الاستيطان تسارع وتضاعف بعد أوسلو... نتنياهو يفكر بصوت مرتفع
رأي
الاستيطان تسارع وتضاعف بعد أوسلو... نتنياهو يفكر بصوت مرتفع
سري سمور
كان حزب العمل هو البادئ بالنشاط الاستيطاني في الضفة الغربية، وصار ملف الاستيطان ميدان تنافس ومزايدة بين الأحزاب الصهيونية، فكل حزب يريد إثبات تقدمه في هذا الميدان، والضحية بطبيعة الحال هي الأرض الفلسطينية المستهدفة والإنسان الفلسطيني الذي ورثها عن الآباء والأجداد.
كان إعلان حكومة حزب العمل بزعامة المقتول القاتل رابين، عن عدم بناء مستوطنات جديدة في 1992 مقابل الحصول على ضمانات قروض أمريكية، مجرد خدعة وذرًا للرماد في العيون؛ فرابين استثنى القدس، والتي شهدت حملات استيطانية محمومة، ومصادرة للأراضي، ذلك أن مشروع "القدس الكبرى" من ضمن المسلّمات في الفكر السياسي لكل الأحزاب والمسئولين الصهاينة، ويكاد يكون أكثر القضايا المتفق عليها بينهم، إضافة إلى قيام الحكومة العمالية بتوسيع وزيادة بناء الوحدات السكنية وجلب المستوطنين إلى المستوطنات الموجودة في الضفة الغربية وقطاع غزة.
وقد تم تأجيل التفاوض والبحث حول مصير المستوطنات في الضفة والقطاع إلى المرحلة النهائية، وبالتأكيد ستستغل "إسرائيل" الفرصة لتوسعة المستوطنات وابتلاع مزيد من الأراضي لخلق واقع جديد، ولن تأبه بالدعوات الناعمة الخجولة من قبل الغرب بوقف أو تجميد الاستيطان أو عدم إحداث تغيير في الوضع القائم.
هناك إحصائيات رسمية، ومن جهات أكاديمية وبحثية حول الاستيطان، توضح الحقائق المرعبة، ومن أبرز تلك الحقائق تضاعف عدد المستوطنين منذ توقيع اتفاق إعلان المبادئ (أوسلو) حتى الآن سبعة أضعاف، وأن هناك 151 مستوطنة قائمة في الضفة الغربية (تشمل منطقة القدس) وأن عدد المستوطنين قبل توقيع الاتفاق كان 115 ألفًا، ووصل في سنة 2018 إلى 765 ألف مستوطن صهيوني، وهذه الأرقام تؤكدها جهات عدة منها وكالة "وفا" الفلسطينية الرسمية، والمكتب الوطني للدفاع عن الأرض ومقاومة الاستيطان، والجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني وغيرها.
فقد انسحبت قوات الاحتلال من مراكز المدن الكبرى، وأشغلت الناس بتفصيلات الحكم والإدارة، ومتطلبات العيش، وفي ذات الوقت عمدت الآلة الصهيونية إلى الأرض كي تنهشها وتنهبها متغطية بوجود (عملية سلام)، وافتقد الفلسطينيون آلية مواجهة موحدة متفق عليها، وتعاملوا بردات فعل لم تخل من الارتباك والأوهام، فيما كان الصهيوني المدعوم من الغرب والشرق المرتاح إلى استكانة أقطار العرب، يواصل مخططاته ويخلق واقعًا جديدًا على أرض الضفة الغربية!
