أفكار بيريز وخطاب المعارضة وموقع قضية فلسطين

سري سمور
26-04-2022
تحميل المادة بصيغة PDF

رأي    

أفكار بيريز وخطاب المعارضة وموقع قضية فلسطين     

سري سمّور

شاهدت شمعون بيريز في مقابلة سريعة مع التلفزيون الإسرائيلي بعيد توقيع أوسلو، يقول إنه يريد أن يرى الشاب الفلسطيني أو العربي مع الشاب الإسرائيلي مع (جهاز حاسوب) وأضاف الجمل والكلاشيهات عن السلام والتعاون والازدهار.

أعلم أنني في زمن وصل فيه الوعي إلى درجة أنني سأبدو مضحكًا حينما أفند هذا الكلام، ولو بمجرد الإشارة إلى أن الشاب الإسرائيلي يتجرع ويتشرب الحقد والعقلية المتوجسة ويتلقى تدريبات عسكرية إلزامية؛ غالبًا ما يتخللها عمليات قتل أو اعتقال أو تنكيل بالفلسطيني العربي، وأن (الحاسوب) يمكن أن يكون أداة حرب مثلما هو أداة أخرى، ولكن في منطق ذلك الزمن فإن أفكار بيريز لاقت رواجًا كبيرًا وصدقها كثير من الناس.

الشرق الأوسط الجديد

مع أننا نتحدث عن مرحلة سابقة، ولكن هناك تأكيدات، بناء على ملاحظات ومتابعة، أن أطروحة بيريز الواردة في كتابه الموسوم بـ "الشرق الأوسط الجديد" والذي صدر في 1994 بعيد أوسلو وترجم إلى عدة لغات؛ منها العربية، وما سبق وواكب وتلا الكتاب من محاضرات ومقابلات وندوات عقدها بيريز تعزز تلك الأطروحة، قد تحققت واقعيًا في ما يعرف بـ "اتفاقيات أبراهام" وما انبثق، وينبثق عنها خلال السنتين الأخيرتين، مع فارق أن من يقود التنفيذ في الكيان هم اليمين سواء من الليكود أو من يمينا وليس من اليسار الذي يعدون حزب العمل منه والذي اضمحل وصار هامشيًا في السياسة والمجتمع الصهيوني، وربما هذا الرأي وهذه القراءة تحمل شيئًا من الصحة، ولكن المؤكد أن الخاسر، أو الطرف الذي يراد له أن يكون خارج التاريخ والجغرافيا، هو الطرف الفلسطيني، وأن قوة الفلسطيني تكمن في مقاومته، تلك المقاومة التي أثبتت أنها قادرة على بعثرة ونسف كل مخططات التجاوز والمحو والشطب، وأن التخلي عن المقاومة أو الظن بأن ثمة طريقة أخرى تسقط تلك المخططات والمؤامرات ثبت أنه ليس في مكانه عمليًا وواقعيًا، وما كان لعدو ولا لأخ في العروبة أو الدين ليتجرأ على ما تجرأ عليه لو كانت المقاومة هي الراية التي يلتف حولها الفلسطينيون.

وقد قرأت أن بيريز قال في ذاك الزمن: "الشرق الأوسط الجديد، سيعتمد على المياه التركية ونفط السعودية والأيدي العاملة المصرية و(العقول الإسرائيلية)" وهذه تقريبًا نفس الفكرة في الكتاب المذكور، ونلاحظ أن الاستعلاء وإعطاء طابع التميز لبني جلدته، ولسان حاله (موارد المنطقة البشرية والطبيعية، يجب أن تسخر لنا لأننا الأذكياء الحاذقون وغيرنا همج رعاع!).

والمحزن أن من العرب من اقتنع، بمن في ذلك جهات وشخصيات متنفذة بتفوق و(خارقية) الرجل الصهيوني، وأن قدر المنطقة -إذا أرادت الازدهار والتخلص من الفقر والبطالة والجهل والمرض- أن تعطي ما تملك من ثروات لهذا (الخارق) فهو قادر على الإدارة والاستثمار.

وكثر الحديث عن الاقتصاد وأنه عنوان (المعركة القادمة) وامتلأ الإعلام بالتبشير بأن تعاونًا اقتصاديًا بين الكيان والعرب سيجلب التقدم والازدهار، ويجعل البطالة في أدنى مستوى، والفقر في أشد حالات الانحسار، ولم يكترث القوم بأن السادات وعد المصريين بمثل هذه الوعود، فصار حال مصر بعد كامب ديفيد لا يسر صديقًا.

