"أوهام في العمل الفلسطيني"..

عوني فارس
09-05-2022
تحميل المادة بصيغة PDF

عرض كتاب

"أوهام في العمل الفلسطيني"..

عوني فارس

 

عنوان الكتاب: أوهام في العمل الفلسطيني.

المؤلف: محسن محمد صالح.

الناشر: مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، بيروت.

تاريخ النشر: 2022.

عدد الصفحات: 63.

 

تميَّزت القضية الفلسطينية بتاريخها الطويل، وتطوراتها الميدانية المتلاحقة، وأبعادها المتجاوزة لحيزها الجغرافي، وتنوع المتأثرون بها والمؤثرون فيها، وكثافة التنظيرات حولها، ولما كان هذا حالها، فمن الطبيعي أن تتتابع الإصدارات التي تناقش تطوراتها أو تعيد تقييم أحداثها السابقة، وجملة ما ارتبط بها من تصورات وأفكار ومقولات، وكتاب أوهام في العمل الفلسطيني، الذي نعرضه في هذه المقالة، واحد من تلك الإصدارات التي دوَّن فيها محسن محمد صالح، رئيس مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، بعض خلاصاته حول القضية الفلسطينية.

أغلب هذه الخلاصات ردود على أطروحات مرتبطة أساساً بماهية المشروع الوطني الفلسطيني، وبعض قضاياه المركزية مثل المقاومة المسلحة، والتسوية السلمية، ودور التيار الإسلامي، وهي خلاصات مهمة لكونها تتعلق بموضوعات يكثُر النقاشُ حولها، وليست مقتصرة على أوساط النخبة السياسية والفكرية، إنما نجد صداها في الشارع، ويتناولها الناس في المقاهي، والبيوت، وغرف التدريس الجامعي، والمساجد، ومقرات النوادي، والجمعيات، وغيرها، كما أنَّ كاتبها متخصص بالشأن الفلسطيني، أفنى عشرات السنين من عمره في دراسة القضية الفلسطينية، ورفد المكتبة الفلسطينية والعربية بعدد وافر من الكتب والدراسات والمقالات الرصينة التي تناول فيها قضايا الصراع في فلسطين، وبعضها عناوين أصيلة، كان السبَّاق لتناولها بعمق وتوسع مفيدين، وهذا مما يمنح الكتاب مزيد حضور واهتمام.         

أصل الكتاب وهدفه

أصل الكتاب ثمانية مقالات نُشرت العام الماضي في موقع عربي 21، وقد عالجت مجموعة من الرؤى والانطباعات والقناعات والمقولات المرتبطة بالقضية الفلسطينية وتطوراتها، وقد وصمها الكاتب بـ "الأوهام" نظراً لأنها لا تستند، وفق رأيه، إلى حقائق علمية، ولا إلى تجارب عملية، وشملت هذه المقالات خمسة عشر وهماً، أضاف إليها وهماً جديداً فأصبح عددها ستة عشر، وكان الهدف من نشرها إزالة ما قد تتسبب به من "أخطاء في الفهم، وسوء في التقدير، وضياع في البوصلة، ومآزق في المسارات والمآلات، وفشلٍ في صناعة القرار، وتضييع للأوقات والجهود والإمكانات" (ص، 5)، ولما لاقت المقالات استحسان كثيرين، ووصلت للكاتب اقتراحاتٍ بنشرها في كتاب منفرد، تشجع ونشرها، وقد حرص على نسج كتابه بلغة سلسة، ومفهومة لدى أوسع شريحة من المهتمين وجمهور القراء، وكان فيه متخفِّفاً من صرامة البحث الأكاديمي، ووطأة الأيديولوجيا، وملتزماً بالحوار الهادئ، والتسلسل المنطقي المستند للحقائق والمعطيات الصحيحة، ومبتعداً عن التشنج والاندفاع العاطفي، ومسترشداً بثوابته تجاه القضية الفلسطينية، مثل تأييده المطلق لمشروع تحرير فلسطين التاريخية المرتكز بشكل أساسي على المقاومة المسلحة، ورفضه لمسار التسوية السلمية، ومعارضته للقيادة المتنفذة لـ م.ت.ف والسلطة الفلسطينية. 