نتنياهو والتفكير بصوت مرتفع
من الأمور التي أحب التأكيد عليها دائمًا، أن الكيان الصهيوني، يدار ويحكم من قبل منظومة أمنية- عسكرية ترسم وتقرر وتنفذ السياسات، وخاصة ما يتعلق منها بالشأن الفلسطيني، ومجمل محاور الصراع، وما الحكومات برؤسائها ووزرائها وأذرعها وفوقهم "الكنيست" الذي من خلال انتخاباته يتولّون مناصبهم ومواقعهم، إلا موظفين تنفيذيين، وهذا ليس كلامًا دافعه نظرية مؤامرة أو انغماسًا في عوالم التحليلات البوليسية وما تمتاز به من استغراق في الأسرار الغامضة، بقدر ما هو حقيقة يمكن رؤيتها بوضوح، خاصة في العقدين المنصرمين، وتدعمها مرقومات وتصريحات واضحة من قبل القوم، فلم يعودوا يخبؤون الحقيقة.
وهذا شيء يفترض أنه معلوم بداهة؛ فالأذرع الأمنية والعسكرية للمشروع الصهيوني نشأت وتطورت وعملت قبل الإعلان رسميًا عن قيام "دولة إسرائيل" والاعتراف بها ووجود التمثيل لها في المنظمات والهيئات الدولية، كما أن الآباء المؤسسين للكيان كانوا من رجال المنظمات والعصابات اليهودية التي استخدمت القتل والإجرام لإرهاب وتهجير الفلسطينيين من بن غوريون وحتى رابين ومرورًا بشامير.
فإذا كان في "إسرائيل" دولة عميقة فهي أجهزة المخابرات ومؤسسة الجيش؛ بل دومًا نقول:كل دولة لها جيش، إلا "إسرائيل" فهي جيش له دولة!
بناء على ذلك يجب عدم الذهاب بعيدًا في الحديث عن دور الجالس في (ديوان رئاسة الوزراء) في القدس المحتلة والذي لا يمكنه تقرير شيء خارج الهامش المتاح من أذرع (الدولة العميقة) وإلا فإنه سيجد نفسه قد تفكك ائتلافه الحكومي بطريقة أو بأخرى، أو أنه في قفص الاتهام بتهمة الرشوة أو الفساد. على الأقل هذا واقع الكيان الصهيوني بعد اغتيال إسحاق رابين.
بنيامين نتنياهو الصهيوني المتأمرك، انتخب بالاقتراع المباشر للمرة الأولى والأخيرة في تاريخ الكيان في 1996 وقد فاز على منافسه شمعون بيريز، والأخير زعم أن (عمليات حماس هي سبب خسارته) وقد كان هناك رهان عربي وفلسطيني على شخصيات ومسئولين إسرائيليين من أمثال (شمعون بيريز ويوسي بيلين) وعلى حزب العمل وحلفائه وما كان يسمى (كذبًا) معسكر السلام في "إسرائيل"، بأنهم سيقبلون بتطبيق مبدأ (الأرض مقابل السلام) وينسحبون حتى حدود الرابع من حزيران/ يونيو 1967، وجاء نتنياهو ليبدد هذا الوهم؛ وهو أصلاً وهم كبير حتى لو حكم (يوسي ساريد) من ميرتس، وسأتوسع في هذه المسألة لاحقًا إن شاء الله.
بنيامين نتنياهو اليميني المرتكز إلى المستوطنين والمهاجرين من الاتحاد السوفياتي سابقًا، كان يفكر بصوت عال فأعلن عن تبنيه للاستيطان وتوسعته؛ وأظهر تنكره للاتفاقيات مع الجانب الفلسطيني (أوسلو وما تلاها) وأنه إذا كان عاجزًا عن إلغائها، فإنه (سيقلل من ضررها) إلى أقصى حدّ.
ووجد المتفائلون العرب من النظم الرسمية أو أتباعها من (النخب) الثقافية والإعلامية الذين (أقرفونا) بالحديث عن منطقة سيعمها السلام والرخاء وتعايش الإسرائيلي اليهودي مع الفلسطيني والأردني والسوري واللبناني والمصري.. إلخ المسلم أو المسيحي، حيث سيستثمر الإسرائيلي قدراته العلمية والتقنية لتطوير المنطقة منتفعًا من الثروات الطبيعية العربية. على كل ربما أعود بشيء من التفصيل عن هذا الهراء المقرف.
