أزمة حماس والجهاد الإسلامي واليسار عشية الانفجار

سري سمور
07-07-2022
تحميل المادة بصيغة PDF

رأي

أزمة حماس والجهاد الإسلامي واليسار عشية الانفجار

سري سمّور

تحدثت في المقالة السابقة التي نشرت هنا في 28 حزيران/ يونيو 2022 الماضي والموسومة بـ "عشية الانفجار كان جميع الفلسطينيين في مأزق كبير" عن مأزق عام كبير عاشه الشعب الفلسطيني، خاصة فصائله كبيرها وصغيرها، وبدأت الحديث عن حركة فتح والسلطة، وأكمل الحديث عن بقية الفصائل المهمة الفاعلة.

ثانيًا: حماس والجهاد الإسلامي

لن أفصل بين الحركتين مع وجود اختلافات بينهما، ولكنهما في تلك المرحلة على الأقل-ما بعد أوسلو وعشية الانفجار- كانتا في حالة توافق وتنسيق سياسي تام، ربما نغصت عليه بعض الأحداث التي لا تذكر ولا تؤثر على الصورة العامة، وأيضا كلتاهما عاشتا مأزقًا كبيرًا.

حركة حماس كانت لتوّها خرجت من مشكلة السجون الإسرائيلية، وإن كانت قد تجاوزتها، ولكن تبعاتها وآثارها ربما مستمرة حتى الآن، بلا مبالغة.

فجهاز أمن حماس في السجون الإسرائيلية، انعدمت عند القائمين عليه الحكمة والخبرة وصولاً إلى التمرد العلني على القادة خارج السجون، فشن حملة استجوابات (تعرف بالسجون باسم: تنزيل زاوية) للعديد من الأسرى بشبهة العمالة للمخابرات الإسرائيلية، وإذا كان هناك فعلاً من اكتشفت خيانتهم من الذين أخضعوا بالاستجواب (وسائل الاستجواب عليها علامات استفهام كبيرة من الناحية الشرعية والأخلاقية أيضًا) فإن هناك من راحوا ضحية هذه الممارسات، والخطأ القائم على حسن الظن أفضل من عكسه في هذه الحالة لما للأمر من حساسية وتداعيات عند الجمهور الفلسطيني.

 وحين رفعت قيادات (مثل د.محمود الزهار) صوتها بضرورة التوقف عن هذه الممارسات التي صارت هوسًا أمنيًّا بامتياز، جاء الرد الغريب: "أهل مكة أدرى بشعابها". وفي السجون الإسرائيلية هناك مهاجع وخيام وغير ذلك من تفصيلات الأسر وليس ثمة شعاب ولا وديان!

كما أن المخابرات الصهيونية الماكرة استغلت تلكم الحالة، فصارت توصي مجموعة من عملائها بالاعتراف على أشخاص في سجون مختلفة، والنتيجة معروفة، إضافة إلى تسهيلها نقل القائمين على الاستجواب إلى السجون التي كانت مستقرة مما زاد الطين بلة. للتذكير أخذت حماس التمثيل الاعتقالي وعدد أسراها كان الأكبر في ذلك الوقت.

وليس هناك هدية مجانية أثمن تقدم إلى خصم سياسي له سلطة معترف بها دوليًّا وعربيًّا ومحليًّا، من ممارسات كهذه؛ والشخص المتضرر جسديًّا ونفسيًّا له أسرة وأصدقاء وأصهار وغيرهم، وهؤلاء لن يصدقوا بالضرورة ما يقال عنه، خاصة في ظل تحوّل الحالة إلى روتين، وبات الأسير متّهمًا حتى تثبت براءته!

صحيح أنه في 1997 وما بعدها تراجعت وانتهت تلك الممارسات الخاطئة والتي حاولت حماس وما تزال ترميم تبعاتها الاجتماعية والنفسية بطرق مختلفة، ولكن من أبرز النتائج حرص كثير من عناصر بل كوادر الحركة في مناطق مختلفة على اجتناب دخول السجن الإسرائيلي، حتى لو كان ما يسمعونه لا يخلو من مبالغات، ولكن هذا بث روح التردد بل الانكفاء عند عناصر فعالة، فترة امتدت حتى الانفجار، وبهذا فقدت الحركة أحد محركاتها الفاعلة في الشارع.

وحماس والجهاد الإسلامي تركزان خطابهما حتى آخر رمق قبيل الانفجار على أهمية المقاومة، وتصديرها خيارًا وحيدًا للتصدي والتعامل مع الاحتلال، سواء عبر منابر إعلامية (صحيفة الرسالة التابعة لحماس وصحيفة الاستقلال التابعة للجهاد) أو عبر الخطابات والتصريحات من قادة وكوادر الحركتين من فوق منابر الجمعة أو وسائل الإعلام، شمل التحذير والتنبيه من مخططات التهويد والاستيطان والإذلال على الحواجز، واشتمام رائحة عدوان يدبر في أروقة المؤسسة الصهيونية، وتذكيرًا بالمجازر والمذابح، واحتفاء بالشهداء من شتى الفصائل وسرد سيرهم الذاتية، والحديث عن الأسرى وغير ذلك.