توزَّعت الأوهام على ثلاث مجموعات رئيسة، تضمنت الأولى أوهام مسار التسوية السلمية، والثانية أوهام مشروع المقاومة والتحرير، والثالثة أوهام المشروع الوطني، وقد وضع كل وهم في مقالة منفصلة، ذكر فيها عنوان الوهم، ثمَّ فنَّده مستعيناً بإرث طويل من الدراسات والقراءات، وما تمخضت عنه التجارب العملية والشواهد الواقعية.     

مجموعة الأوهام الأولى  

ركَّزت هذه المجموعة على تفنيد ثلاثة من أوهام مسار التسوية السلمية والمعنونة بـ: "الاعتماد على الشرعية الدولية في التخلص من الاحتلال"، و"إقامة دولة فلسطينية مستقلة في الضفة الغربية وقطاع غزة من خلال مسار التسوية السلمية (حل الدولتين)"، و"حل الدولة الواحدة". رأى الكاتب إن تبني منظمة التحرير للشرعية الدولية أدخل المشروع الوطني في مأزق، خصوصاً وأن التجربة أثبتت عبر عشرات السنين؛ أن قراراتها ليست مُلزمة لدولة الاحتلال، ولا يوجد قدرة ولا إرادة ولا رغبة دولية في إنفاذها، لهذا يدعو الكاتب إلى استبدالها بالعمل الدولي لنصرة القضية الفلسطينية باعتبار ذلك عاملاً مساعداً في إطار مشروع التحرير، أمَّا مسار التسوية القائم على حل الدولتين، فكانت نتائجه وخيمة إذ كرَّس الاحتلال، وأحال السلطة الفلسطينية إلى كيان وظيفي يخدمه، وسمح بتكثيف اختراق "تل أبيب" للعالمين العربي والإسلامي، والتقدم في مسار التطبيع.

ومع تراجع فرص حل الدولتين بدا حل الدولة الواحدة جذَّاباً، خصوصاً مع وجود نموذج سابق عليه طُبِّق في جنوب أفريقيا، ووجود أرضية تاريخية له تمثلت في النضال الوطني إبان الانتداب البريطاني القائم على تحقيق الدولة الواحدة، وأطروحات حركة فتح عام 1968 في الدولة الفلسطينية الديمقراطية العلمانية الواحدة، لكنَّها جاذبية افتراضية لا تقوى على الصمود أمام حقائق التاريخ ومعطيات الواقع، فأيام الانتداب كان الفلسطينيون ما يزالون على أرضهم، وبعد النكبة وتأسيس دولة الكيان أصبح المشروع مشروع تحرير وليس مساواة مع الغاصبين، وأصبح من الصعب الآن فك العلاقة بين اليهودية والصهيونية داخل الكيان، كما أنَّ هذا الحل لا يلقى قبولاً دولياً معتبراً، وهو يحيل المعركة إلى معركة حقوقية وسياسية وقانونية تعيق مشروع المقاومة، وتعد "هروباً من المقاومة وتكاليفها وأثمانها وتشتيتاً للبوصلة... وشرعنة غير مقصودة لاحتلال الضفة الغربية" (ص، 18)،  كما أنَّه لا يجيب على السؤال المتعلق بما هي هوية الأرض والإنسان بعد تحقيق حل الدولة الواحدة؟!.

مجموعة الأوهام الثانية   

هذه المجموعة هي أكبر المجموعات عدداً، حيث حوت سبعة عناوين/ أوهام مرتبطة بمشروع المقاومة والتحرير، وبعضها له علاقة بصعود المقاومة الفلسطينية بصيغتها الإسلامية، وما واكب ذلك من نقاشاتٍ داخل التيار الإسلامي، ومع خصومه ومنافسيه، منها: وهم "الجمع بين السلطة ببنيتها الحالية وبين المقاومة المسلحة تحت الاحتلال"، وقد اعتبره الكاتب وهماً اعتماداً على مآلات تجربة حركة حماس في الحكم منذ عام 2006، ووهم استحالة تحرير فلسطين دون مقاومة مسلحة، نظراً لأن الصراع في فلسطين صراع وجود لا حدود مع مشروع صهيوني استعماري إحلالي أثبتت التجربة بأنَّه لا يتنازل بالإقناع، ولا يحسمه العمل الدبلوماسي، رغم أهميته، ووهم الاعتقاد بتأخر الإسلاميين عن المشاركة في المقاومة المسلحة، حيث رأى الكاتب أن التيار الإسلامي (وهو مفهوم فضفاض لاحق على ولادة القضية الفلسطينية، ويمتاز بالتنوع، وقد مر بمراحل متعددة من التبلور والتطور)، قد شارك بشخوصه ثمَّ بأجسامه في العمل المقاوم منذ اندلاع الثورات الفلسطينية ضد الاحتلال البريطاني حتى الوقت الحالي، ووهم الادعاء بأن حركة فتح هي صاحبة الرصاصة الأولى، خصوصاً وأن العمل المسلح ضد المشروع الصهيوني لم يتوقف بعد النكبة، كما أن مرحلة ستينيات القرن العشرين التي ظهرت فيها حركة فتح كانت تعج بالتنظيمات والحركات التي مارست العمل المسلح قبيل أو مع انطلاق حركة فتح.