أحداث هبة النفق وما تلاها من توتر مع حكومة نتنياهو لم تلغ أوسلو من حيث استمرارية الحكم الذاتي، بل تم توقيع اتفاق واي ريفر (واي بلنتيشن) برعاية أمريكية أيضًا (تم التوقيع في 1998) وكالعادة مع كل حكومات الاحتلال لم تلتزم "إسرائيل" إلا بأقل القليل مما وقعت حكومتها عليه.
نتنياهو خلق واقعًا استيطانيًا جديدًا، ربما كانت مستوطنة جبل أبو غنيم التي تحدثت عنها في مقال سابق أحد أبرز مظاهره وتجلياته، خاصة أن نتنياهو قام بتصعيد وترويج شعار الأمن وليس شعار السلام والتسوية أو ما يعرف بمبدأ (الأرض مقابل السلام)، وفعليًا رغم الصخب الإعلامي ضده فقد ثبت هذا المبدأ.
وقد أصاب الارتباك الممزوج بعتب أو غضب النظام العربي الرسمي بعيد صعود نتنياهو إلى الحكم باقتراع مباشر، وهم الذين كانوا يرون منافسه بيريز (حمامة سلام)، فعقدوا قمة في القاهرة في ردة فعل على استفزاز نتنياهو، وأتذكر وقتها كيف نظم الشاعر الراحل (نزار قباني) قصيدة وجهها إلى المجتمعين بعنوان (أحبوا بعضكم قبل أن تنقرضوا) وكان مما قاله فيها:
"إذا كان بنيامين نتنياهو استطاع أن يرفع ضغظكم العالي ويشعل النار في جهازكم العصبي ويغير فصيلة دمكم.. فشكرا له."
حقيقة نتنياهو لم يفعل شيئًا إلا خذلان (العشم الرسمي) العربي الذي سوّق لفكرة محاربة (التطرف والإرهاب) المزعوم عندنا لأن الآخر تغير وصار واحة سلام تدعونا لتفيؤ ظلالها.
وبدا وكأن المشكلة هي مع شخص بنيامين نتنياهو وليس مع المشروع الصهيوني والكيان الصهيوني؛ وكأن نتنياهو حالة شاذة في خضم هذا المشروع وأدواته وجمهوره، وصارت مهاجمته لغة/ نغمة عربية وفلسطينية دارجة، حتى أن صحفًا مصرية كانت تكتب اسمه بتقطيع مقصود (نتن-ياهو). طبعًا اعتبرت أوساط عربية هذا الأمر (فتحًا مبينًا) أو (نصرًا كبيرًا) بدعوى غضب "إسرائيل" من هذا.
ولكن مع كل التوتر مع السلطة الفلسطينية في مرحلة حكومة نتنياهو (من صيف 1996 حتى صيف 1999) فإن هذا التوتر لم يقابله تحسن وترميم للعلاقات الداخلية، أي بين حركتي حماس والجهاد الإسلامي من جهة والسلطة وحركة فتح من جهة أخرى، رغم ترويج نتنياهو أن السلطة أعطت (الضوء الأخضر) لحماس لتنفيذ عمليات ضد الكيان. طبعًا هذا كذب واضح.
وقد ساد التوتر في العلاقات الداخلية، وأستطيع القول إن أكثر فترة قبل الانقسام الفلسطيني كانت العلاقات بين حماس والسلطة سيئة ومتوترة ويسودها التراشق الإعلامي والاتهامات والإجراءات القاسية ضد حماس هي تلك الفترة. وللحديث بقة بإذن الله.
- الممواد المنشورة في موقع مركز القدس تعبّر عن آراء كتّابها، وقد لا تعبّر بالضرورة عن رأي المركز.