الانقسام الداخلي في الكيان: جذوره الايديولوجية وافاقه ومخاطره
21 مارس 2024 / هآرتس
شاؤول أرئيلي (أحد الخبراء البارزين بالصراع الاسرائيلي الفلسطيني)
يعيش الكيان حالة صراع داخلي منذ حرب الأيام الستة، بين مَن رأوا في المناطق المحتلة مخزوناً من أجل إنهاء الصراع مع العالم العربي، وبين المسيانيينالقوميين الذي رأوا في الانتصار خطوة على طريق الخلاص. بمرور الوقت، تعمّق هذا الصراع، وبصورة خاصة عندما أعاد الكيان أراضي في إطار اتفاقياتالسلام مع مصر والأردن، وفي الأساس، ضمن اتفاقيات "أوسلو" ومنظمة التحرير. مستقبل الانقلاب الدستوري وإسقاطات أحداث 7 تشرين الأول/أكتوبرسيحددان ما إذا كان المجتمع الإسرائيلي سيقوم بالخطوة النهائية ويدخل في حرب أهلية عنيفة.
من أجل فهم هذا الافتراض، يجب فهم كيفية تعامُل كل طرف من الأطراف مع الأحداث، في إطار إيمانه الأساسي بقيام الكيان وجوهره ووجوده. الروايةالمسيانية لدى "غوش إيمونيم" على مدار أجيال، والصادرة عن مدرسة حاخامات الراف كوك، استثنائية. وهي لا تنبع، كما يُعتقد، بأنه من قلب المأساة واليأستولد الرغبة في مستقبل أفضل مع قدوم المخلّص، إنما رؤية عكسية.
الشعور بالفشل لا يولّد الرغبة في النهوض، إنما بالعكس. الشعور بالنجاح وتحقيقه هو الطريق نحو الخلاص. وبحسب هذه الرؤية، هناك أوقات تُزرع فيهابذور الخلاص وتنبت أمام أعيننا، وهو ما يسمى "إشارات نهاية الخلاص": مثلاً، إعلان بلفور، وقرار التقسيم، وانتصارات حرب الأيام الستة، هذه كلهاإشارات إلى أن الربّ قرر خلاص شعب إسرائيل، ووعدهم به.
عندما سُئل الحاخام العسكري الأكبر شلومو غورن عن رؤيته لاندماج الكيان في الرؤية الخلاصية المسيانية لمستوطني الكيان، ردّ قائلاً: "الشريعة تلغيإمكان وضع وسطي في المسار التاريخي، وتعترف فقط بثلاث فترات: الأولى، احتلال أرض إسرائيل على يد يوشع بن نون حتى خراب الهيكل؛ الثانية، هيفترة الشتات؛ الثالثة، هي الفترة المسيانية. أنا أعتقد أننا في بداية المرحلة الثالثة... أنا مؤمن برؤية شلومو، إذ إننا سنرى إقامة الهيكل" (يديعوت أحرونوت،16/4/1965).
وحدهم أعضاء هذه المجموعة لديهم القدرة على تشخيص هذه الخطة الربانية بأنها "إشارات نهاية الخلاص"، كما شرح الحاخام تسفي يهودا كوك بشأنالتصويت على قرار التقسيم في سنة 1947: "مَن كان موجوداً في جلسة الأمم المتحدة عندما اتُّخذ قرار إقامة الكيان، وكانت له عيون حقيقية، كان يعلم مَن هوالرئيس الحقيقي لتلك الجلسة، فهو ليس أمين عام الأمم المتحدة النرويجي تريغفي لي، الذي جلس مع المطرقة، إنما الرب هو مَن جلس هناك وقرر: الأرجنتين،نعم؛ بوليفيا، لا؛ البرازيل تمتنع. وفي نهاية التصويت، نعم".
