البرلمان العراقي عندما يسقط المبادرة العربية للسلام
رأي
البرلمان العراقي عندما يسقط المبادرة العربية للسلام
خلدون محمد
عندما تم اعتماد المبادرة العربية للسلام في قمة بيروت العربية أواخر آذار 2002، حدث ذلك في لحظة الذروة من انتفاضة الأقصى. تلك اللحظة التي بلغ فيها زخم العمليات الاستشهادية أقصاه، والتي اضطر معها شارون وحكومته إلى القيام بعملية "السور الواقي" واقتحام المدن الفلسطينية في الضفة الغربية التي جاءت عقب عملية نتانيا الاستشهادية التي أوقعت العدد الأكبر من القتلى والإصابات.
غير أن السلوك السياسي الرسمي العربي الذي توقعه البعض أن يكون بمستوى المعركة والتحدي القائم؛ جاء كعادته مسجّلاً تراجعًا جوهريًّا أساسيًّا بصيغة عرض يتم من خلاله مقايضة الانسحاب الصهيوني من جميع الأراضي العربية المحتلة عام 1967 مقابل التطبيع الجماعي العربي! وينتمي هذا السلوك إلى سياق من المواقف الرسمية المماثلة منذ عام 1948، التي كانت تأتي كإجمال سياسي تراجعي يتم تثبيته لصالح المشروع الصهيوني. حدث هذا وبشكل منهجي ومنتظم عقب كل مواجهة (حرب) عربية – صهيونية. لكن المبادرة العربية للسلام جاءت هذه المرة والانتفاضة محتدمة، ولما تنتهِ فصولها بعد، والغريب أنها حظيت بإجماع الدول العربية، ولم يسجل أي موقف شاذ أو ممتنع أو متحفظ، كيف لا، والقاضي راضي!! فضلًا عن أن معارضتها كانت تعني معارضة صاحبتها "السعودية"، ولم يكن هناك أحد حينها بصدد ذلك. والغريب أنه تم تعميم هذه المبادرة لتنسحب أيضًا على جميع الدول الإسلامية الـ (57) عندما قامت السعودية ومن شايعها – خصوصًا منظمة التحرير الفلسطينية – بتمريرها لتصبح أحد مقررات منظمة التعاون الإسلامي.
وفي سنوات حكم محمود عباس الأولى وجدناه يقوم بحملة دعائية للتبشير بمبادرة السلام العربية، وذلك عبر ترجمتها ونشرها على مساحة صفحات كاملة في الصحف العبرية، وعرض مزاياها والإغراءات التي تتضمنها، وأطنب في ذلك إلى الحد الذي غدا فيه التطبيع يسير على قدم وساق وبمباركة ورعاية من السلطة نفسها، فقد كانت تقوم باستقبال وفود عربية (خاصة خليجية) والقيام بتعريفها على مختلف الجهات الصهيونية، وقد اشتهر من ذلك قيام جبريل الرجوب باصطحاب الجنرال السعودي المتقاعد أنور عشقي وتعريفه بمختلف الدوائر والمكاتب الأمنية والسياسية والأكاديمية الصهيونية.
وكالعادة لا يتبقى من معنى لكل المبادرات والقرارات الدولية أو العربية، إلا ما يختص منها بالفائدة الحصرية على المشروع الصهيوني، وبعد تجريدها وتفريغها من أي مزية إيجابية يمكن أن تعود على الفلسطينيين والعرب بفائدة. كانت هناك محاولة من قبل بعض دول جامعة الدول العربية وأمينها العام الأسبق عمرو موسى (قبل الربيع العربي) بالعمل على سحب مبادرة السلام العربية تلك من التداول، خاصة بعد شن "إسرائيل" لحربي 2006 في لبنان و2008/2009 في قطاع غزة، غير أنها قوبلت بالرفض من معسكر التطبيع العربي آنذاك وعلى رأسه مصر ومنظمة التحرير الفلسطينية.
وكان المرء يتساءل ما علاقة الحل السلمي للقضية الفلسطينية، بأن تقوم جميع الدول العربية والإسلامية عن بكرة أبيها من قارات مختلفة للإتيان إلى بيت الطاعة الصهيوني بتقديم واجب الاحترام وما يشبه الاعتذار والقيام بكل ما يمنحه البروتوكول وزيادة عليه في إعادة الاعتبار لتلك "الإسرائيل" ومنحها مكانة الدولة المركزية المهيمنة، ونسيان، والتغافل عن كل ما مثلته تلك "الإسرائيل" من اغتصاب لأرض فلسطين وتشريد أهلها وتنكيد عيشهم وملاحقتهم حتى في مخيمات اللجوء في حالة من النكبة المستمرة منذ عام 1948.
