الاقتصاد والحاجة.. جذور الكارثة

كريم قرط
01-03-2020
كتب: كريم قرط

في البدء كتب زكريا تامر:

رحلت الغابات بعيداً عن النمر السجين في قفص، ولكنه لم يستطع نسيانها، وحدق غاضباً إلى رجال يتحلقون حول قفصه وأعينهم تتأمله بفضول ودونما خوف، وكان أحدهم يتكلم بصوت هادئ ذي نبرة آمرة: "إذا أردتم حقاً أن تتعلموا مهنتي، مهنة الترويض، عليكم ألا تنسوا في أي لحظة أن معدة خصمكم هدفكم الأول، وسترون أنها مهنة صعبة وسهلة في آن واحد. انظروا الآن إلى هذا النمر. إنه نمر شرس متعجرف، شديد الفخر بحريته وقوته وبطشه، ولكنه سيتغير، ويصبح وديعاً ولطيفا ومطيعا كطفل صغير، فراقبوا ما سيجري بين من يملك الطعام وبين لا يملكه، وتعلموا".

فبادر الرجال إلى القول أنهم سيكونو التلاميذ المخلصين لمهنة الترويض، فابتسم المروض مبتهجاً، ثم خاطب النمر متسائلاً بلهجة ساخرة: " كيف حال ضيفنا العزيز؟".

قال النمر:"احضر لي ما آكله فقد حان وقت طعامي".

فقال المروض بدهشة مصطنعة: "أتأمرني وأنت سجيني؟ يا لك من نمر مضحك! عليك أن تدرك أني الوحيد الذي يحق له هنا إصدار الأوامر".

قال النمر: "لا أحد يأمر النمور".

قال المروض: "ولكنك الآن لست نمراً. أنت في الغابات نمر، أما وقد صرت في القفص فأنت الآن مجرد عبد تمتثل للأوامر وتفعل ما أشاء".

قال النمر بنزق: "لن أكون عبداً لأحد".

قال المروض: "انت مرغم على إطاعتي لأني أنا الذي أملك الطعام".

قال النمر: "لا أريد طعامك".

قال المروض: "إذن جع كما تشاء، فلن أرغمك على فعل ما لا ترغب فيه".

وأضاف مخاطباً تلاميذه: "سترون كيف سيتبدل، فالرأس المرفوع لا يشبع معدة جائعة".

وجاع النمر، وتذكر بأسى أيام كان ينطلق كريح دون قيود مطارداً فرائسه..

وفي اليوم الثاني، أحاط المروض وتلاميذه بقفص النمر، وقال المروض: "ألست جائعاً؟ أنت بالتأكيد جائع جوعاً يعذب ويؤلم. قل إنك جائع فتحصل على ما تبغي من اللحم".

ظل النمر ساكتاً، فقال المروض له: "افعل ما أقول ولا تكن أحمق. اعترف بأنك جائع فتشبع فورا".

قال النمر: "أنا جائع".

فضحك المروض وقال لتلاميذه: "ها هو ذا قد سقط في فخ لن ينجو منه".

وأصدر أوامراه، فظفر النمر بلحم كثير.

وفي اليوم الثالث، قال المروض للنمر: "إذا أردت اليوم أن تنال طعاماً، نفذ ما سأطلب منك".

قال النمر: "لن أطيعك".

قال المروض: "لا تكن متسرعاً فطلبي بسيط جدا. أنت الآن تحوص في قفصك، وحين أقول لك : قف، فعليك أن تقف".

قال النمر لنفسه: "انه فعلا طلب تافه ولا يستحق أن أكون عنيداً وأجوع".

وصاح المروض بلهجة قاسية آمرة: "قف".

فتجمد النمر تواً، وقال المروض بصوت مرح : "أحسنت".

فسر النمر ، وأكل بنهم بينما كان المروض يقول لتلاميذه "سيصبح بعد أيام نمرا من ورق".

وفي اليوم الرابع، قال النمر للمروض: "أنا جائع فاطلب مني أن أقف".

فقال المروض لتلاميذه: "ها هو قد بدأ يحب أوامري"

ثم تابع موجها كلامه إلى النمر: "لن تأكل اليوم إلا إذا قلدت مواء القطط".

فكظم النمر غيظه، وقال لنفسه: "سأتسلى إذا قلدت مواء القطط".

وقلد مواء القطط فعبس المروض، وقال باستنكار: "تقليدك فاشل. هل تعد الزمجرة مواء".

فقلد النمر ثانية مواء القطط، وكلن المروض ظل متجهم الوجه، وقال بازدراء: "اسكت اسكت. تقليدك ما زال فاشلا، سأتركك اليوم تتدرب على مواء القطط، وغدا سأمتحنك . فإذا نجحت أكلت ، أما إذا لم تنجح فلن تأكل".