ولكن لم تنجح الحركتان في حشد الشارع وتجييشه خلفهما، وربما وصلتا إلى قناعة بحقيقة الوضع بأنه دون اشتراك فتح في المواجهة التي تحرضان عليها، فكلامهما مجرد تسجيل موقف، سيما بعد تراجع قدرتهما على تنفيذ عمليات إلى حد قارب (صفر عمليات) عشية الانفجار.

وهنا بدأت الحركتان تنغمسان أكثر فأكثر في نقد وتحليل وتوجيه ظواهر حياتية محلية، تتعلق بدوائر ومؤسسات السلطة، وإن كان هذا لوحظ عند حماس أكثر من الجهاد الإسلامي؛ وقد يبدو الأمر طبيعيًّا بل مطلوبًا ومندوبًا، فحياة الشعب الفلسطيني ليست فقط مقاومة واستشهاد وعمليات وأسرى؛ فهناك تعليم وصحة وبنى تحتية وقضايا يومية تشغل الناس. هذا صحيح من حيث المبدأ، ولكنه أيضًا يدل على قناعة بأن تطبيقات أوسلو صارت أمرًا واقعًا متواصلاً مستمرًا يشتد عوده، وليست مرحلة عابرة سريعة مثلما قدّرت الحركتان، وما الانخراط في تفصيلات حياتية يومية إلا دلالة على تلك القناعة.

ولكن كون القرار السياسي والتمويل كان وقتها بيد قيادات الخارج، فقد فرمل توجهات بعض القادة أو حتى القواعد التي صارت تنادي بالانخراط في المشروع ولو بالحد الأدنى، لأن قادة الخارج لا يخرج قراراهم من ضغط وإكراهات الواقع.

وهذا خلق أحيانًا تباينًا في المواقف؛ فمثلاً في أيار/ مايو 1999 حضر الشيخ أحمد ياسين-رحمه الله- اجتماعات المجلس المركزي بعدما أعلن الرئيس عرفات تمهيدًا لذاك الاجتماع بأن المرحلة الانتقالية وفق الاتفاقيات الموقعة تنتهي في 4 أيار/ مايو1999، ومع أنه لم يتم الإعلان عن انتهاء المرحلة الانتقالية، وخرج الاجتماع ببيان يؤكد بقاء المجلس في حالة انعقاد دائم، ولكن حضور الشيخ ولّد انتقادات من بعض قادة الخارج، وربما الداخل ولكن بصوت خافت نسبيًّا. وهذه من معالم الأزمة.

وكانت وسائل الإعلام تصنف قادة الداخل في غزة إلى صقور وحمائم، وكان التيار المصنف بالصقور يمثله د.عبد العزيز الرنتيسي-رحمه الله- والذي كان حتى الانفجار محتجزًا في سجون السلطة، أما تيار الحمائم حسب ذلك التصنيف فيمثله د.محمود الزهار وإسماعيل أبو شنب، أما الشيخ ياسين بما يمثله من رمزية ووقار وخبرة فلم يكن يحسب على أي من التيارين، وإن كان بخطوته تلك والتي بررها ودافع عنها قد بدا أنه منحاز إلى تيار الحمائم. وقد أفرزت حماس في غزة حزب الخلاص الوطني الإسلامي، ربما ليكون أداة عمل سياسي لها ومحاولة لاحتواء الأصوات المطالبة بالمرونة، ولوحظ أن الحزب لم يجد له موطئ قدم في الضفة.

أما حركة الجهاد الإسلامي فقد حافظت على خطابها الحاد ضد أوسلو وكل متعلقاتها، وتجنبت وجود حمائم، أو قصقصت أجنحة تلك الحمائم بطريقة سريعة حاسمة وفورية، ولكنها كانت محدودة الشعبية والتأثير والقدرة على الفعل.

وسادت حالة من الإحباط أوساط الحركتين وهما تجدان أنهما أمام نظام عالمي تقوده أمريكا التي تضعهما في خانة الحركات الإرهابية، ومحيط عربي معظمه إما عاجز عن التغيير أو يرفضهما من منطلقين:

  • الأيديولوجيا.
  • الموقف السياسي والسلوك الميداني في ظل خضوع عربي للهيمنة الأمريكية وإملاءات إدارة البيت الأبيض.

ولم يكن أمامهما سوى انتظار رحمة الله المتمثلة بانفجار يغير المعادلة القائمة، والتي بلا ريب أكبر وأضخم من قدراتهما ومن تأثيرهما.

