الارتفاع في منسوب العنف والجريمة.. عين على الضفة الغربية

تقى فارس
06-03-2021
أوراق تحليلية

الارتفاع في منسوب العنف والجريمة

 عين على الضفة الغربية

تقى فارس

كاتبة فلسطينية

 

مقدمة

أصدرت محكمة بداية بيت لحم يوم الأربعاء 17 فبراير/ شباط عام 2021 قرارًا بالإفراج عن ثلاثة متهمين بتعذيب وقتل إسراء غريب، وذلك بكفالة عن كل واحدٍ منهم قدرها عشرة آلاف دينار، على أن يتم استئناف مثولهم أمام المحكمة في الجلسات التالية، هذا وقد ثبت مقتل إسراء بعد تعرضها للعنف بشكليه الجسدي والنفسي، حيث تعرضّت للضرب حتى الوفاة في أواخر آب/ أغسطس عام 2018[1].

تسعى هذه الورقة لتسليط الضوء على ما شهدته الفترة الأخيرة من تمادٍ ملحوظ في منسوب العنف المجتمعي في فلسطين، وما نتج عنه من ارتفاع في مستوى الجريمة التي باتت ملابساتها ظاهرة للعيان دونما أية تحفظات عليها، مما يدفعنا إلى طرحها ومناقشة مسبباتها المباشرة وغير المباشرة وتداعياتها على المجتمع الفلسطيني الذي يعيش ظروفًا غير طبيعية، مسلطةً الضوء على الضفة الغربية.

البحث في الجذور

تعود الإحصائيات الرسمية المتوفرة بشأن الجرائم في الضفة الغربية وقطاع غزة إلى العام 1996، وتتنوّع أشكال الجريمة وما يترتب عليها من ضحايا منذ ذلك العام وحتى يومنا هذا، فعلى سبيل المثال يرجع الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني في إحصاءاته السنوية لباب الضحية للعام 1996، حيث يضع عدة مؤشرات يعتمدها منذ بداية هذا العام في سنوات رباعية متتالية حتى عام 2016 مثل: السرقة والسطو وإتلاف الممتلكات والتهديد المعلوماتي والاعتداء و"جرائم أخرى"، مبينًا نسبها في الضفة الغربية وقطاع غزة، وتفتقر هذه الإحصاءات إلى تعداد رقمي لضحايا القتل في هذه الجرائم على الرغم من الوضوح في ارتفاع نسبة المؤشرات خلال السنوات الست المذكورة[2].

تدل هذه المؤشرات أن الجريمة ليست وليدة الحاضر إنما تعود لجذور نمت مع مضي السنوات، حتى شهدت الجرائم تطورًا ملحوظًا نوعًا وكمًا، متابعةً وحكمًا.

ماذا تُحدثنا الأرقام؟

قدّمت الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان "ديوان المظالم" تقارير شهرية لعام 2020، وثقت فيها عدد حالات الوفاة غير الطبيعية في الضفة الغربية وقطاع غزة، حيث بلغ عددها 204 حالة وفاة، وما يقارب 97 حالة وفاة منها في الضفة الغربية[3]، وإلى جانب ذلك فإن تصريحًا أدلى به المتحدث باسم الشرطة الفلسطينية العقيد لؤي ارزيقات يشير إلى أن 43 جريمة قتل سُجلت، وأن معدلات الجريمة قد ارتفعت عن العام الماضي بنسبة 42% خلال شهر آب من العام المنصرم[4].

ولا بدّ عند الحديث عن الأرقام أن نأخذ بعين الاعتبار تذبذب معدلات الجريمة والعنف تبعًا لكل مرحلة تاريخية وتبعاتها، فإذا اطلعنا على ثلاث سنوات في ثلاثة عقود متتابعة فإننا نرى في تعداد الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان لحالات القتل، تحت بند الاعتداء بالحق على الحياة، أن حالات القتل جاءت كالتالي: 10 حالات قتل سجلتها الهيئة خلال عام 1999، جاءت على النحو التالي: حالة تنفيذ حكم إعدام، ووفاة ثلاثة أشخاص داخل السجون ومراكز التوقيف الفلسطينية، وحالتا وفاة نتيجة استخدام القوة المفرطة في التعامل مع المتظاهرين، وأربعة حوادث قتل جنائي بسلاح الجهاز الأمني خارج أوقات الدوام الرسمي[5].