وابتعد المروض عن قفص النمر وهو يمشي بخطى متباطئة وتبعه تلاميذه وهم يتهامسون متضاحكين. ونادى النمر الغابات بضراعة، ولكنها كانت نائية.

وفي اليوم الخامس، قال المروض للنمر: "هيا، إذا قلدت مواء القطط بنجاح نلت قطعة كبيرة من اللحم الطازج".

قلد النمر مواء القطط، فصفق المروض، وقال بغبطة: "عظيم أنت.. تموء كقط في شباط".

ورمى إليه بقطعة كبيرة من اللحم.

وفي اليوم السادس، ما أن اقترب المروض من النمر حتى سارع النمر إلى تقليد مواء القطط. ولكن المروض ظل واجما مقطب الجبين، فقال النمر "ها أنا قد قلدت مواء القطط".

قال المروض: "قلد نهيق الحمار".

قال النمر باستياء: "أنا النمر الذي تخشاه حيوانات الغابات، أقلد الحمار؟ سأموت ولن أنفذ طلبك".

فابتعد المروض عن قفص النمر دون أن يتفوه بكلمة.

وفي اليوم السابع، أقبل المروض نحو قفص النمر باسم الوجه وديعاً، وقال للنمر: "ألا تريد أن تأكل؟"

قال النمر: "أريد أن آكل".

قال المروض: "اللحم الذي تأكله له ثمن، انهق كالحمار تحصل على الطعام".

فحاول النمر أن يتذكر الغابات، فأخفق، واندفع ينهق مغمض العينين، فقال المروض: "نهيقك ليس ناجحاً، ولكنني سأعطيك قطعة من اللحم إشفاقاً عليك".

وفي اليوم الثامن، قال المروض للنمر: "سألقي مطلع خطبة، وحين سأنتهي صفق اعجاباً".

قال النمر: "سأصفق".

فابتدأ المروض القاء خطبته، فقال: "أيها المواطنون.. سبق لنا في مناسبات عديدة أن أوضحنا موقفنا من كل القضايا المصيرية، وهذا الموقف الحازم الصريح لن يتبدل مهما تآمرت القوى المعادية، وبالإيمان سننتصر".

قال النمر: "لم أفهم ما قلت".

قال المروض: "عليك أن تعجب بكل ما أقول وأن تصفق إعجاباً به".

قال النمر: "سامحني. أنا جاهل أميّ، وكلامك رائع وسأصفق كما تبغي".

وصفق النمر، فقال المروض: "أنا لا أحب النفاق والمنافقين، ستحرم اليوم من الطعام عقاباً لك".

وفي اليوم التاسع، جاء المروض حاملاً حزمة من الحشاش وألقى بها للنمر وقال: "كل".

قال النمر: "ما هذا؟ أنا من آكلي اللحوم".

قال المروض: "منذ اليوم لن تأكل سوى الحشائش".

ولما اشتد جوع النمر، حاول أن يأكل الحشائش، فصدمه طعمها، وابتعد عنها مشمئزاً، ولكنه عاد إليها ثانية، وابتدأ يستسيغ طعمها رويدا رويدا.

وفي اليوم العاشر، اختفى المروض وتلاميذه والنمر والقفص، فصار النمر مواطناً، والقفص مدينة.




**************

لقد استطاع زكريا تامر في هذه القصة القصيرة أن يصف بشكل دقيق كيف تلعب العوامل الاقتصادية دورا مهما في تشكيل سلوك الإنسان. والأبعد من ذلك هو كيف يمكن التحكم في سلوك الإنسان وتوجيه من خلال اللعب على وتر احتياجاته ومقومات حياته.  فمن البديهي أن الإنسان الجائع، مثلا، لن يستطيع أن يفكر في شيء سوى كيفية إشباع جوعه، وأن العاطل عن العمل سكون همه الأساسي هو إيجاد عمل ما، وعليه فإن هذا الإنسان لن يكون في سعته الاهتمام بأي شيء غير حاجته الآنية. ولذلك فإن الحاجة البشرية تعد من أهم العوامل في فهم السلوك البشري وتوجيهه.

ففي العام  1943 وضع عالم النفس الأمريكي أبراهام ماسلو أسس نظريته لدوافع السلوك الإنساني في مقالته  نظرية في الدافع الإنساني، التي عرفت فيما بعد مع صدور كتابه الدافع والشخصية عام 1954 باسم "سلم الحاجات البشرية" Hierarchy of needs. وقد وضح ماسلو أن السلوك الإنساني يتحرك بدافع من الحاجات غير المشبعة، وأن الحاجات الأدنى يجب أن تُلبى قبل الحاجات الأعلى منها. أي أن الإنسان لديه حاجات يسير ويتصرف سعيا إلى إشباعها، وطالما أن هناك حاجة غير مشبعة فإنه لن ينتقل إلى السعي إلى إشباع حاجة أخرى قبل أن يشبع الحاجات الأدنى منها.