واعتبر الكاتب الاعتقاد بتحرير فلسطين من داخلها وهماً، مع اعترافه بالدور المركزي للمقاومة الفلسطينية في مشروع التحرير، ورأى بأنَّه لا يمكن بحال إلغاء "المسار الحيوي للبيئة الاستراتيجية المحيطة عندما يتعلق الأمر بالتحرير الكامل لفلسطين" (ص، 48). والتحرير الكامل، وِفْقَ تصوره، مبني على معادلة أوسع تحقق التكافؤ أو "التفوق الاستراتيجي مع الكيان، بحيث ترجح موازين القوى لصالح مشروع التحرير في مقابل المشروع الصهيوني" (ص، 48)، خصوصاً مع امتلاك الاحتلال لترسانة عسكرية هائلة، ومظلة دولية لن تتخلى عنه إلى بتغير المعادلة الدولية، ورغم قوة هذا الطرح، إلا أنَّه يغالي في قضية التكافؤ الذي لن يحدث في يوم من الأيام، فما من مقاومة منتصرة تعادلت قوتها مع الغزاة عبر التاريخ، وهناك عوامل أخرى غير مادية تلعب دوراً مهماً  في حسم الصراع لصالح قوى المقاومة.

ويعتقد الكاتب بأن من الوهم تصور تحرير فلسطين دون مشروع نهضوي وحدوي، لأنَّ المشروع الصهيوني، لا يستهدف فلسطين وحدها وإنما محيطها العربي، وقوته تكمن في ضعف الأمة، أو ضعف المحيط الاستراتيجي لفلسطين، وما يطرحه الكاتب هنا نقاش قديم سابق على هذه المرحلة، وجملة التطورات التي شهدتها القضية الفلسطينية خلال السنوات القليلة الماضية جعله محل تساؤل، في المقابل زادت القناعة بأن تحرير فلسطين سيفضي حتماً إلى إنجاح المشروع النهضوي الوحدوي، خصوصاً وأن دولة الاحتلال هي الضامن الأهم لحالة التفكك والانقسام التي تحياها منطقتنا.

ومن الوهم أيضاً تصديق القول بتحرير فلسطين بعيداً عن الإسلام، ما دامت أرض فلسطين أرضاً إسلامية، وشعبها مسلم، وانتماؤها الحضاري إسلامياً، وحاضنتها الشعبية مسلمة، وبيئتها الاستراتيجية مسلمة :" فمن الطبيعي أن تكون هوية مشروع التحرير هوية إسلامية" (ص، 53) مع تأكيده على أن الهوية العربية لفلسطين تنسجم مع هويتها الإسلامية انسجاماً كاملاً، وأرض فلسطين مقدسة، وهي أرض وقف إسلامي لا يجوز التفريط فيها أو التنازل عن أي جزء منها، وهي القضية المركزية للأمة، في مواجهة مشروع صهيوني عالمي عدواني، يعتبر فلسطين قاعدته الأساسية ينطلق منها لإضعاف الأمة وتمزيقها.

ينادي الكاتب بضرورة استعادة القضية الفلسطينية أبعادها الوطنية والعربية والإسلامية والإنسانية، لأن العرب والمسلمين جزء حيوي من " الجسم المقاوم والمحرر، والفلسطينيون هم أبناء الثغر وأهل الرباط، والأثقل في المسؤولية وأداء الواجب، وهم رأس الرمح وهم الصف الأول" (ص، 55)، كما أنَّ الدائرتين العربية والإسلامية لا تتعارضان، فالوحدة العربية مقدمة للوحدة الإسلامية، ولا خشية من عدم قدرة الإسلام على حماية التنوع ورعاية الاختلاف، فالإسلام مثَّل تاريخياً مشروعاً نهضوياً يستوعب الأقليات الطوائف.