بينما سجلت 236 حالة وفاة غير طبيعية في الضفة الغربية وقطاع غزة، منها 68 حالة في الضفة الغربية عام 2009، أما أسباب القتل فقد تراوحت بين الشجارات العائلية، والقتل على ما يسمى "بشرف العائلة"، وسوء استعمال السلاح، بالإضافة إلى حالات قتل بقيت ملابساتها غامضة[6].

وسجلت 140 حالة وفاة غير طبيعية عام 2019، وتراوحت أسبابها ما بين الشجارات العائلية بواقع 19 حالة بالضفة الغربية، والقتل على خلفية ما يسمى "بشرف العائلة" بواقع حالة واحدة، لكن بقي مصير مقتل 19 أنثى مجهولًا، بالإضافة إلى وفاة واحدة في الضفة نتيجة سوء استخدام السلاح، و25 حالة وفاة في ظروف غامضة في الضفة الغربية، بالإضافة إلى حالات أخرى[7].

إذن فالأرقام رغم أنها تعالج مسافات بعيدة تخللها أحداث مفصلية أدت إلى ارتفاع نسبة القتل في فترات معينة، إلا أنها تعطي لمحة سريعة حول متوسط أعداد القتلى والتحولات التي طرأت على مسببات الجريمة والمسار الذي سارت فيه في العقد الأخير والذي ما زال يأخذ في التفشي والارتفاع خلال العام المنصرم.

التحولات الاجتماعية تفرض واقعًا مغايرًا

لم يسلم المجتمع الفلسطيني الذي خضع مجبرًا لقوانين التحوّل النيوليبرالي التي تحكم المساحة الإقليمية العربية المجاورة في السنوات الأخيرة، وما يحاول هذا التحوّل تعزيزه من قيم اجتماعية ليبرالية فردانية، تنظر إلى المجتمع بعين محاولة الحفاظ على البقاء، أو بدرجة أقل تحقيق الذات، وذلك تبعًا للسياسات التي تفرضها الحكومة على المواطن، والتي لا تساهم في تحقيق رفعة المواطن على مستوى الأصعدة التي تضمن تنامي شعوه بالانتماء المجتمعي[8]، هذا التحول بدد من نظرة الفلسطيني إلى مجتمعه، وأبعده عن وضع محاولات جدية للنهوض بالمجتمع وإعادة اللحمة المجتمعية وما يوازيها من قيم لا فردانية.

إلى جانب ذلك فإن التغيّب الواضح الذي طرأ على المؤسسات الرسمية وغير الرسمية والتي تعنى بالجوانب الاجتماعية أدى إلى تفكك القيمة الاجتماعية التي يلتف حولها المواطنون، والتي كانت في السابق تشكّل دافعًا ذاتيًّا يبقي المواطن يشعر بالمسؤولية المجتمعية الواقعة عليه، والتي يجب أن يحافظ على وجودها واستمرارها.

القانون وترجماته على أرض الواقع

يعاني النظام القضائي الفلسطيني من أزمة حقيقية، انعكست طرديًّا مع تفشي العنف والجريمة بشكل عام، فنلاحظ تغيّبًا واضحًا للإجراءات القانونية التي من المفترض أن تشكّل درعًا حاميًا للجهة المُعنفة والواقعة تحت الجريمة، ومحاسبة لمرتكب الجريمة، ورادعًا لمن يفكر في ارتكابها لاحقًا. في حالتنا تتلاشى الثلاث نقاط السابقة؛ وهذا بدوره يسهّل الطريق على من يفكّر في ارتكاب أيّ عمل إجرامي، فالعقوبات أصبحت مخففة وعقوبة السجن لفترات طويلة أو سن عقوبة الإعدام الذي أُقرّت سابقًا لم تعد موجودة[9].