وقد وضع ماسلو سلما للحاجات البشرية مرتبا بشكل تصاعدي، حيث إن الحاجات الدنيا تمشل الأهمية القصوى للإنسان، مما يعني أن الإسان لن ينتقل لتلبية الحاجات العليا قبل أن يكون قد أشبع حاجاته الدنيا.

وتتدرج الحاجات الإنسانية حسب ماسلو من الحاجات الفسيولوجية التي تتمحور حول بقاء الإنسان، من الغذاء والماء والكساء والجنس وغيرها من مقومات البقاء.

ثم تأتي في المرتبة التالية حاجات الأمن، وتتمثل في حاجة الإنسان إلى الحفاظ على ذاته بشكل مادي ومعنوي، والشعور بالأمان والنظام والاستقرار، والاعتماد على مصدر مشبع للحاجات البشرية، ومن ضمن ذلك الأمان الوظيفي. وحسب ماسلو، فإن معظم الناس يبدون غير قادرين على تجاوز هذا المستوى من الحاجات البشرية.

وفوقها في المرتبة الثالثة تأتي حاجات الحب والانتماء، وهي حاجة الإنسان لتكوين علاقة الحب والصداقة والانتماء لجماعة أو عائلة يشعر في إطارها بالألفة.

وتأتي في المرتبة الرابعة حاجات تقدير الذات، وهي تتمحور حول جانبين، الأول احترام الذات وشعور الإنسان الداخلي بالقيمة الذاتية، والثاني يتطلب احترام الآخرين وتقديرهم، من خلال السمعة الحسنة والنجاح والوضع المرموق.

وأعلى هذه المراتب هي حاجات تحقيق الذات، التي يسميها ماسلو الحاجات العليا التي لا يصل إليها الإنسان إلا بعد إشباع الحاجات الأدنى منها. وتشمل هذه الحاجات السعي إلى تحقيق قيم وغايات عليا مثل العدل والخير والجمال والحقيقة.

وقد أضاف ماسلو لاحقا عددا آخر من الحاجات التي تأتي بعد الحاجات العليا، مثل الحاجات الجمالية والمعرفية، ليصل عدد درجات سلمه إلى ثمانية. ولكن هذه الإضافة هي تطوير للفكرة، وهي التدرج في تلبية الحاجات التي هي دوافع السلوك البشري، بشكل تصاعدي متدرج، وعدم إمكانية الانتقال من مستوى إلى آخر بدون إشباع المستوى الأدنى.

بناء على هذه النظرية، فإن الإنسان الذي لا يستطيع أن يجد قوت يومه أو يجد صعوبة في إيجاده مما يتطلب منه السعي الدائم وراءه لن يكون بإنمكانه التفكير أو الانشغال بما هو غيره. من السهل علينا أن نطبق هذه النظرية على المجتمع الفلسطيني الذي تتجلى فيه بوضوح مسألة الانهماك الشخصي في السعي وراء إشباع الحاجات الإساسية، التي لا تتجاوز في الغالب المرتبة الثالثة حسب سلم ماسلو.

ولكن الجدير بالاهتمام في هذه النظرية أنه إذا كانت الحاجة هي المحرك الأساس للسلوك البشري والتفاعل الشخصي مع القضايا المختلفة، فإنه يمكن أن يتم العمل على فرد أو مجموعة لتوجيه سلوكها من خلال الحفاظ على حالة من عدم إشباع الحاجات الأساسية للفرد، لكي يظل بدروه منشغلا في تأمين احتياجاته الأساسية، مما يضمن إبقاءه بعيدا عن الانخراط في القضايا العليا والعامة، التي بشكل أو بآخر تتعلق بالشأن السياسي.

وقد عملت إسرائيل منذ احتلالها لبقية الأراضي الفلسطينية عام 1967 على تطبيق سياسة احتواء على الضفة الغربية تهدف إلى السيطرة على السكان واحتوائهم من خلال تحويل القطاعات الزراعية والصناعية الفلسطينية إلى قطاعات مكملة ومعتمدة على القطاعات الإسرائيلية. وقد كانت هناك سياسة إسرائيلية تقوم على إفراغ القطاعات الاقتصادية الفسطينية من مضمونها وتحويل العمالة الفلسطينية، التي كان يتركز معظمها في القطاع الزراعي، إلى عمالة رخيصة في السوق الإسرائيلي. وقد تعزز هذا المسار الاقتصادي مع اتفاقية أوسلو وبروتوكل باريس الاقتصادي اللاحق لها.