مجموعة الأوهام الثالثة

تتناول هذه المجموعة ستة أوهام تتعلق بالمشروع الوطني الفلسطيني وتحولاته، وهي أوهام مرتبطة بالأساس بمشروع م. ت. ف وإفرازاته المؤسساتية والسياساتية، وهي تتعلق بوهم صناعة قرار فلسطيني مستقل تحت الاحتلال، وقد أثبتت تجربة أوسلو استحالة ذلك، ووهم صوابية قيادة المشروع الوطني من خلال قيادة متنازلة عن الوطن ولا تحترم العمل المؤسسي، وفشلت في تجنيد طاقات الشعب الفلسطيني في مواجهة المشروع الصهيوني، وكرَّست هيمنة الفرد الواحد والفصيل الواحد على القرار الفلسطيني، وقزَّمت منظمة التحرير، وحوَّلت السلطة إلى كيان وظيفي أمني يخدم الاحتلال، ووسعت في الشكليات المرتبطة بهيكليات الرئاسة والحكومة والسفارات وغيرها، في الوقت الذي يجب أن توضع مقدرات الشعب الفلسطيني في جوانب أكثر أهمية مثل العمل المقاوم والانتفاضي، ويستغل الكاتب الحديث عن هذا الوهم للتذكير بقيم وأخلاقيات رجال الثورة ودعوة قادة حركات المقاومة الإسلامية التي تعتبر العمود الفقري للمشروع الوطني التحرري للالتزام بالتعفف وعدم هدر المال العام والابتعاد عن "مظاهر الزعامة الفارغة"، والحذر "من الإسراف ومظاهر الترف، ومن الخلط بين ما هو شخصي وما هو للمال العام؛ وعدم استفزاز الناس بأي من المسلكيات الظاهرة التي قد تتسبب بتشويه صورة الثورة" (ص، 32).

وناقش الكاتب في هذه المجموعة أيضاً وهم إصلاح البيت الفلسطيني دون قيادة انتقالية، خصوصاً وأن القيادة الحالية لمنظمة التحرير لا تريد إصلاح منظمة التحرير، وإنما الاستمرار في الهيمنة عليها، وكل جولات المصالحة كان هدفها إدارة التفاوض وتقطيع الوقت "لضمان استمرارها وإعادة إنتاج نفسها" (ص 33)، كما ناقش أيضاً وهم مصطلح "طرفي الانقسام"، إذ اعتبره مصطلحاً مضللاً، فالانقسام بمعناه الظاهر محصور في الضفة وغزة، وحسب رأي الكاتب، فإن "طرفا الانقسام" لا يتقاسمان المسؤولية في البيئة الفلسطينية العامة ولا في المؤسسة الرسمية، وأحدهما يقود السلطة والمنظمة، ويحتكر التمثيل، ومرتهن للاحتلال، وبالتالي الحديث اليوم ليس عن طرفين متعادلين، وإنما عن "اتجاهين مختلفين في الرؤية والمنهج ومسارات العمل وأولوياته، ومختلفين في العقلية التي تدار بها الأمور" (ص، 37).

خاتمة

يعيد هذا الكتاب إلى الذاكرة تاريخاً من السجالات بين الكُتَّاب والمفكرين والسياسيين الفلسطينيين، والذي ترجم بسلسلة طويلة من الكتب والدراسات والأبحاث والمقالات المنشورة على صفحات كبرى مجلات الحركة الوطنية وصُحفها، وهو تقليد قديم أتاح للجمهور معرفة الآراء والقناعات والمواقف من القضايا الساخنة التي شغلت بال الناس في محطات مفصلية من تاريخ القضية الفلسطينية، والحقيقة أنَّه تقليد مفيد، خصوصاً أن اتسم بالجرأة، والتزم بالنقاش الحر المبني على معطيات واقعية، واسترشد بخلاصات تجارب حركات التحرر، وأعلى من شأن نتائج البحث التاريخي المعمق حول الوقائع المفصلية التي شهدتها القضية الفلسطينية.

وإذا كان أفضل ما يتمناه أي كاتب أن يُقبل الجمهور على نصه بالقراءة والنقاش، وهو ما فعلناه هنا، فإن أفضل ما يتمناه القارئ أن يقرأ نصاً رصيناً وماتعاً، وهو ما اتسم به هذا الكتاب.