ومن هنا، بدأت سلسلة من المراحل التي تشهد على النجاح، وما دامت لا تزال تظهر، فإن إيقافها ممنوع. لماذا؟ لأنه كما يشرح الرمبام [موسى بن ميمون]،إن الإنجازات التاريخية حتى الانتصار المطلق، هي الطريقة الواضحة التي تدل على حقيقة الرؤية الخلاصية. الحاخام شيم طوف غاؤون كتب في القرن الرابععشر: "ولن تتضح الأمور إلا من خلال النجاحات، كما كتب الرمبام".
وما هي النجاحات؟ هكذا وصفها حنان بن فورات: "جمع الشتات وإقامة الدولة وأمنها هما فقط إشارات أولية... أمامنا أهداف كبرى، وهي جزء لا يتجزأ منالصهيونية، وعلى رأسها: إقامة "مملكة الكهنة والأغيار المقدسين"، وإقامة مملكة أبناء دافيد وبناء الهيكل - وهذه المرحلة المركزية من أجل تصحيح العالمبالملَكية".
في هذا السياق، يمكن فهم الانقلاب الدستوري ومحاولات سنّ تشريعات على يد حكومة نتنياهو الحالية، التي يقودها سموتريتش وبن غفير وزملاؤهما فيالائتلاف. الهدف من هذه التشريعات إزالة العوائق أمام بناء السيادة اليهودية على أرض إسرائيل: إضعاف القضاء، وعلى رأسه المحكمة العليا، وعدم السماحلها بالعمل ضد قرارات الحكومة، حتى لو كانت هذه القرارات تتعارض مع وثيقة الاستقلال، وقوانين الأساس والقانون الدولي؛ إلغاء الشروط التي تسمحللمعارضة بإبدال الائتلاف بالانتخابات؛ إسكات الإعلام المستقل والنقدي والسيطرة عليه حتى الإجهاز عليه كلياً؛ وقمع مَن يخرج ضد سياسات الحكومة،وغيرها من القضايا.
وهو ما قاله وزير المالية بتسلئيل سموتريتش (مقابلة مع "كان 11" في 1/11/2023): يبدو أننا كنا بحاجة إلى هذه الضربة المؤلمة لكي نتذكر مرة أُخرىمَن نحن، وماذا نحن". بما معناه، جرى هذا لكي يتذكر الشعب اليهودي ما هو هدفه في المسار المسياني. وهنا أيضاً يوجد ثمن: الرب استخدم "حماس" لتضربالكيان، وهو مَن يسمح للكيان بتصحيح "الخطأ" الذي حدث في الانسحاب من غزة، وشوّش الخطة الربانية، ويسمح بإعادة احتلال قطاع غزة.
ومن أجل استكمال التصحيح، كما يدّعي كثيرون من المسيانيين في الآونة الأخيرة، يجب تجديد الاستيطان اليهودي في غزة، وإخلاؤها من سكانها، وضمّهاإلى الكيان. وبحسبهم، سيكون هذا إنجازاً له أبعاد تاريخية، يبرر أيضاً العدد الكبير من القتلى في صفوف الجيش. فكما قالت الوزيرة أوريت ستروك: "العودةإلى غزة ستكون مرتبطة بعدد كبير من الضحايا، لكن في نهاية المطاف، الحديث يدور حول جزء من أرض إسرائيل، وهو ما سيجري حين ينضج مستوطنيالكيان للقيام بذلك، وللأسف، سيكون الثمن كثيراً من الدماء".
الحرب في غزة، في نظر المسيانيين، هي فرصة من أجل تصعيد الإرهاب اليهودي ضد الفلسطينيين في الضفة من أجل الوصول إلى مواجهة شاملة، يتم فينهايتها طرد السلطة الفلسطينية، ويكون أمام الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة ثلاثة خيارات، بحسب "خطة الحسم" التي أصدرها سموتريتش في سنة2017: مَن يريد الهروب، فليهرب؛ مَن يريد التصالح مع الواقع، فليتصالح؛ ومَن يريد الحرب، فليقم لها".