ولكن هذا التوجه الاقتصادي قد تطور مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتاياهو، الذي أعلن عام 2008 عن توجه جديد للتعامل مع القضية الفلسطينية عرف باسم "السلام الاقتصادي"، الذي يقوم على أن مصلحة إسرائيل السياسية والاقتصادية تكمن في تطوير الاقتصاد الفلسطيني وبناه التحتية، وخلق ظروف رفاهية في حياة الفلسطينيين، وهو ما تستطيع إسرائيل تنفيذه دون الحاجة إلى موافقة السلطة الفلسطينية أو التنسيق معها.

وفي العام 2017 طور مركز أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي هذا التوجه إلى خطة ودراسة متكاملة تحت عنوان "مشكلة اللاجئين الفلسطينيين والمصلحة الإسرائيلية". وقد جاء في الصفحة الأولى اقتباس من تصريح لنتنياهو يقول فيه: "يرتكز السلام الاقتصادي إلى قوتين، الأمن الإسرائيلي وقوى السوق. ليس الحديث عن مبادرات ودعم أموال للبيروقراطية الفلسطينية التي تضخمت منذ أوسلو. يجب علينا خلق جزر من الازدهار الاقتصادي وقواعد من الأمل بديلا للإسلام المتطرف". ولكن هذا التوجه الاقتصادي قائم على بنية من المعضلات الاقتصادية التي يعاني منها الاقتصاد الفلسطيني، من حيث كونه غير قادر على تأمين فرص العمل الكافية وتلبية احتاجات المواطنين المتنامية، التي تعززت مع تفشي الليبرالية في المجتمع الفلسطيني.

وليس خافيا اليوم أن كل التوجه الإسرائيلي، والأمريكي من ورائه، ينصب على التركيز على تحسين الجانب الاقتصادي الحياتي  للفلسطينيين، ليس ككيان مستقل وإنما كأفراد مستقلين يرتبطون بعلاقات مباشرة مع سلطات الاحتلال وخصوصا من خلال "الإدارة المدنية الإسرائيلية"، التي أصبحت تمارس عملها في الضفة الغربية بما يتجاوز السلطة الفلسطينية وأجهزتها المخولة بالتواصل مع السلطات الإسرائيلية. ومن أبرز الأمثلة على هذه الممارسة مسألة استصدار تصاريح العمل في إسرائيل وغيرها للفلسطينيين، حيث أصبحت هذه التصاريح تصدر من خلال مشغلين عرب ويهود في إسرائيل. هذا إضافة إلى أن توجه الإدارة المدنية الجديد يقوم على الإتاحة للفلسطيني التقدم للحصول على التصريح بشكل فردي مباشر من خلال الموقع الإلكتروني للإدارة المدنية.

والأنكى من ذلك أن الإدارة المدنية تعقد بين الحين والآخر حملات للفلسطينيين لإزالة المنع الأمني عنهم. وبالطبع يتوجه الفلسطيني إلى مراكز الارتباط الإسرائيلية بمفرده بدون تدخل أو أي دور للسلطة الفلسطينية التي تكون مكاتبها ومقراتها عادة على مسافة ليست بالبعيدة عن مراكز الارتباط الإسرائيلي، (البيرة- بيت إيل).

ومن أحدث السياسات الاقتصادية الإسرائيلية التي تستهدف الفلسطينيين بشكل يخدم مصالحهم المادية، سياسة Door to door  أو باب لباب التي تختص بالمصانع الفلسطينية، حيث إنه بمقتضى هذه السياسة الجديدة ستستطيع المصانع الفلسطينية تصدير عشرات الشاحنات إلى السوق الإسرائيلية يوميا، بدلا من العدد القليل كما في السابق نتيجة لعملية تفتيش الشاحنات الفلسطينية على المعابر الإسرائيلية. ولكن مع السياسة الجديدة فلن يتم تفتيش الشاحنات الفلسطينية، وإنما تقوم المصانع الفلسطينية بمهمة الفحص الأمني في غرف خاصة ومراقبة نيابة عن سلطات الاحتلال.

وقد تساوقت الولايات المتحدة الأمريكية في طرحها لحل القضية الفلسطينية مع الطرح الإسرائيلي، حيث نشرت إدارة ترامب الأمريكية وثيقة بالتزامن مع انعقاد "ورشة البحرين" الاقتصادية أيار/2019، تحت عنوان "السلام: السلام من أجل الازدهار: رؤية جديدة للشعب الفلسطيني". وينصب اهتمام هاتين الوثيقة والورشة على دعم المشاريع المتوسطة والصغيرة، وتحسين التعليم للفلسطينيين وغيرها، ولكن دون الحديث عن إزالة الاحتلال الإسرائيلي أو المستوطنات. وقد جاءت صفقة القرن التي أعلن عنها الرئيس الأمريكي ترامب مؤخرا كتتويج لهذا التوجه، الذي يقايض الفلسطينيين بالتنازل عن حقوقهم كاملة مقابل ازدهار اقتصادي يتحقق من خلال مشاريع تطورية للقطاعات الاقتصادية الفلسطينية المختلفة. وقد رصد لهذا الغرض مبلغ 50 مليار دولار ستتكفل الدول العربية بدفعها!!!