ربما وحدها سورية على لسان مسؤولين فيها قللت من أهمية التعاون الاقتصادي مع "إسرائيل"، وبينت أنها تتعامل مع كذا دولة فلن يكون الفارق يذكر بإضافة دولة جديدة. التنويه بالموقف السوري ليس مدحًا ولا إعجابًا بالنظام بقدر ما هو ذكر حقائق تاريخية ضرورية.

القناعة غريبة عجيبة؛ وتصور "إسرائيل" -كما قلت في مقال سابق- جمعية خيرية ستقدم خبراتها وعلومها لخدمة الإنسان في المنطقة، وهي وجدت أصلاً كي تذلّ الإنسان وتقتله وتفقره وتجهّله، فكيف تصوّر القوم أنها ستغير جلدها ولماذا وكيف؟

وقد سمعت أحدهم ينظّر عن تلك الفكرة المستفزة بقوله: "إسرائيل لما احتلت سيناء استطاعت أن تجعل رمالها صالحة لزراعة البطاطا وكان وزن حبة البطاطا خمسة كيلوغرام. هم سيعطون هذه التقنيات للعرب والفلسطينيين، والدول الغربية والخليج سيمولون المشروعات"! لا حول ولا قوة إلا بالله.

المعارضة وخطاب بيريز

لا زلت أذكر أحد قادة الجبهة الديموقراطية في مهرجان ضد اتفاق أوسلو في مخيم جنين يخاطب أهل جنين: "يا أهل جنين ستركبون المرسيدس و(ذكر عدة مظاهر رفاهية) ولكن هل تقبلون هذا مقابل التخلي عن المبادئ...إلخ؟"

ولم تكن خطابات تيارات المعارضة الرئيسة (الإسلامية) بعيدة عن هذه الفكرة، فقد بنت تصورًا مرده أن الحركة الصهيونية قررت احتلال الدول العربية اقتصاديًا، بعدما فشلت عسكريًا، وأنها قد تتنازل عن أراض مقابل ذلك، أيضًا لأن بيريز أشار إلى أن التقنيات العسكرية الحديثة مثل الصواريخ بعيدة المدى والطائرات نزعت أهمية الاحتفاظ بأراض لتأمين المجال الحيوي للكيان، وكرر هذه الفكرة في مقابلات صحفية خاصة حينما كان يُسأل عن هضبة الجولان.

لا أدري هل غفل المعارضون عن طبيعة الكيان؟ وهل حسبوا أن (بطالة) ستصيب الجيش والمخابرات عندهم؟

وهم بخطابهم المستخدم للشعارات العاطفية التي تحذر الناس من تأييد مسار المفاوضات والتسوية، مهما كان المقابل واعدًا من رغد عيش، في حقيقة الأمر يخدمون المسار والمروجين له، بل يقومون بدعاية له فعليًا؛ فالناس كانوا بعدما أنهكتهم سنوات الانتفاضة وتبعات احتلال الكويت، يأملون بشغف إلى تحسن أحوالهم المعيشية، والمعارضة تؤكد لهم ذلك، ولكنها تقول لهم إن هذا مقابل تنازلات عن عقائد وأراض ومقدسات، ولكن الماكنة الإعلامية الداعمة لمسار المفاوضات والتسوية تقول لهم: "أنتم على موعد مع رفاهية عيش وتحسن لا سابق له في الصحة والتعليم والزراعة"، بل قيل بصراحة (فلسطين فيتنام اليوم ويابانأو سنغافورة الغد)، وهذا ليس مقابل أي تنازل عن حقوق الشعب الفلسطيني المشروعة، وهي استراحة محارب، سيعود إلى ساحات الوغى إذا لم تسترد الحقوق. سيميل الناس، بالتأكيد، إلى الخطاب الثاني المبشر بثمار شهية للتسوية، وهي ثمار حتى الخطاب الرافض يؤكد أنها ستكون بأيديهم!

مع صغر سني نسبيا (20 عامًا) صرخت في وجه من كان يمكنني الوصول والتحدث إليهم بأن طريقتكم خطأ، وأنه يجب أن تقولوا للناس: سيزداد الفقر وترتفع معدلات البطالة وينتشر الغلاء، وإذا استفدتم فهذا مؤقت وعن طريق الصدفة، ولن يشمل سوى فئة قليلة جدًّا منكم، لا أن تقولوا للناس: ارفضوا مسار التفاوض والتسوية لأنها على حساب عقيدتكم ومبادئكم التي ستقبضون ثمنها رفاهية عيش مؤكدة، فطبيعة النفس البشرية تميل إلى ذلك (قلوبهم معك وسيوفهم عليك)!