لذلك، فإن إعادة سيناء إلى مصر ونقل مناطق (أ) و(ب) إلى السلطة الفلسطينية، وخطة الانسحاب وإخلاء البؤر غير القانونية - هذه جميعها إشارات معاكسةللخلاص. وهي تشير إلى أن نهاية المسار ليست في النجاح في توارُث الأرض. لذلك، قالت ستروك في المقابلة نفسها إن عودة المستوطنين إلى "حومش"، التيتم إخلاؤها خلال الانسحاب من غزة، هي النقطة التي بدأ منها مسار تصحيح خطأ الانسحاب، والانسحابات عموماً. وقالت إن “الكيان يعود مرة أُخرى إلىطريق التقدم، بدلاً من الانسحابات التي جرت سابقاً". بما معناه، يتم التعامل مع الحرب في غزة كاستمرارية لمسار التصحيح الذي تقوم به الحكومة بأيّ ثمن. وفي نظرها، أحداث 7 تشرين الأول/ أكتوبر واحتلال غزة هما الدليل.
وفي المقابل، يرى الجمهور العلماني اليهودي في الكيان أن هذه الأحداث، مثل إعلان بلفور، الحجر الأول لإقامة الدولة والحفاظ على وجود دولة للشعباليهودي في وطنه، ويستند إلى مبررات سياسية وتاريخية وقانونية وأخلاقية، حتى لو كانت مختلفة عن تلك الظروف التي أدت إلى إقامة دول قومية أُخرى بعدالحرب العالمية الثانية. هذا الجمهور يرى في الكيان "ملجأً آمناً للشعب اليهودي"، يقوم على قيم وثيقة الاستقلال، وعلى رأسها الديمقراطية والمساواة والعضويةفي المجتمع الدولي.
هذه الرؤية، التي بدأت برؤية "الآباء المؤسسين" للدولة، ستختفي إذا نجح الانقلاب الدستوري. وهو ما يمكن أن يتحقق اليوم، فقط عبر الانفصال عنالفلسطينيين، في إطار فكرة حلّ الدولتين. لذلك، فإن أحداث 7 تشرين الأول/أكتوبر، في نظرهم، هي ثمن كان يمكن منعه، وهي نتاج سياسة نتنياهو وأحلامأعضاء ائتلافه المسيانية. صحيح أن الاستطلاعات تشير إلى تراجُع في دعم حلّ الدولتين في المجتمع اليهودي، إلا إنها تشير أيضاً إلى أغلبية تدعم الانفصالعن الفلسطينيين.
هذه الرؤية تتمتع بدعم جارف من المجتمع الدولي. وفي أعقاب الثمن الكبير الذي دفعه الكيان في أحداث 7 تشرين الأول/أكتوبر، وأيضاً الحرب في غزة. وأيضاً بسبب الدمار في القطاع، وأكثر من 100 ألف مصاب، وتصعيد إقليمي، وغيرها - المجتمع الدولي فهم أن عليه القيام بدور فاعل أكثر من أجل تطبيقحلّ الدولتين. لذلك، على سبيل المثال، أعلن وزير خارجية الاتحاد الأوروبي جوزيف بوريل أن "حلّ الدولتين يجب أن يُفرض على الطرفين من الخارج".
هذا التقسيم الأيديولوجي يجعل مصطلحَي "اليمين" و"اليسار" غير صالحَين لقراءة الخريطة السياسية أكثر من أي وقت في الكيان. يتم استعمال مثل هذهالمصطلحات عندما يكون هناك طرفان على سلّم واحد يستند إلى رؤية واحدة - أمّا هنا، فإن المجتمعَين في الكيان لا يملكان رؤية مشتركة. مناحِم بيغن مثلاً،يميني، صحيح أنه كان يطمح إلى تحقيق رؤية “أرض إسرائيل” الكاملة، لكنه التزم في سنة 1972 رؤية "الآباء المؤسسين": الصهيونية... هذه أساساتها في“أرض إسرائيل”، حيث لا يمكن التشكيك في حقنا فيها، ستكون ذات أغلبية يهودية، مع أقلية عربية، وحقوق متساوية للجميع. لم نترك هذه القناعة، ولن نتركها،وفيها توجد صدقية طريقنا".