ولكن كيف أمكن لإسرائيل أن تسير في الضفة الغربية في سياسة السلام الاقتصادي هذه، التي من أبرز ملامحها العلاقة المباشرة بين الفلسطينيين وسلطات الاحتلال في عدد من القضايا، التي منها مسألة استصدار التصاريح كما مر معنا آنفا. وهو ما أدى ما أدى في نهاية المطاف إلى انخراط الفلسطينيين في القضايا الاقتصادية الشخصية والابتعاد عن القضايا السياسية العامة.

*****

وكما أسلفنا فإن تعزيز التوجه الاقتصادي الإسرائيلي نحو القضية الفلسطينية قائم على بنية اقتصادية فلسطينية ضعيفة ومخترقة وغير قادرة على المواجهة.  ولكن السؤال هنا هو كيف أمكن خلق هذه البنية الاقتصادية، التي أدت في نهاية المطاف إلى تحييد المجتمع الفلسطيني عن الانخراط في قضايا الشأن العام التي يمكن أن نعتبرها حاجات عليا حسب ماسلو، مما سهّل عملية السير في توجه "السلام الاقتصادي" في لضفة الغربية.

والإجابة تكمن في طبيعة تكوين الاقتصاد الفلسطيني من حيث كونه اقتصاد طفيلي، أي أن مصادر دخله الأساسية غير ذاتية،  وهو ما مكن إسرائيل من التحكم في هذا الاقتصاد. فالسلطة الوطنية الفلسطينية تعتمد في تمويل ميزانيتها على مصدرين أساسيين هما المساعدات الخارجية، وعائدات الضرائب.  وقد أصبح  أصبح اعتماد الاقتصاد الفلسطيني على المساعدات الخارجية عبئا عليه بدلا من كونها وسيلة مهمة لتمويل عملية التنمية وزيادة معدلات النمو الاقتصادي الحقيقية. حيث تشير بيانات المجلس الاقتصادي الفلسطيني للتنمية والإعمار (بكدار) إلى أن إجمالي المنح والمساعدات الخارجية الموجه للفلسطين، بلغت 35.4 مليار دولار منذ تأسيس السلطة الفلسطينية وحتى اليوم. وقد شهدت هذه المساعدات الخارجية تذبذبات وتقلصات في تدفقها للسلطة الفلسطينية، إذ إن سنين الاستقرار السياسي كانت تشهد انتظاما وازديادا في منحنى المساعدات الخارجية، على عكس سنوات الانتفاضة والأزمات الساسية. وتكمن الإشكالية في هذه المساعدات الخارجية في أنها لم تشكل رافعة لإحداث التنمية وبناء الاقتصاد المستقل، بل عملت على جعل الاقتصاد الفلسطيني اقتصادا ريعيا لا يتملك أي مقومات ذاتية للصمود.

وقد وُظفت المساعدات الخارجية المقدمة للسلطة الفلسطينية توظيفيا سياسيا، حيث إنها أصبحت أداة ضغط على السلطة الفلسطينية والشعب الفلسطيني من ورائها، الذي تُعد هذه المساعدات من أهم مصادر دخله، لتقديم تنازلات وتنفيذ سياسات تتوافق مع التوجهات الإسرائيلية. وقد استخدمت الولايات المتحدة الأمريكية المساعدات الخارجية التي كانت تقدمها للسلطة الفلسطينية كوسيلة ضغط لإجبارها على الالتزام بتوجهها الجديد نحو القضية الفلسطينية، وقامت بقطع مساعداتها بشكل كامل مؤخرا عن السلطة الفلسطينية للضغط عليها للانخراط في "صفقة القرن".

وأما المصدر الثاني من مصادر تمويل السلطة الفلسطينية فهوعائدات الضرائب التي تجنيها إسرائيل نيابة عن السلطة الفلسطينية، التي تعرف بأموال "المقاصة" لقاء عمولة تبلغ 3% من قيمة هذه المقاصة تأخذها إسرائيل، كما نص عليه "بروتوكول باريس" الاقتصادي. حيث تحول إسرائيل شهريا للسلطة الفلسطينية أكثر من 140 مليون دولار، ويشكل هذا المبلغ 75% من فاتورة رواتب موظفي السلطة الفلسطينية البالغ عددهم أكثر من 170 ألف موظف. كما تشكل أموال المقاصة ما نسبته 40% من موازنة السلطة الفلسطينية.  وشكلت أموال المقاصة والمساعدات الخارجية المقدمة للسلطة الفلسطينية معا، ما مجموعه 79% من إيرادات السلطة الفلسطينية العامة، خلال الفترة من 2000-2013، مع الأخذ بعين الاعتبار التغيرات التي طرأت على هذه النسبة خلال السنوات اللاحقة.

