الإدارة "المدنية" في الضفة الغربية

عماد أبو عواد
05-08-2019



عماد أبو عوّاد\ مدير مركز القدس لدراسات الشأن الإسرائيلي والفلسطيني

من كتبت له الأقدار المرور كل صباح من أمام مستوطنة "بيت ايل"، فإنّ أول ما يلفت انتباهه عدد السيارات المنتشرة على جوانب الطريق والتي تحمل اللوحة الفلسطينية، هذا المشهد يفتح مباشرة العديد من الأسئلة التي لربما اجاباتها معلومة. مشهدٌ لم يكن الفلسطيني يتمناه، الفلسطيني بانتماءاته الفكرية المتعددة، وإن اختلف مع نفسه، ولربما انقسم على ذاته، فإنّه بالتأكيد لا تروق له مشاهدٌ كتلك.

أثناء مروري صباحاً بالشارع الرئيسي، الذي يربط رام الله بالمناطق الشمالية في الضفة الغربية، أمام هذا المشهد المتزايد من الفلسطينيين الذي يقصد مباشرة الإدارة العسكرية في "بيت ايل"، والتي تٌعرف باسم "الإدارة المدنية"، تساءلت؟، ما الدافع لهذا العدد من الفلسطينيين هنا؟، وهل بالفعل باتت "إسرائيل" تُريد تجاوز السلطة؟ من أوصلنا إلى هذا الحال؟ وما مستقبل الصورة الموسع، في ظل استمرار هذه المشاهد؟.

لربما الدوافع التي تدفع الفلسطيني لمثل هذا المشهد، معلومة ومتنوعة، فأمام الحاجات الاقتصادية واستصدار تصاريح العمل في "إسرائيل"، استصدار تراخيص بناء في مناطق "ج"، التي يُسيطر عليها الاحتلال في الضفة عملياً ورسمياً، وغيرها من الحاجيات المرتبطة بقوت يوم الفلسطيني، والتي يسعى الاحتلال لربطها مباشرةً ضمن اجندته وبشكل مباشر.

وبغض النظر كنت ممن يُعارض أوسلو أو من الداعمين له، فإنّ تلك الصورة تشي عن العمل الإسرائيلي الدؤوب، لتجاوز السلطة في كثير من الملفات، وكسر الحواجز النفسية في تواصل الاحتلال مع الفلسطيني، وما نموذج المنسق عنّا ببعيد، ليجد الفلسطيني نفسه، أمام سلطة محدودة الصلاحيات، وأمام احتلال من غير تكلفة.

هذا المشهد، كمن يبلع المنجل تماماً، فلا هو يستطيع هضمه ولا التخلص منه، وحتى من عارض اتفاقية أوسلو، واعتبرها ضمن مشهد يُساهم في تخفيف أعباء الاحتلال، والتنازل عن الأرض الفلسطينية، فإنّ هذا المشهد بات يزعجه، فهو حتى إن عارض أبناء جلدته في توجههم السياسي، فإنّه كان يتمنى أن يراهم بشوكة قوية، علّها تنافح الاحتلال مستقبلاً، لتستعيد ما تبقى من الأرض، أو على الأقل أن تكون سلطة مكتملة، تُريح الفلسطيني من عبء الاحتكاك اليومي بالاحتلال، على أمل تحرير ما تبقى في المستقبل. اليوم لا يختلف المؤيد والمعارض للسلطة، على أنّها باتت سُلطة مقضومة الصلاحيات، تنهشها "إسرائيل" في الكثير من الملفات، تاركةً لها الجانب الذي يُسيء وجهها أمام شعبها.

كثيراً ما أسمع مصطلح أنّ الاحتلال لا يُمكن أن يستغني عن وجود السلطة، وأنّ السلطة هي إرادة دولية إقليمية، قبل أن تكون إرادة جزء من الفلسطينيين، لكنّي في الحقيقة أختلف مع من يرى أنّ الاحتلال يعتبر السلطة قدراً واقعاً، لا مجال للتخلص منه. بل هناك توجه حقيقي لدى الاحتلال يتمثل بضرورة العمل ضمن سياق عدم وجود السلطة، وما زيادة نشاط الإدارة العسكرية، إلّا دليلٌ على تهيئة الأجواء لذلك، وهنا نُذكّر أنّ أنصار اليمين المتطرف، وجزء من اليمين المعتدل الحاكم في "إسرائيل"، يعتبر أنّ السلام مع الفلسطينيين، لن يتجاوز سقف السلام الاقتصادي، الذي بموجبه تمنح "إسرائيل" بشكل مباشر الفلسطيني ميزات اقتصادية، لن تتجاوز كونها ضمن عمل الفلسطيني في سياق خدمة اقتصاد الاحتلال. سينشغل الفلسطيني بلقمة عيشه، وتتداخل الحياة في الضفة ضمن سياق استيطان مستمر مؤمّن، وفلسطيني محصور في جغرافية معينة، تعتمد على الاحتلال في قوت يومها.

من أوصلنا لهذا الحال، ستتعدد الإجابات وفق الانتماءات الفكرية، هناك من سيقول أنّ عدم منح السلطة وقتاً لاستيفاء استحقاقاتها من الاحتلال هو السبب، وهناك من سيُحمل من ذهب باتجاه أوسلو المسؤولية، على اعتبار أنّها منحت الاحتلال فرصة التقاط الانفاس، وتجسيد الاستيطان في الوقت الذي فاوض فيه الفلسطيني. لكن ما يُمكن قوله أنّ الفلسطيني بالمجمل يتحمل المسؤولية، لربما بدرجات متفاوتة، تتصدر السلطة الفلسطينية فيها المرتبة الأولى، لكن لا يُمكن اغفال الدور الفصائلي بالمجمل، إلى جانب الوعي الفلسطيني الذي بات يُراكم صورة سوداوية عن الواقع، تتقبل أنّ الاحتلال أمرٌ واقع لا مفر منه.

المشاهد الحالية ترسم الصورة المستقبلية، التي لن تتجاوز حدود المزيد من سيطرة الاحتلال وتوغل ادارته العسكرية، والمزيد من تحويل السلطة الفلسطينية لشبه إدارات محلية كُبرى، دون سقف سياسي وطموح قومي. هذه الصورة السوداوية، حراكٌ واحدٌ من الممكن أن يبددها، فقط الذهاب باتجاه وحدة فلسطينية حقيقية، وصياغة برنامج وطني موحد، يرفع فيه الفلسطيني سقف مطالبه لحدوده التاريخية، وهنا فقط ستعود الصورة إلى حقيقتها، شعبٌ محتلٌ يريد أرضه، وقوة غاصبة تحتل وطناً مساحته 27 ألف كيلومتر مربع.