الانتقال إلى خوض انتخابات رابعة في وضعية مريحة أكثر.
تشكيل الحكومة كان على حساب بعثرة التحالفات الداخلية من جديد، فبعد أن مثّل حزب "أزرق أبيض"، (الذي حمل صفة المركز وتحالف مع اليسار كحزبي ميرتس والعمل)، بديلاً عن التوجهات اليمينية لنتنياهو وتحالفه.. جاءت خطوة جانتس غير المفاجئة، بإعلانه الانضمام لحكومة نتنياهو، ضربة قاصمة لوضوح الاصطفافات الداخلية، الأمر الذي أعاد الشرذمة الداخلية، إلى واقعِ يفوق سوءًا الذي سبقه.
فمع بقاء المظهر الخارجي للتكتلات تحت مظلتين، الأولى "لا نريد نتنياهو"، والثانية "نتنياهو بأي ثمن"، فإنّ الانقسام الجديد انزاح إلى اليمين أكثر بشكل كبير، بين يمين متطرف ومعتدل، وكذلك يمين براجماتي، الأمر الذي حوّل اتجاه الصراع إلى صراعٍ يميني داخلي؛ ستكون له انعكاسات كبيرة داخليًّا، وكذلك في التعاطي مع الملف الفلسطيني تحديدًا.
منحنيات التغيير في الساحة الصهيونية
الناظر إلى الساحة الصهيونية، يلاحظ التغيرات المتسارعة في السنوات الثلاث الأخيرة، لتشتد أكثر في العام 2020، من حيث الترتيبات الداخلية للاصطفافات المُختلفة، واندثار أيديولوجيات تاريخية، وظهور أخرى. ورغم أنّ ظاهر هذه التغييرات والمُنحنيات بغالبيتها داخلي، فإنّ تلك المُتغيرات على عناوينها المُختلفة سيكون لها انعكاسات كبيرة على الساحة الفلسطينية.
- انزياح كبير نحو اليمين
اعتادت الساحة الصهيونية ومنذ تأسيس الكيان على وجود تيارين أساسيين، (اليمين واليسار)، وإن كان أصل التسمية يعود إلى الخلافات الاقتصادية بينهما، لكن مع مرور الوقت تبنى كلّ طرف رؤى خاصة فيما يتعلق بطريقة الحكم، والنظرة إلى المؤسسات القائمة، كمحكمة العدل العليا، أو علاقة الدين بالدولة.
خلال الأعوام الأخيرة ومع سيطرة اليمين الصهيوني بزعامة نتنياهو على المشهد، وتآكل حزب العمل التاريخي المُمثل أو الحامل لتسمية اليسار، بات التقسيم الأكثر شيوعًا في الساحة الداخلية الصهيونية ما بين يمين، ومركز- يسار، فقد عُدّت الأحزاب، الليكود وأحزاب الحريديم والصهيونية الدينية، وكذلك حزب "إسرائيل بيتنا" بزعامة ليبرمان على أنّها يمين، فيما عُدّ حزب "أزرق أبيض"، وحلفاؤه، على أنّها أحزاب مركز، لتبقى ميرتس وحدها مُمثلاً لليسار التاريخي.
هذه التقسيمة استمرت وصمدت خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة، لتشهد تغيّرًا كبيرًا خلال العام 2020، وتحديدًا مع نهاية هذا العام، لتُصبح أحزاب اليمين هي السمة الأبرز والأكثر تأثيرًا، وباتت المُفاضلة بينها داخلية، فقد تحول الصراع بوضوح إلى يمين- يمين، في انزياح كبير، وانعطافة جعلت من الساحة السياسية تحمل تقسيمًا جديدًا، بين تيارات يمينية مختلفة، في ظل وجود بواقي يسارية متمثلة بحزب ميرتس، وانسحاق لحزب العمل، وتآكل للمركز.