ولكن أنّى يكون صوتي مسموعًا وأنا في تلك الحال والظروف؟

وقد يطرح سؤال: لنفرض أن المعارضة تبنت خطابك هذا، أكان سينقص من اندفاع والتفاف الناس حول هذا المسار؟ لا، ولكنه بمثابة بذرة تقذف في العقل الباطن وحقل الوعي تكبر وتنمو وتظل تلمع في الأذهان، وهي مادة ووقود نافع للتذكير بأننا قمنا بالتحذير، بعد فترة وجيزة.

أفكار بيريز أم الحروب والعدوان؟

عند وصول بنيامين نتنياهو إلى رئاسة الوزراء بالاقتراع المباشر (1996) وشروعه بتبني خطاب علني واضح، قائم على اعتناق الاستيطان وتجنبه لغة المراوغة والخداع التي انتهجها بيريز، بدا أن المخططات الاقتصادية الواعدة لبيريز ذهبت أدراج الرياح، وقد كتب أحدهم في صحيفة محلية ما معناه: "على الذين غضبوا وأقاموا الدنيا ولم يقعدوها وحذروا من دخول إسرائيل إلى العالم العربي من بوابة الاقتصاد والتنمية، أن يرتاحوا ويتنفسوا الصعداء الآن، لأنه قد جاء نتنياهو الذي لا يطرح تلك الأطروحات". ويظهر من لغة الكاتب حسرته على مخطط بيريز وكأنه كان سيستفيد منه شخصيا!

أكرر أن الدولة العميقة في الكيان، بل جوهر الكيان، هي أجهزة الأمن والاستخبارات والجيش، وهم أصحاب القرار ورسم السياسات، والساسة إما أن يسيروا وفقًا لهواهم أو أن يرحلوا، وثمة طرق كثيرة لترحيلهم كما نعلم.

ولكن أيّ مسار فعلاً اتخذه الكيان؟ مسار الاحتلال عن طريق الهيمنة الاقتصادية والتقنية أم مسار الحروب والقتل والتدمير؟

الجواب واضح: كلاهما، فهم ليسوا أمام اختيار واحد ملزم لهم بتجنب الآخر!

في كتابه "مكان تحت الشمس"؛ يؤكد نتنياهو بوضوح على أهمية الاحتفاظ بالأراضي كخيار استراتيجي أمني، ويرفض فكرة تراجع أهميتها بسبب وجود الصواريخ وغير ذلك.

فالكيان مثل الورشة، ويأخذ من الأفكار ما يخدم أهدافه؛ ففي وقت مات فيه بيريز وغاب نتنياهو عن منصب رئيس الحكومة ثم عاد ثم غاب مرة أخرى، أقام الكيان علاقات اقتصادية متينة مع عدة دول عربية لا تجاوره، وبالتأكيد هناك علاقات غير معلنة، وثبت بيعه برنامج "بيغاسيوس" للتجسس لدول عربية له معها علاقات علنية أو سرية.

ومع كل ذلك فإن جيشه وأمنه لم يكف عما اعتاده من قتل وإجرام وعربدة وحرص على تفوق كمي ونوعي.

وصارت العلاقات مع بعض العرب ذات طابع تحالفي عضوي وليست مجرد علاقات دبلوماسية واقتصادية، مسنودة بتعاون أمني سرّا وعلانية، لمحاربة (الأصولية الإسلامية) وهذا ما روّج له بيريز في أطروحته، ولهذا يجب ألا نستبعد دورًا إسرائيليًا محوريًا في الثورات المضادة.

أما قضية فلسطين وشعبها في دوائر المكر واللؤم هذه فهي كانت فقط مجرد ترضية أو (ملهاة) للقفز إلى حدود أبعد لتوسعة نفوذ الكيان، وتعزيز هيمنته في المنطقة، وبيريز في حديثه في الكتاب عن أوسلو أشار إلى ذلك، فلم يكن ثمة بد من إعطاء الجانب الفلسطيني شيئًا ولو رمزيًا للانطلاق نحو العالم العربي.

وبيد الفلسطينيين وحدهم مفتاح إنهاء هذه المخططات اللئيمة. وللحديث بقية إن شاء الله.