على الصعيد الآخر فإنّ البديل المأخوذ به مجتمعيًا في ظل غياب القانون هو النظام العشائري والذي يتم خلال جلساته وقف أي محاولة أخذ بالثأر تقوم بها عائلة المجني عليه، من خلال دفع مبلغ مالي ذي قيمة مرتفعة لعائلة المجني عليه، هذا الحل الذي تتبعه معظم العائلات، وإن كان يساهم في وقف الاقتتال بين العائلات، فإنة لا يشكّل رادعًا حقيقيًّا أمام المنظومة الإجرامية، إنما يفلت من خلاله المجرم في كثير من الأحيان من العقاب الملموس.

تحضر في هذا السياق المناطق المصنفة "ج" والتي تدخل في حيّز السيطرة العسكرية والإدارية الصهيونية، ويستنزفها الاحتلال الصهيوني سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا، ويعمل على تعزيز البيئة المناسبة لانتشار الجريمة عن طريق نشر مسببات الفلتان الأمني، بالإضافة إلى انتشار السلاح، وعدم قدرة أجهزة السلطة الفلسطينية انتهاج سياسة مواجهة هذا الانتشار، إلى جانب تفشي المخدرات، وما ينتج عن ذلك من ارتفاع في نسبة الجريمة[10].

ما الذي يميّز الحاضر

تعد الجريمة إحدى الآفات التي أصابت المجتمع الفلسطيني في عمقه، وهي وإذ لم تكن يومًا جديدة، فإنّها اليوم باتت تشكّل خطرًا أكبر في ظل ما يعتري الواقع من ضربات موجعة كان تأثيرها الأساس على المجتمع، وأسهمت في جعل ملابسات الجريمة أكثر سهولة لمن يريد انتهاجها، لاسيما، مع الواقع الضاغط على المواطنين سياسيًا بوقوعهم تحت الاحتلال وتبعاته، واجتماعيًا بخضوعهم للتحولات النيوليبرالية في ظل تراجع للقيم الاجتماعية المُحافظة على نسب المساءلة المجتمعية، وتردّي الحالة الاقتصادية مما بات يضيق الخناق على العائلات الفلسطينية.

رافق ذلك انتشار السلاح، وسهولة القيام بالجريمة، والافتقار إلى أدنى مستويات منعها، والنظرة المجتمعية للجريمة التي أصبحت عاجزة لا تملك أية مقومات للانتفاض في وجه انتشارها وتكتفي برفضها المعنوي، زد على ذلك أزمة كورونا وتبعاتها على مختلف النواحي والتي زادت من الضغط المجتمعي، خصوصًا على الأسرة التي ارتفعت حالات العنف فيها والناتجة عن الكبت لأوقات طويلة، وهذا يعود للشرخ الواقع بين أفراد العائلات الذين ينظرون إلى أنفسهم بأنهم مصنفون في أدوار محددة (العمل، الدراسة، المنزل..إلخ) وفي الحالة التي تغيّرت فيها الأحوال طرأ على هذا التصنيف خلل، وأمام سهولة ممارسة العنف في المجتمع بات المجال مفتوحًا لاستخدامه، خصوصًا مع تغيب السياسات التعويضية عن خسارات أزمة جائحة فايروس كورونا.

إلى جانب ذلك لا بد من التعريج على غياب تأثير المؤسسات بأشكالها المختلفة، فالمؤسسات الدينية والمتمثلة في المساجد، غابت قسرًا بفعل الواقع السياسي الذي يسعى لتحجيم تأثيرها، فقد كانت تمثّل خطابًا قريبًا من فهم الناس، وكان لها دور في تنمية مسؤوليتهم الدينية التي تمنع من القيام بأي فعل إجرامي، أما المؤسسات الأهلية فتنطلق بين الفينة والأخرى بحملات لحظية تأخذ طابعًا بروتوكوليًّا شكليًّا، وتفتقر إلى الانخراط في مساحات مهمة كالأرياف والقرى.