وفق الحُصص الانتخابية، ووفق استطلاعات الرأي، نجد أنّ أحزاب اليمين المُختلفة، تحصل على ما يزيد على 80 مقعدًا، في أي انتخابات قادمة، وذلك على النحو التالي: الليكود 30 مقعدًا، و"أمل جديد" بزعامة ساعر 18 مقعدًا، والحريديم بحزبيهم شاس ويهدوت هتورا 16 مقعدًا، وحزب يمينا بزعامة نفتالي بنت 12 مقعدًا، وحزب ليبرمان "إسرائيل بيتنا" 6 مقاعد[1].
وهذا يعني (إذا ما استُثنيت القائمة العربية التي تحصل على 11 مقعدًا)، أنّه وللمرة الأولى في التاريخ، سيُسيطر اليمين على ما يزيد على 75% من مقاعد الكنيست، الأمر الذي سيزيد من التنافس اليميني الداخلي، ويُثبت البرامج ما بين يمينية وأكثر يمينية، في انتظار صراعات داخلية في ملفات، وربما حسم ملفات أخرى.
- التجاذبات الداخلية تزداد، والكراهية قاسم مشترك
أهم المُتغيرات على الساحة الصهيونية هي تلك التي ارتبطت بتعمّق الفجوات الداخلية، وكذلك ازدياد حجم الكراهية الداخلي، فمنذ تأسيسها؛ كانت "إسرائيل" في مواجهة تحديات الاختلافات الداخلية، التي قادت مع الزمن (إلى جانب الانقسام القومي ما بين يهود وعرب)، إلى ظهور فجوات اليمين واليسار، المتدين والعلماني، الشرقي والغربي، وغيرها من الفجوات.
اليوم يعيش المجتمع الصهيوني ذروة التناقض بين هذه المكونات، الأمر الذي دفعها نحو الانكماش نحو الداخل ومهاجمة الآخر، ورغم وجود تكتلين في المرحلة الحالية، "تكتل نتنياهو" و"تكتل لا لنتنياهو"، فإنّ داخل كلّ تكتل من التناقضات والفجوات ما يجعل الالتقاء بين تلك المكونات، أمرًا أقرب إلى الاستحالة، ومؤقتًا، في حال حصوله.
يصف موشيه جورلي ما يحدث في "إسرائيل" اليوم على أنّه الأكثر فرادة من نوعه، فلم يكن في تاريخها رئيس وزراء بهذا الشكل، استطاع أن يُقسم المجتمع "الإسرائيلي" إلى جمهورين، جمهور داعم له، وجمهور آخر يحمل له كلّ الكراهية، واصفًا نتنياهو بأنّه يُشكل ذروة الانقسام في المجتمع، بعد أن جعل كافة المؤسسات بما في ذلك القضائية محط خلاف[2].
وبالنظر إلى منظومتها الداخلية فإنّ "إسرائيل" باتت تعيش حالة الانقسام الأكبر حيال القضايا الأساسية، الدين والقضاء، ومن هو صاحب السيادة. ففي الوقت الذي باتت فيه الأحزاب الحريدية مركز ابتزاز لمن يريد الحكم، بفعل كونها بيضة القبان واستطاعتها تمرير الكثير من القوانين التي تخدم الدين، فإنّ ذلك ساهم بوجود ردّة فعل رافضة للوضع الذي كان قائمًا فيما يخص العلاقة بين الدولة والحريديم.
ما زاد من حدّة الانقسام الحاصل، وضعية بنيامين نتنياهو الذي يعاني من وجود ثلاث لوائح اتهام، وفعليًّا ستبدأ محاكمته قريبًا، وأمام رغبته الجامحة بالاستمرار والتملّص من المحاكمة، فقد تنازل للحريديم بشكل كبير، الأمر الذي زاد من حدّة التناقض بينهم وبين العلمانيين، الأمر الذي دفع إفيجدور ليبرمان للمطالبة بإزاحة نتنياهو والحريديم، بعد أن كان ليبرمان حليفًا لهم في عدة حكومات.