وهما في حالة حرجة فمجموعة من عناصرهما وكوادرهما اضطروا للمكوث سنوات لا يغادرون المناطق المصنفة (أ) في الضفة الغربية كونهم على الأغلب سيعتقلون على حواجز الاحتلال وكمائنه المنتشرة على الطرق خارج مناطق (أ)، ومجموعة أخرى محتجزة لدى السلطة احترازيًّا منها قيادات فاعلة ووازنة، وآخرون بين الانشغال بتحسين الوضع الذاتي أو نشاط محدود أغلبه داخل أسوار الجامعات أو مهرجانات تقام هنا وهناك في فترات متباعدة نسبيًّا.

ثالثًا: اليسار الفلسطيني

عانى اليسار الفلسطيني منذ انهيار الاتحاد السوفياتي من أزمة فكرية كبيرة، ولم يراجع خياراته، والمتغيرات التي يفترض أن تجبره على مراجعة فكرية جريئة، وفقط اهتم ببعض الشكليات، فمثلاً غير "الحزب الشيوعي الفلسطيني" اسمه إلى "حزب الشعب الفلسطيني"، وانخرط اليسار عموما سواء من عارض اتفاقيات أوسلو ومخرجاتها بشدة وحدّة أو بمرونة ولين، أو توافق معها وانخرط فيها، بالنشاط في المنظمات الأهلية NGO'S، وهي غالبًا تحصل على تمويل أجنبي غربي، مما خلق حالة اغتراب لا تخطئها عين ناظرة، وتناقض بين الشعار والممارسة، خاصة أن مجموعة من نشاطات تلك المنظمات -بسبب شروط الممول-لا تتوافق مع عصب اهتمامات الشارع الفلسطيني، بل أحيانًا تتصادم معها.

إضافة إلى ذلك وكما قلت في مقال سابق، فإن الرصيد الشعبي يزداد بتنفيذ الفصيل عمليات عسكرية، وفي فترة ما بعد أوسلو إلى ما قبل الانفجار تقريبًالم يكن هناك لليسار الفلسطيني مساهمة تذكر في هذا المضمار، وتصدرت حماس والجهاد الإسلامي العمل المسلح، بل انفردتا به تقريبًا.

وعانت "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين"، وهي الفصيل الثاني في "م.ت.ف" والتي عارضت أوسلو أزمة مالية خانقة إلى حد عدم القدرة على تمويل تنظيم احتفال كما أكد الباحث الراحل د.عبد الستار قاسم، وفي الحالة الفلسطينية، فقدان التمويل وصفة للشلل، فكيف إذا اجتمع مع أزمة فكرية، وحالة عالمية وإقليمية تقف بالمرصاد؟!

واتخذت الجبهة الشعبية قرارًا حاسمًا في 1999 فبعد تنازل د.جورج حبش عن منصبه أمينًا عامًّا للجبهة منذ انطلاقتها في 1967 تولّى الأمانة العامة الأمين العام المساعد (مصطفى علي الزبري-أبو علي مصطفى) ودخل إلى فلسطين في صيف 1999 بعد كثرة الحديث عن كون العمل في الداخل الفلسطيني يحظى بأهمية وثقل أكثر من نظيره في الخارج، وموافقة "إسرائيل" على دخول أبو علي، يمكن وصفها بسياسة احتواء مؤقت انتظارًا لما تضمره (اغتالت أبو علي بعد أقل من سنتين من عودته!).

ودار حديث وجدل بعدها بأسابيع عن عودة وشيكة للأمين العام للجبهة الديموقراطية (نايف حواتمة) ولكن لم تتم العودة بعدما تراجع باراك عن موافقته على عودة حواتمة بحجة تصريحات له عبر قناة الجزيرة.

وعودة أبو علي التي تمت أو عودة حواتمة التي لم تتم؛ فإنها تشير إلى حاجة قواعد الجبهتين التي تراجعت شعبيتهما منذ انهيار الاتحاد السوفياتي إلى شحن ووجود شخصيات فاعلة بوزن ثقيل كي تحفظا ما تبقى لهما من مساحة على خريطة السياسة الفلسطينية.

إجمالاً هذه أوضاع الفصائل العاملة ويضاف لها وضع عامة الناس قبيل الانفجار الذين عانوا من يأس وحالة انفلاش وانكباب على أمورهم الخاصة بما يتنافى مع حالة مفترضة لشعب تحت الاحتلال.

وبين يدي الانفجار وبعد الاندحار عن جنوب لبنان عقدت قمة كامب ديفيد(2) ولهذا حديث آخر بعون الله.

  • المقالات المنشورة في موقع مركز القدس للدراسات، تعبّر عن آراء أصحابها وقد لا تعبّر بالضرورة عن رأي المركز.