الأوروبيون والعرب لا يدركون طريقهم مثلما يدرك الأميركيون طريقهم

فتحي الورفلي
16-03-2020


كتب: فتحي الورفيلي




تعجبني كثيرا المواقف الأوروبية الأخيرة متمثلة في إعلان ماكرون وميركل عن رغبتهما في إنشاء جيش أوروبي مستقل، وفي محاولة إيجاد صيغة قانونية للالتفاف على العقوبات الأميركية على إيران، وإتاحة الفرصة لها كي تبيع نفطها دون وقوع من يشتريه منها تحت طائلة تلك العقوبات، فهذا يدل على أن الأوروبيين جادون في محاولة التحرر عن الولايات المتحدة وعن هيمنتها عليهم..



 



فمن يعتقد أن أوروبا وهي تحاول الالتفاف على العقوبات الأميركية على إيران إنما تدافع عن مصالحها الاقتصادية فهو واهم، لأن مصالح أوروبا الاقتصادية من التجاوب مع عقوبات الولايات المتحدة على إيران ستكون أكبر من مصالحها وهي تلتف عليها، هذا لمن يعرف كيف تتحرك مفاعيل الاقتصاد العالمي، والنفطي منه على وجه الخصوص..



 



ولكن أوروبا ترى في رفضها الخروج من الاتفاق النووي ورفضها العقوبات الأميركية على إيران، ضربا من ضروب منافسة واشنطن والخروج على إرادتها، وهي السياسة الأوروبية التي عبرت عنها بشكل خجول وإن يكن بجرأة نسبية دعوة ماكرون وميركل إلى إنشاء جيش أوروبي..



 



ولكن مع الأسف يبدو أن أوروبا ما تزال من خلال نخبها الحالية لا تعرف طريقها جيدا، أو أنها تتعامى عنه، أو أنها محكومة بإرثها التاريخي الاستعماري للعرب بالدرجة الأولى، فتندفع بفعل ذلك الموروث نحو ما يجعلها تحيد عنه..



 



فما لم يدرك الأوروبيون أن التنافس الحقيقي بين أوروبا وأميركا ليس على إيران ولا على الهند وباكستان، ولا حتى على الصين، وإنما هو على العرب، وعلى أرض العرب، وتحديدا على الجزيرة العربية والهلال الخصيب، فإنهم سيبقون بعيدين عن سبر معالم طريق تحررهم من واشنطن..



 



فليس أمرا عابرا أن يتصرف الرئيس الأميركي بنزق شديد إزاء فكرة الجيش الأوروبي بشكل أخرجه عما يفترض فيه من دبلوماسية الرؤساء عادة، فبدا وكأنه يَرْدَحُ لماكرون أكثر من كونه ينتقده، لأن فكرة الجيش الأوروبي المستقل تجسِّد مظهرا حقيقيا من مظاهر التوجه نحو الاستقلال عن أميركا، فيما لم يبدر منه أي تعليق على كل محاولات أوروبا الالتفاف على عقوباته على إيران..



 



أميركا مدركةٌ لطريقها جيدا..



 



فما دامت الساحة العربية المشرقية وعلى رأسها الخليجية والأردنية والمصرية ساحة لعب أميركية دون منافس أوروبي، وما دامت الساحتان "العراقية" و"السورية" كذلك إلى حد ما حتى الآن وهما ترتسمان باللون الأميركي المبطَّن، "فلتبرطع" أوروبا ولترقص حيثما شاءت، فهذا لا يهم أميركا كثيرا، بل هو يجعل أوروبا تنشغل وتهدر الكثير من قوتها وطاقتها وجهدها في ساحة ليست هي الساحة التي تمثل فقرة المحور في السياسة الإمبراطورية الأميركية العالمية التي تهيمن من خلالها على العالم..



 



ما يعاني منه الأوروبيون من عدم إدراك لطريق التحرر عن الهيمنة الأميركية، يقع فيه العرب أيضا، فهم بدورهم أبعد ما يكونون عن إدراك طريق الاستقلال عن الهيمنة الأميركية، ونحن نتحدث هنا عن النخب الثقافية والفكرية والوطنية وليس عن الأنظمة، فالأنظمة قد حسمت أمرها منذ زمن، وأصبحت جزءا لا يتجزأ من الفضاء الإمبراطوري الأميركي العالمي..