التغيب شمل أيضًا المؤسسات الرسمية التي تسارع في إغلاق ملفات الجرائم، أو تنهي التحقيقات سريعًا دون الخروج بنتائج واضحة، ومعلومة للمواطن، والمؤسسات الإعلامية التي وإن كانت تسعى لتسليط الضوء على الجرائم والمساهمة في جعلها قضايا رأي عام تتصدر المواقع، إلا أنها لا تستطيع الوصول إلى كافة التفاصيل المحيطة بالجريمة[11]، كما أنها لم تشكل قوة ضاغطة على المؤسسات الرسمية للوقوف جدّيًا أمام هذا الارتفاع في حدة الجرائم وما يترتب عليها من إجراءات.

خاتمة

قد يبدو أن السؤال الذي يجب طرحه في الخاتمة هو "ما الحل؟"، لكنّ الإجابة على هذا السؤال تتطلب جهدًا بحثيًا مضاعفًا ودقيقًا، وحتى الآن فإن الظروف المَعيشة بما فيها من تعقيدات لا تفتح أفقًا للإجابة على هذا السؤال، والأهم من ذلك تطبيقه.

لكنّ المؤكد في هذا السياق أن التحولات التي طرأت على المجتمع ليست هينة، وهي في حالة تصاعد، قد تؤدّي، مع التحولات الإقليمية والدولية القائمة إلى تغيرات جذرية على بنية المجتمعات وتصرفاتها، لذلك فإن نسبة الجريمة والعنف الآخذة في الارتفاع كمًا ونوعًا في المجتمع الفلسطيني ونظائره العربية على حدّ سواء، ليست بحاجة إلى محاولات خجولة للحد منها، إنما بحاجة إلى جهد حقيقي منظم وفعال يعالج عمق المسببات.

[1]  شبكة قدس الإخبارية. "قرار قضائي بالإفراج عن المتهمين بقضية إسراء غريب". 17. فبراير. 2012.

http://bit.ly/37u989D

[2]  الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني. "قائمة بالمؤشرات الرئيسية لمسح الضحية 1996، 1999، 2004، 2008، 2012، 2016.

https://bit.ly/37zgtVo

[3]  يُنظر: التقارير الشهرية للهيئة المستقلة لحقوق الإنسان "ديوان المظالم حول انتهاطان حقوق الإنسان في مناطق السلطة الوطنية الفلسطينية خلال أشهر عام 2020.

https://bit.ly/37v71lY

[4] النجاح الإخباري. "الشرطة: ارتفاع نسبة جرائم القتل بفلسطين بنسبة 42% خلال 2020".

http://bit.ly/3bmoa2l

[5] الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان، التقرير السنوي لعام 1999.

file:///C:/Users/HP/Downloads/aar5.pdf

[6] الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان، التقرير السنوي الخامس عشر لعام 2009.

file:///C:/Users/HP/Downloads/aar15.pdf

[7] الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان، التقرير السنوي الخامس والعشرون لعام 2019.

https://bit.ly/3bnqKVT

[8]  ليزا تراكي، "المتخيل الاجتماعي الجديد في فلسطين بعد أوسلو". إضافات، ع 26-27، ربيع- صيف 2014.

[9] يُنظر: تم الحكم بالإعدام شنقًا حتى الموت بحق ثلاثة مواطنين بعد إدانتهم بالخطف والاغتصاب والقتل المتعمد لمواطنة فلسطينية عام 2004؛ الهيئة الفلسطينية المستقلة لحقوق المواطن، "حالة حقوق المواطن الفلسطيني عام 2004".

file:///C:/Users/HP/Downloads/aar10.pdf

[10] ريما شبيطة، " نحو سياسات لتعزيز التنمية في مناطق (ج)"، مسارات.

http://bit.ly/3pCH8H1

[11]  أمين أبو وردة، التعاطي الإعلامي مع قضايا جرائم القتل في المجتمع الفلسطيني، 2015.