يُضاف إلى ذلك رغبة اليمين الأيديولوجي في القضاء على دور المحكمة العليا، والتي مثلت عبر عقود طويلة بيضة القبان ما بين السلطة التنفيذية والتشريعية، خاصة في ظل غياب دستور ينظم الحياة في "إسرائيل"، فقد رفع اليمين شعار الشعب هو الحكم، وهو يريد بذلك تمرير الرؤى الخاصة به فيما يتعلق بالنظام الداخلي، الأمر الذي سيعني التصادم مع مكونات المركز واليسار، وفرض نمط حياة ديني، خاصة أنّ المتدينين هم بيضة القبان في الحكومة.
وربما يُمكن فهم سياق الاختلاف والتنافر بين مكونات المجتمع الصهيوني حول قضية هوية الدولة، ما بين يهودية وديمقراطية، في الوقت الذي تُشير المُعطيات إلى ارتفاع التوجه نحو العنف بين مكوناته، فقد كشف استطلاع لجامعة بار إيلان وكيرن منومدين، عن المُعطيات التالية[3]:
- 14% من اليمينيين مستعدون لاستخدام العنف ضد المنتمين لليسار.
- 43% من أتباع اليمين لا يرون ضرورة لمنح من ينتمي لليسار، كامل حقوقه في المواطنة.
- كما أنّ 57% منهم، غير مستعد لمنح حرية تعبير كاملة للإعلام الذي ينتمي لليسار.
- 33% من المنتمين لليسار غير مستعدين كذلك، لمنح اليمينيين حرية كاملة في الوسائل الإعلامية.
- 32% من العلمانيين يُطالبون بإيقاف تأثير منظومة الدين على النقاش العام، و50% من "الإسرائيليين"، تراجع تقديرهم للحريديم خاصة بعد أزمة الكورونا.
- فيما رأى 41% من المُستطلعين أنّ أزمة الكورونا، ساهمت بانقسام أكبر من الموجود في الساحة "الإسرائيلية".
قد يكون الاختلاف في التوجه الفكري ونمط الحياة، أمرًا طبيعيًّا في أي منظومة أو دولة، لكنّه وصل في الحالة "الإسرائيلية" إلى مرحلة التنافر وإنكار الآخر، حتى وصلت "إسرائيل" من الناحية الجغرافية، إلى ما يُعرف بالدول الثلاث، "إسرائيل" الدولة، دولة تل ابيب التي تقطنها غالبية تنتمي للمركز واليسار، ودولة المستوطنين التي يغلب على سكانها الانتماء للتيار الديني الأرثودوكسي[4]، بنسبة تزيد على 67%[5].
- الحريديم يحسمون أمرهم بتبني برامج اليمين
دأب الحريديم منذ تأسيس أحزابهم، شاس في العام 1984، ويهدوت هتوراة في العام 1992، على جعل هدف التعاطي مع المنظومة السياسية هو تحقيق المكاسب الخاصة بالحريديم، دون إبداء توجهات سياسية معينة، بل ارتكز اهتمامهم على تطبيق رؤيتهم الدينية فيما يتعلق بالمعاملات الاجتماعية، وإرغام الدولة على إقرار قوانين مرتبطة بإعفاء شبابهم من المشاركة في التجنيد الإجباري المفروض في "إسرائيل".
فحزب شاس على سبيل المثال والذي دعم اتفاق أوسلو مع الفلسطينيين من خلال امتناعه عن التصويت، يُصنف أبناؤه اليوم على أنّهم الأكثر يمينية، وباتت قياداته تُعبّر عن توجهات سياسية ذات صلة بالصراع، مؤكدة رؤيتها اليمينية، وقد تجلى ذلك بوضوح عندما طالبت شاس في غير مرة بضرورة فرض السيادة الصهيونية على المستوطنات في الضفة الغربية[6]، في ما يُعرف بعملية الضم، قبل مغادرة ترامب للبيت الأيض.
دخول الحريديم وتحديدًا شاس الحلبة السياسية بمنطلقات يمينية أيديولوجية، ستكون له انعكاسات بجعل المُحددات السياسية في "إسرائيل"، ليست محط خلاف بين غالبية الجمهور وكذلك الشرائح السياسية، فالتركيز سيكون على الاختلافات والخلافات الداخلية، فيما يتعلق بالاقتصاد، والدين والدولة.