في نهاية أيلول/سبتمبر 1977، ومباشرةً بعد انتخابه رئيساً للوزراء، تطرّق بيغن إلى المسيانيين: قلت مرة خلال نقاش لأعضاء غوش إيمونيم... لديكم نقطةضعف واحدة - طوّرتم في أوساطكم تشويشاً مسيانياً". الآن، يوجد لدى كل مجموعة من هذه المجموعات رؤية مختلفة. هذا الفهم يجعل ولادة أحزاب "الوسط" ساخرة بعض الشيء، ومحبة الناخب الإسرائيلي لهذه الأحزاب غير القائمة فعلياً. ففي كل اختيار بين الرؤيتين، تقوم قيادات الوسط المتخيل بالعمل داخل فراغفكري لا يمكن ترجمته إلى أفعال، وكل هدفهم خلال الحكومات الأخيرة هي أن يكونوا "حمار المخلص".
إذا تمسك الكيان وحكومته بموقفهم، كما تبين من خطة "اليوم التالي" التي طرحها نتنياهو، واستمرت في الانقلاب الدستوري، وتعاملت مع السابع من تشرينالأول/أكتوبر والحرب كأحداث تضمن السيطرة الأبدية على الشعب والأراضي الفلسطينية، فإنها ستنخرط في مواجهات عنيفة جداً بين الشرطة وداعميالانقلاب الدستوري، وبين المعارضين. وفي المقابل، فإنها ستُجر - مع ضعف اقتصادي وأمني واجتماعي وأخلاقي- إلى مواجهات من مختلف الأنواع معالشعب الفلسطيني، والعالم العربي، والمجتمع الدولي، وعلى رأسه الولايات المتحدة. هذا لا يُقلق المسيانيين كما كتب الراف كوك سابقاً: قال أحدهم في الإذاعةإن دولة إسرائيل مرتبطة بأميركا، وأنه علينا أن نأخذها بعين الاعتبار. هذا كفر بإرادة الرب. نحن غير متعلقين بأميركا، بل بالرب".
إذا تبنّى الكيان مجدداً الطريق السياسية من أجل إنهاء الصراع، بحسب القرارات الدولية - بعد أن تتحرر من نتنياهو الذي لا يهتم إلا بالبقاء السياسي - فإنهاستكتشف أن شعار "ننتصر سوياً" مهم لدى المسيانيين والقوميين، كأنه قشرة ثوم. إن لم تتجهز إسرائيل داخلياً على الصعد الأمنية والاجتماعية والقيمية،تحضيراً لخطوات إنهاء الصراع بطريقة سياسية، فيمكنها أن تجد نفسها تتعامل مع التهديد الذي وضعه الحاخام كوك في رؤوس المؤمنين، بمساعدة بن غفير: قلت وكتبت أنه ستنشب حرب على الضفة وأريحا والجولان، ولا يجب تقديم أي تنازلات... ممنوع علينا أن نخون إرادة الرب".
على الكيان المختلف عن التيار المسياني تبنّي أقوال إسحاق رابين الذي قال: "في مقابل رؤيتهم التي تتعارض مع الرؤية الديمقراطية للكيان، من الضروريأن نقاتل قتالاً مثالياً، يكشف المعنى الحقيقي لموقف ’غوش إيمونيم’ وطريقة عمله، وأن ندفع بخطوة من أجل حلّ دائم مع الفلسطينيين". هكذا فقط، سيفهمون مايجب أن يكون مفهوماً ضمناً: الحديث يدور حول مسيانية كاذبة ستؤدي بالكيان إلى الدمار.
شاؤول اريئيلي (– ترأس مديرية الاتفاق المرحلي في فترة رابين وبيريس ونتنياهو، ونائب السكرتير العسكري لوزير الامن ورئيس الحكومة. ورئيس مديريةمفاوضات الوضع الدائم في ظل حكومة باراك وكان مسؤولا عن هيئة المفاوضات الرسمية مع الفلسطينيين).