وبتحكم إسرائيل بجزء من هذه الأموال من جانب، وارتباط انصياع السلطة الفلسطينية، من جانب آخر، للسياسات الإٍسرائيلية والأمريكية  في تدفق هذه الأموال الحيوية لا لاستمرار السلطة الفلسطينية فقط، وإنما لتمكن الفلسطينيين عموما في تأمين احتياجاتهم الأساسية، فإنه ليس هناك أي استقلال اقتصادي فلسطيني. في ظل أنه ليست هناك مصادر دخل أخرى مستقلة عن سياسات إسرائيل والدول المانحة، التي تتماشى بشكل أو بآخر مع التوجهات الإسرائيلية.  وقد مكن ذلك إسرائيل من أن تطبق سياسة "العصا والجزرة" مع الفلسطينيين.  فمثلا، عندما تريد إسرايئل معاقبة السلطة الفلسطينية، نتيجة الحملات الانتخابية الإسرائيلية في الغالب، فإنها توقف تحويل أموال المقاصة، كما حدث في انتخابات 2015 و2019، مما يحدث أزمة قاسية في الاقتصاد الفلسطيني، تتجلى مظاهرها في عجز الموظفين عن سداد أقساطهم وشيكاتهم وتأمين احتياجاتهم. ويمتد الركود الاقتصادي، النتاج عن وقف تحويل أموال المقاصة، ليشمل كافة القطاعات الاقتصادية، لأن عدم توفر المال يعني التراجع في الطلب على السلع والخدمات، وهو ما يعني تأثر جميع الفلسطينيين بانقطاع رواتب موظفي السلطة الفلسطينية.  وتنتهي الأزمة بإعادة تحويل أموال المقاصة للسلطة الفلسطينية بعد أن يكون المجتمع الفلسطيني قد تنفس الصعداء وبدأ يعبر عن استيائه وغضبه من الوضع الراهن. وكذلك الأمر فيما يتعلق بالمساعدات الخارجية التي تبنى على شروط سياسية كما أسلفنا.

إن الأثر النفسي النتاج عن هذه الممارسة الإسرائيلية المتكررة يمكن أن يوصف كالتالي؛ إذا كان المواطن الفلسطيني الغارق في الشيكات والديون والأقساط ولا يعتمد في سداده لهذه الأمور وتلبية احتياجاته إلا على الراتب الذي يحصل عليه من السلطة الفلسطينية، وكما أسلفنا فأن هذا الأمر لا ينحصر في الموظفين وإنما يتمد إلى كافة القطاعات ليحدث حالة عامة من الركود الاقتصادي، فإن هذا المواطن سيرى أن من مصلحته ضمان استمرار تدفق الراتب، وأنه سيكون معارضا لأي أمر قد يؤدي إلى وقف الرواتب، لأن ذلك الأمر سيسبب أزمات اقتصادية عامة وفردية تصل حد عجز المواطن عن إيجاد قوت يومه. وعليه فإن الأسلم حسب هذا المنطق هو عدم معارضة إسرائيل خشية أن توقف تحويل أموال المقاصة.

ولا يقف الاختراق الإسرائيلي الغربي للاقتصاد الفلسطيني من خلال التحكم بأموال المقاصة والمساعدات الخارجية وحسب، وإنما يتمد لما هو أعمق من ذلك من خلال العلاقة العضوية بين الاقتصاد الفلسطيني والاقتصاد الإسرائيلي. حيث إن إسرائيل بنت علاقة تبعية اقتصادية فلسطينية لاقتصادها، من خلال انتهاجها عددا من السياسات الاقتصادية التي تهدف إلى ربط الاقتصاد الفلسطيني باقتصادها. ويتجلى هذا الأمر من خلال عدة أمور:

فبداية، يعمل في الاقتصاد الإسرائيلي – الداخل والمستوطنات- أكثر من 130 ألف عامل فلسطيني بشكل قانوني، أي من حملة التصاريح الإسرائيلية. هذا بالإضافة إلى أن هناك عددا غير بيسط من العمال الفلسطينيين الذين يعملون بشكل غير قانوني، أي بدون حصولهم على تصاريح عمل، وتشير تقديرات إلى أن عددهم حوالي 50 ألف عامل. والملاحظ هنا أن عدد العاملين الفلسطينيين في إسرائيل واقتصادها يماثل تقريبا عدد موظفي السلطة الفلسطينية. الذين يمثلون معا ما يقارب نصف القوى العاملة الفلسطينية في الضفة الغربية.