- الفجوات الاجتماعية تزداد في "إسرائيل"
كان لجائحة الكورونا انعكاسات اقتصادية واجتماعية، الأمر الذي قاد إلى إحداث تغييرات طبقية، رفعت فئات اجتماعية دون أخرى، وزادت مساحة الفقر والطبقات المتضررة، جراء الإغلاقات المتكررة، مما سيكون له انعكاسات كبيرة على التوجهات السياسية الداخلية والخارجية.
وفق استطلاع رأي موجه، كشف 42% من "الإسرائيليين" أنّ وضعهم الاقتصادي ازداد سوءًا خلال أزمة الكورونا، و47% اعتقدوا بأنّهم لن يستطيعوا تغطية مصاريفهم، و15% أشاروا إلى قيامهم بتقليص مصروفاتهم على المأكولات، و12% استعانوا بعامل خارجي من أجل مساعدتهم في تغطية مصروفاتهم[7].
هذا يُضاف إلى ارتفاع نسبة البطالة في "إسرائيل"، فبعد أن كانت لا تتجاوز حدود 4%، وهي من أقل النسب في العالم، ارتفعت بسبب الكورونا إلى نحو 25%[8]، واتضح أنّ النسب الأعلى من بين طالبي العمل هي في المناطق الحريدية، وكذلك قُرب الفلسطينيين في الداخل المُحتل.
انعكاسات تلك التغييرات على القضية الفلسطينية
للوهلة الأولى، وفي ظل أنّ غالبية تلك المُتغيّرات مرتبطة بالساحة الداخلية الصهيونية، قد لا يبدو لذلك الكثير من الانعكاسات على الواقع الفلسطيني، لكن بنظرة معمّقة فإنّ تلك الانقسامات ستنعكس بشكل كبير على الفلسطينيين، في ظل الارتباط الكبير لكلّ متغير على الواقع المُعاش هنا، وكذلك التأثير العكسي للمتغيرات في الساحة الفلسطينية على "إسرائيل".
- إجماع "إسرائيلي" على إلغاء حلّ الدولتين
الخلافات الداخلية الصهيونية، همشت حضور القضية الفلسطينية في برامج الأحزاب الصهيونية، التي بات خطابها يتراوح ما بين تجاهل الموضوع الفلسطيني برمّته، أو جعله في ذيل برامجها الانتخابية، وربما يأتي ذلك تماشيًا مع توجهات الجمهور الصهيوني، الذي يعطي الأولوية للواقع الاقتصادي والفجوات الداخلية[9].
حتى أنّ بيني جانتس الذي عوّلت السلطة على أنّ مجيئه سيُعيد لعملية السلام بريقها، أكدّ بأنّ حل الدولتين بنسخته المعهودة غير وارد، وبأنّ المستوطنات جزء لا يتجزأ من "إسرائيل"، وهذا ما تبعه عليه خولدائي مؤسس حزب "إسرائيليون"، المحسوب على يسار المركز الصهيوني.
الواقع الداخلي أزاح عين المستوطن الصهيوني عن التفكير كثيرًا بالأبعاد السياسية المرتبطة بالقضية الفلسطينية لصالح مشاكله المرتبطة بالأمن، والاقتصاد والديمقراطية، وهذا يعني خلال الفترة المقبلة على الأقل، استحالة وجود تيار "إسرائيلي" مُستعد للعودة إلى تفاهمات دولته مع الفلسطينيين، الأمر الذي سيعني بالضرورة الانزلاق نحو التسليم بالأمر الواقع، والمزيد من استنزاف الوقت، وتثبيت ركائز الاستيطان في الضفة.