 



أيها الأوروبيون:



 



إن استقلالكم عن الولايات المتحدة يبدأ من منافستها الحقيقية على الحظوة بالعرب، وليس على تحديها في أي مكان آخر في العالم، "إيران، كوريا، الصين، الهند.. إلخ". فمع أن محاولاتكم الالتفاف على العقوبات ضد إيران يعتبر موقفا إيجابيا إذا كانت الغاية منه عدم الرضوخ للأميركيين، إلا أنه لن يكون هو الطريق إذا كنتم تتصورون أنكم من خلال موقفكم هذا تجسدون ما تتصورون أنه استقلال عن الأميركيين، لأن استقلالكم الحقيقي عنهم يبدأ من انتزاع العرب من هيمنتهم، والتحالف الحقيقي معهم، وهذا مع الأسف ما فشلتم فيه لأنكم لم تعيروه الاهتمام والأولوية، فتركتم الساحة العربية لهم وحدهم، فتركتكم أميركا تسبحون في المستنقعات الأخرى البعيدة عن تلك الساحة والقريبة منها، والتي ظننتم أنها بحيرات النفوذ الأميركي العالمي، فإذا بها تبعدكم عن ساحة المعركة الحقيقية..



 



وأنتم أيها العرب "النخب وليس الأنظمة"، فالأنظمة كلها ساقطة:



 



إن استقلالكم عن الإمبريالية الأميركية لا يبدأ من الارتماء في أحضان روسبا أو إيران أو تركيا، بل من خلال بناء أنفسكم بشكل مستقل بمشروع مستقل، يحدد أوروبا كحليف استراتيجي مستقبلي يعتبر انتزاعه من الولايات المتحدة هو المقتل الحقيقي لها، عندما تتمكنون أنتم وأوروبا من تحويل البحر الأبيض المتوسط إلى بحيرة عربية أوروبية، فيتغير وجه العالم في الاتجاه الصحيح, وبعد ذلك تستطيعون رسم خرائط تحالفاتكم الفرعية بالشكل الذي يتناسب مع هذه الاستراتيجية، وستجدون لإيران ولتركيا، بل وحتى لأثيوبيا إن شئتم أمكنتها الصحيحة والملائمة في هذه الاستراتيجية..



 



أما إذا لم يبدأ الأوروبيون من هذه النقطة، واستمروا في أوهامهم، وإذا لم تنطلق النخب العربية من هذه النقطة واستمرت هي أيضا تعيش الوهم الذي تقسِّم العالم بموجبه إلى "إمبريالية أميركية أوروبية" تضعها في سلة واحدة، وإلى "مقاومة روسية إيرانية.. إلخ" تضعها هي أيضا في سلة واحدة مناهضة للسلة الأخرى، فسوف نعيش الدهر ونحن "مَحَلَّك سِرْ"، بسبب هذه النخب البائسة..



 



إن هذا التقسيم النمطي للخنادق، وبعد أن وعته الولايات المتحدة على مدى عقود من التعامل معه، غدا بالنسبة لها هو الوعاء الذي تُؤَطِّرُ في داخله مشروعها الإمبراطوري القادم، مع إعادة تأهيله وإنتاجه بتغييرات طفيفة فيه كلما لزم الأمر..



 



وليس أدل على ذلك من سيرورات الأزمة السورية والأزمة اليمنية والأزمة العراقية، والتي ليس من الصعب اكتشاف أنها سيرورات تتيح الفرصة لتعددية قطبية على النمط الأميركي بعد أن سئمت واشنطن من الأحادية القطبية بالغة الكُلَف، وخاصة الكُلَف الأخلاقية والقانونية والاقتصادية منها، فلماذا لا تخفف عن نفسها هذه الكُلف، وتُحَمِّلُها لمن يسيل لعابهم على الشراكة حتى لو كان الأمر لا يتحقق لها إلا بعلاقات السفاح السياسي المنتج للحمل الحرام بالمشاريع المبتورة والمبتسرة؟!



 



إن هذا المشروع الإمبراطوري الأميركي لا يسقطه من أساساته سوى المشروع العربي الأوروبي الحقيقي، وكل ما يجري في الإقليم إن هو إلا إشراك لغير الأميركيين في طبخة لا يجني ثمارها إلا الأميركيون أنفسهم في نهاية المطاف..



 



تلك هي في تصورنا الحقيقة الكلية الكبرى لما يحدث ولما يفترض أن يحدث، وكل ما سوى ذلك مجرد تفاصيل.