وتمثل العمالة الفلسطينية مصدر دخل مهم لعموم الفلسطينيين لا للعمال وحدهم، لأن العوائد التي يحصلون عليها يتم ضخها في السوق الفلسطيني لتستفيد منها مختف القطاعات الاقتصادية.  وهنا علينا أن نتخيل ماذا يمكن أن يحدث لو أن إسرائيل منعت العمالة الفلسطينية من الدخول إلى سوقها، هل يمكن لنا إيجاد فرص عمل بديلة لتلك العمالة، أو هل يمكن لنا تعويض العجز الاقتصادي الذي سينتج عن هكذا خطوة؟

وبالإضافة إلى أن إسرائيل حولت جزءا مهما من القوى العاملة الفلسطينية إلى عمالة  رخيصة في سوقها، فإنها أيضا حولت الضفة الغربية وقطاع غزة إلى سوق لمنتجاتها الاستهلاكية. حيث بلغت قيمة الواردات الفلسطينية من السوق الإسرائيلية  ما نسبته 70% من إجمالي الواردات الخارجية.  وفي المقابل، بلغت الصادرات الفلسطينية للسوق الإسرائيلي ما يقارب 85% من إجمالي الصادرات الفلسطينية.  وتشير هذه المعطيات إلى أن الاقتصاد الفلسطيني برمته يعتمد على نظيره الإسرائيلي، أي أننا كفلسطينيين لا نملك أي مقومات اقتصادية بمعزل عن الاحتلال.  فمعظم ما نستهلكه في حياتنا اليومية يأتينا من السوق الإسرائيلية. وأما ذلك الجزء الذي نستورده من الدول الأخرى فهو خاض بدوره للتحكم والسيطرة الإسرائيلية من خلال سيطرتها على المعابر والحدود والموانئ. وهذا يعني أن إسرائيل تستطيع أن تفرض علينا حصارا خانقا بين عشية وضحاها عن طريق وقف تصدير منتجاتها الاستهلاكية لنا أو منعنا من الاستيراد من الخارج بحكم كونها المتحكمة بالمنافذ الخارجية.

وإلى ذلك فقد انتهجت إسرائيل سياسة تجاه القطاع الصناعي والزراعي الفلسطيني تجعل منهما قطاعات مكملة لاحتياجات القطاعات الاقتصادية الإسرائيلية وبتكلفة قليلة. وهذا ما يشير إليه حجم الصادرات الفلسطينية إلى السوق الإسرائيلية، ولو أردنا أن نفترض جدلا أننا نريد السير في مسارمغاير،  ونصدر منتجاتنا للأسواق الخارجية، فلن يكون بإمكاننا ذلك، لأن إسرائيل قادرة وبكل بساطة على منع تصدير المنتجات الفلسطينية. وهذا ما حدث مؤخرا إبان أزمة "العجول"، التي جاءت عقب توجه حكومة شتية لتحقيق الانفكاك الاقتصادي عن الاحتلال، حيث قامت إسرائيل بمنع استيراد عدد من السلع الزراعية الفلسطينية، كرد على وقف السلطة الفلسطينية استيراد العجول الإسرائيلية.  ولم تكتفي إسرائيل بذلك بل منعت الفلسطينيين من تصدير عدد من المنتجات الفلسطينية للخارج. إن أزمة "العجول"، التي انفرجت مؤخرا بعودة السلطة الفلسطينية لاستيراد العجول الإسرائيلية، تستطيع أن تعطينا مؤشرات واضحة جدا حول مدى سيطرة وتحكم الاحتلال الإسرائيلي بالاقتصاد الفلسطيني. فابستطاعة إسرائيل أن تنمع تصدير منتجاتها إلى السوق الفلسطينية، التي تشير المعطيات السابقة إلى الاعتماد الفلسطيني الكثيف عليها، وهو ما سيسبب أزمة نقص في العرض من السلع والمنتجات في السوق الفلسطيني.  وتسطيع إسرائيل أن لا تستورد منتجاتنا الزراعية والصناعية مما سيسبب أزمة سيولة مالية، وتكدس للسلع والبضائع الفلسطينية.

وإلى ذلك فإن إسرائيل اعتمدت سياسيات تدميرية للاقتصاد الفلسطيني، من قبيل تقييد حرية الاستثمار وإنشاء المصانع ومشاريع البنى التحتية المهمة لتطوير الاقتصاد، وتقييد حرية الحركة داخليا وخارجيا، وحرمان الفلسطينيين من استغلال مواردهم الاقتصادية المتاحة. حيث إن إسرائيل تسيطر فعليا على الضفة الغربية وتستغلن  مياهها وأراضيها ومواردها لخدمة مشروعها الاستيطاني. وهذا ما يعيق أي عملية تنمية اقتصادية حقيقة تهدف إلى الانفكاك عن الاحتلال، لا التماهي في التبعية وله.