- تكثيف الاستيطان في الضفة الغربية
في ظل احتدام الصراع الداخلي الصهيوني على قضايا الدين والدولة، وفي ظل حقيقة أنّ رؤية اليمين السياسية هي ذات الثقل الأكبر، بحصولها على ما يزيد على ثلثي مقاعد الكنيست، فإنّ ذلك سيؤسس لمرحلة استيطانية جديدة، تضمن إجماعاً صهيونيًّا ليس فقط على مجرد بناء وحدات استيطانية جديدة أو على الدعم الموجه للمستوطنين من أجل مصادرة أراضي الفلسطينيين، وتثبيت بؤرٍ استيطانية عليها، بل وعلى الذهاب في اتجاه شرعنة تلك المستوطنات، وتحويل البؤر الاستيطانية إلى مستوطنات قانونية وفق رؤية اليمين.
حُلم تشريع البؤر الاستيطانية لا زال يراود أتباع الصهيونية الدينية، وأطياف واسعة من الليكود، حتى أنّ عوفر شليخ في تصريحٍ له بعد انشقاقه عن حزب "يوجد مستقبل" بزعامة يائير لبيد، أشار إلى أنّ الأخير فكّر بدعم الضم، لولا أنّه (أي شليخ) كبح جماحه، وهذا يؤكد بأنّ الاستيطان لم يعد محلّ خلاف، وقد يكون نتنياهو هو آخر من يكبح جماح التوجه السريع لليمين الأيديولوجي بهذا الاتجاه.
ويُمكن فهم معادلة التوجه اليميني من خلال قراءة الأرقام ذات الصلة بالبناء في المستوطنات، فمع أنّ مسيرة بناء الوحدات الاستيطانية في الضفة، بقيت حتى العام 2019 ضمن ذات السياق الذي يتراوح بين 1800 إلى 2000 وحدة استيطانية سنويًّا[10]، فإنّ هذا المعدل شهد قفزة في العام 2020، ليس من خلال زيادة عدد التراخيص لبناء الوحدات الاستيطانية، بل من خلال توزيعها.
تبين أنّ أكثر من 11 ألف وحدة استيطانيه بواقع 91.2%، أقرّ بناؤها في المستوطنات العشوائية[11]!، وليس في المستوطنات الكُبرى التي جرى التفاهم في جنيف على إمكانية بقائها في أي اتفاق سياسي، (وهو ما قد تقبل به السلطة الفلسطينية استنادًا لمبدأ تبادل الأراضي وفق صيغة مفاوضات عباس- أولمرت)، مما يؤكد، وبحسب الواقع على الأرض، أنّ رؤية اليمين باتت حقيقة ثابتة على الأرض، بعد أن استولت "إسرائيل" على غالبية المناطق الفارغة في الضفة الغربية، ونشرت على رؤوس جبالها بؤرًا استيطانية، سرعان ما ستتحول إلى مستوطنات.
- العمل على إلغاء الطابع السياسي للسلطة الفلسطينية
الناظر إلى تعامل الاحتلال مع منظمة التحرير، وتحديدًا حركة فتح منذ ثمانينيات القرن الماضي، يرى بأنّ "إسرائيل" قطعت ثلاث مراحل في تطويعها للمسار السياسي الفلسطيني، الأول بعد أن تخلصت من المُعارضين لمسيرة المفاوضات، بحملة اغتيالات طالت قيادات كبيرة من فتح كخليل الوزير، ما لبث، بعدها، الرئيس الراحل ياسر عرفات إلّا أن وصل إلى مدريد، معلنًا قبول منظمة التحرير بمبدأ التفاوض لتحقيق الدولة الفلسطينية.
المرحلة الثانية، كانت من خلال التخلص من عرفات نفسه، فلم تكن "إسرائيل" تريد أن يكون على رأس السلطة شخص يؤمن باستخدام أدوات خشنة لتحقيق أهداف سياسية، فيما المرحلة الثالثة التي نعيشها، والتي حيّدت الأدوات الخشنة وفككت كلّ سبل المقاومة، لكنّها لا زالت تحمل طابعًا سياسيًّا، الأمر الذي لا يروق للاحتلال، رغم تدني سقف السلطة الفلسطينية.