وبالمجمل فإن هناك وضعا اقتصاديا خانقا أسهمت إسرائيل في إنتاجه بما يضمن لها التحكم في الاقتصاد الفلسطيني وإبقائه خاضعا لها. وليس الهدف من هذا التحكم هدفا اقتصاديا بالدرجة الأولى بقدر ما هو هدف سياسي يتمثل في السيطرة على الشعب الفلسطيني واحتوائه، لتقوم إسرائيل بتنفيذ سياساتها المتعلقة بالأرض والصراع السياسي دون أن تواجه معارضة حقيقة من عموم الفلسطينين. وذلك لأن أي معارضة للسياسات الإسرائيلية تعني لكل فرد فلسطيني احتمالية قطع الراتب، أو منع التصريح ، أو وقف تصدير المنتجات، أو منع توريد الاحتجياجات الأساسية وغيرها الكثير من التفاصيل التي تمس حياة كل شخص منا.

ولكن الملاحظ أنه هذه السياسات الإسرائيلية القديمة وهذه الحالة برمتها لم تمنع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى والثانية، ولا تلغي إمكانية حصول هبات شعبية فلسطينية بين الحين والآخر. والحقيقة أن هناك تغيرا مهما طرأ على الشعب الفلسطيني مؤخرا عقب اتفاق أوسلو، مع الملاحظة أن تعمق أثر هذا التغير قد حدث خلال سنوات الهدوء التي أعقبت الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وهو تفشي الليبرالية في المجتمع الفلسطيني.

إن الأساس الذي تقوم عليه الليبرالية هو أنكار وجود المصلحة العامة، فأبو الليبرالية الاقتصادية آدم سميث يرى أنه ليس هناك مصلحة عامة وإنما مصالح فردية فقط، وأن الفرد لا يتحرك بمنطق تحقيق المصلحة العامة وإنما بمنطق تحقيق مصلحته الخاصة، وتنتج المصلحة العامة من التقاء المصالح الفردية. كما أن الليبرالية تذهب أبعد من ذلك إلى إنكار وجود المجتمع، حيث قالت مارغريت تاتشر ذات مرة، التي تعد أحد أهم مطبقي السياسات النيوليبرالية، أنه "لا يوجد شيء اسمه مجتمع، وإنما هناك أفراد فقط،" وأردفت، "وعائلاتهم".

ومع تفشي هذه الظاهرة في المجتمع الفلسطيني، فإن القيم الاجتماعية التي تدعو للتضحية، والعمل لأجل المصلحة العامة، والنضال من أجل حرية الشعب، ستذوي لحساب التوجهات الفردية التي تركز على الخلاص الفردي لا المجتمعي. وقد يكون الخلاص الفردي على شاكلة الهجرة من هذا الواقع للبدء في حياة أفضل في مكان آخر، أو العمل في الداخل المحتل والمستوطنات الإسرائيلية، أو الترقي في الحياة الوظيفية والمهنية وغيرها. وكل هذا يتطلب أثمانا ساسية يدفعها كل فرد منا، وهي الابتعاد عن الشأن السياسي ومعارضة السياسات الإسرائيلية. وهكذا فقد نجحت إسرائي في تحيولنا إلى "نمور في اليوم العاشر"، كالتي في قصة زكريا تامر، نعيش في دوامة من السعي الحثيث خلف إشباع حاجاتنا الأساسية، مع ما يتطلبه ذلك من خضوع واستسلام مقابل الحصول على بعض الفتات.

وفي المحصلة، فإن هذه الصورة المظلمة لا تعني أنه ليس هناك إمكانية للمواجهة أو التغيير، ولكنها توجه أنظارنا إلى أساس المشكلة الذي يكمن في طبيعة العلاقات الاقتصادية التي تجعلنا غير قادرين على المواجهة والتحدي. وإذا أردنا أن نبحث عن حل فإنه علينا البدء في التفكير في كيفية الانفكاك والتخلص من التبعية للاقتصاد الإسرائيلي، في كيفية تفكيك هذه العلاقة، التي أسهمنا كمجتمع وسلطة في ترسيخها. فالواقع الطبقي الذي نتج وتعزز عقب نشوء السلطة الفلسطينية قد عزز التوجهات الفردية لدى عموم المجتمع الفلسطيني، لأنه من غير المنطقي أن يتحمل المجتمع الفلسطيني أعباء التحرر وتضحياته، وتأتي في النهاة زمرة قليلة لتحصد ثمرة التضحيات كأثمان شخصية مصلحية لا كأثمان سياسية عامة يعود نفعها على هموم المجتمع الفلسطيني وقضيته.