المرحلتان الرابعة والخامسة، مرتبطتان جزئيًّا ببعضهما البعض، إذ تُريد "إسرائيل" تحويل السلطة إلى كيان إداري فقط، وإلغاء طابعها السياسي، وتعوّل "إسرائيل" على وجود من يقبل بذلك، في مرحلة ما بعد الرئيس عباس، ليجري بعدها الوصول إلى نهاية المطاف من خلال تقسيم الضفة الغربية، إلى مناطق إدارية مُنفصلة، تُعنى كل منطقة منها، بشؤونها، من غير ارتباط بنظيراتها.
وهذا ما ظهر من خلال اتفاق التطبيع بين الإمارات و"إسرائيل"، فقد عدّت الأخيرة أنّ السلام الاقتصادي يؤتي ثماره، ويُمكن الاكتفاء بذلك تجاه الفلسطينيين، بمعنى أنّ العلاقة مع الفلسطينيين لا يجب أن تتجاوز حدود الأمور الحياتية، خاصة في ظل وجود ما يزيد عن 200 ألف عامل فلسطيني في "إسرائيل"، وفي ظل تحكمها بأموال الفلسطينيين، وقد ظهر ذلك جليًّا في ملف المقاصة.
وربما في ظل علاقة المال والسلطة، ووجود شخصيات متنفذة ذات ثقل مالي كبير، فإنّ حماية المصالح المالية ستكون أولوية مقدّمة على التفكير بأي أبعاد سياسية، حتى أنّ "إسرائيل" لم تعد تولي أي اهتمام لمجرد التفاوض مع السلطة على أي قضية سياسية، وبات ترتيب العلاقات يجري عبر الإدارة المدنية، التي تهدف إلى ربط الفلسطينيين بها بشكل مباشر، وتسيير الكثير من الملفات من خلال العلاقة التنسيقية مع الشؤون المدنية في السلطة، على ألا تتجاوز تلك العلاقات سقف ترتيب الأمور الإدارية.
العمل الإسرائيلي على نسف أي صبغة سياسية لأي كيان فلسطيني، بات يُؤتي أكله، وربما التراجع الكبير للسلطة الفلسطينية، في الكثير من الملفات مؤخرًا، خاصة تلك المرتبطة بالعلاقة مع الإمارات والبحرين، أظهر أنّ السلطة نفسها باتت تتحاشى أي خطاب سياسي مستفز، من وجهة النظر الإسرائيلية. حتى على مستوى الإدانات والشجب والاستنكار، لم نعد نرى نفسًا قويًّا للسلطة، في إشارة إلى أنّ الضغط "الإسرائيلي"، بات يؤسس لمرحلة قبول السلطة، بالدور الإداري لا السياسي، ليس فقط من ناحية العمل، بل أيضًا من ناحية القبول الضمني.
خاتمة
الانعكاسات السلبية على القضية الفلسطينية، جرّاء التغيّرات الكبيرة في الساحة الصهيونية، جاءت، أيضًا، نتيجة للتسليم الفلسطيني، فباتت السلطة تخشى على مكتسباتها الاقتصادية، الأمر الذي منح الاحتلال المزيد من مساحة الضغط، وهذا ما يظهر في الخطاب اليميني الداخلي، المرتكز في الأساس على أنّ الهمّ الفلسطيني مرتبط بلقمة العيش وليس له أبعاد سياسية، الأمر الذي زاد من جمهور المقتنعين بأنّ لا حاجة لحلول تُفضي إلى انسحاب "إسرائيلي" من أي شبرِ من الضفة الغربية.
والحقيقة المرّة المترسخة بشكل أكبر، هي أنّ الجمهور الفلسطيني في ظل الأداء السلبي للسلطة الفلسطينية، بات هو الآخر يبتعد عن البعد السياسي للقضية، ويظهر ذلك جليًّا من خلال الأداء الفلسطيني المُقاوم في الضفة، والذي بات فرديًّا وضيقًا، دون وجود حشود جماهيرية حتى للتعبير عن رفضها، ولو بشكل سلمي.
وربما الذهاب باتجاه مطالبة السلطة بإنهاء الانقسام، والعمل على توحيد الجهد الفلسطيني بات أمرًا مستنزفًا، فالمؤشرات خلال ما يزيد ععلى عقد من الزمن، تؤكد رغبة السلطة في التخلص من غزة، وبناء مشروعها في الضفة الغربية، يُضاف إلى ذلك، حقيقة وجود مُعيقات "إسرائيلية" وإقليمية ودولية تمنع الوصول إلى تفاهمات فلسطينية داخلية.
من هنا فإنّ أكثر ما يُمكن أن تقوم به السلطة، إن أرادت ذلك، هو العمل على صياغة برنامج سياسي يستخدم أدوات خشنة بالحد الأدنى، يسبقه بالتأكيد تجسير الفجوة الكبيرة مع الجمهور في الضفة الغربية، من خلال تحسين أدائها الإداري والاقتصادي، والحد من الفساد المُستشري بشكل فاضحٍ في الكثير من المؤسسات، وخلاف ذلك، يعني قريبًا إعلان إلغاء الصبغة السياسية لمؤسسة السلطة.
[1] خدشوت سيروجيم، 8.1.2021، استطلاع: بنت وساعر قريبون من نتنياهو، خولدائي ينهار، خدشوت سيروجيم، https://www.srugim.co.il/524975-%D7%A1%D7%A7%D7%A8-%D7%91%D7%A0%D7%98-%D7%95%D7%A1%D7%A2%D7%A8-%D7%A0%D7%93%D7%91%D7%A7%D7%99%D7%9D-%D7%9C%D7%A0%D7%AA%D7%A0%D7%99%D7%94%D7%95-%D7%97%D7%95%D7%9C%D7%93%D7%90%D7%99-%D7%9E%D7%AA%D7%A8
[2] موشيه جورلي، 26.07.2020، تقسيم، تشظية وافساد، واضعاف للمؤسسات. كلكلست https://www.calcalist.co.il/local/articles/0,7340,L-3841699,00.html
[3] يوبال باجنو، 12.05.2020. الاستقطاب على الحائط، إلى أي حد عميق التجاذب في المجتمع الإسرائيلي. معاريف. https://www.maariv.co.il/news/israel/Article-764838
[4] يضم هذا التيار المتدينين بشقيهم، الحريديم وكذلك المُنتمين للصهيونية الدينية.
[5] خدشوت سيروجيم، 8.01.2019. معطيات رسمية، كم من اليهود موجودون في الضفة الغربية. سيروجيم. https://www.srugim.co.il/303929-%D7%A0%D7%AA%D7%95%D7%A0%D7%99%D7%9D-%D7%A8%D7%A9%D7%9E%D7%99%D7%99%D7%9D-%D7%9B%D7%9E%D7%94-%D7%99%D7%94%D7%95%D7%93%D7%99%D7%9D-%D7%99%D7%A9-%D7%91%D7%99%D7%94%D7%95%D7%93%D7%94-%D7%95%D7%A9%D7%95
[6] آنا برسكي، 22.01.2020. درعي: شاس ستدعم فرض السيادة على المستوطنات في الضفة الغربية وعلى غور الأردن. https://www.maariv.co.il/breaking-news/Article-742613
[7] دورون بروتمان، 19.11.2020. هكذا زادت الكورونا من الفجوات الاجتماعية في "إسرائيل". كلكلست. https://www.calcalist.co.il/local/articles/0,7340,L-3873930,00.html
[8] نفس المرجع السابق.
[9] شموئيل فازنا، 19.08.2020، إسرائيل ليست منقسمة بين يمين ويسار، بل بين سادة وخدّام. ذ ماركر. https://www.themarker.com/opinion/1.9085735
[10] جلوبس، 10.09.2020. هل ازدهر الاستيطان منذ أن ترك ليبرمان الحكومة. جلوبس. https://www.globes.co.il/news/article.aspx?did=1001342208
[11] شلوم غخشاف، 18.10.2020، العام 2020 هو ذروة البناء الاستيطاني. السلام الآن. https://peacenow.org.il/%D9%8Cplans-record-2020