كان المرء يتساءل أليس هناك من بين هذه الدول الكثيرة ما تتعارض عقيدتها السياسية أو العسكرية وربما مصالحها الاقتصادية والتنموية مع مسالة التواؤم والتلاؤم مع المشروع الصهيوني؟ كان البعض لا يتخيل – حتى في عزّ مرحلة السلام التي أعقبت مؤتمر مدريد – ويراه من المستحيلات أن يرفع "العلم الإسرائيلي" في دمشق أو بغداد، فكيف بطهران الجمهورية الإسلامية، أو بأفغانستان – الإمارة الإسلامية، أو بالجزائر – الثورة الجزائرية، أو بالصومال أو بغيرها من الدول والأقاليم العربية والإسلامية؟!
في عراق ما بعد صدام حسين، سنجد أن النخبة السياسية العراقية الحالية، في علاقتها بالقضية الفلسطينية – وغيرها من القضايا – تعكس حالة قطيعة مع ما راكمته المواقف السياسية السابقة لنظام صدام حسين (رغم أنه كان يصنف في حينه واحدًا من الأنظمة العربية المتشددة في الموضوع الفلسطيني) ونحن هنا مع حالات شبيهة في العالم العربي، فهذه الجزائر تضع العداء "لإسرائيل" كأحد عوامل الصراع المتجدد مع جارتها المغرب، ولا نظن بلدًا كالجزائر بصدد التفكير في وضع التطبيع مع "إسرائيل" على أجندة مجتمعه السياسي بحال من الأحوال. وفي اليمن، ومثلها ليبيا، التي أسفر الربيع العربي فيها عن نخب سياسية شبيهة بالحالة العراقية فيما يخص القضية الفلسطينية (باستثناء النشاز الذي يمثله حفتر وصنائع الإمارات في جنوب اليمن). أما مجلس الأمة الكويتي فمعروف بمواقفه الصلبة رغم وجود بعض الأصوات الرخوة من ناس النخبة السياسية والثقافية الكويتية.
ثم ماهي المصلحة في جر كل العرب والمسلمين إلى حظيرة "إسرائيل" والصلح والتطبيع معها. فإذا كان البعض يعتنق فكرة الصلح والتطبيع، فهناك في الأمة من هم عكس ذلك، ويرى في "إسرائيل" خطرًا وجوديًّا، وحالة لصوصية استعمارية، لا يمكن الالتقاء معها، بل يرى الواجب الديني والوطني والقومي والأخلاقي والمصلحي في مناهضتها، ومناجزتها، والانتصار عليها. فلماذا يصادر هؤلاء ويدرجوا ضمن القطيع المطبع؟!
إن التصويت بالإجماع على قانون تحريم وتجريم التطبيع مع دولة الاحتلال الصهيوني في البرلمان العراقي، يفتح المجال لنقترح أن تتشكل رابطة عربية – إسلامية – عالمية، تشمل دولًا ومنظمات وحركات وأحزابًا وقوى لنبذ الصهيونية، ومقاطعتها ونزع الشرعية عنها وفضحها ومحاربتها، وتشكيل رأي عام دولي وإقليمي ومحلي نابذ ومعاد لها وصولًا لتخليص البشرية منها ومن فسادها وخبثها وغشمها، وإعادة الحق إلى نصابه.
كما ينبغي أن يقوم جهد منظم بسحب مبادرة السلام العربية من التداول السياسي يمكن أن تبادر إليه الدولة العراقية ومعها القوى الفلسطينية، ثم ما يمكن حشده من دول وكيانات لا ترى في التطبيع والسلام مع العدو مصلحة لها كالجزائر ولبنان والكويت وقوى الثورة التونسية، والليبية، واليمنية، والسورية، والبحرينية ويمكن أن يتم تعضيد ذلك بمواقف الدول الإسلامية المؤثرة كإيران وأفغانستان وباكستان وبنغلاديش وماليزيا ونيجيريا وأندونيسيا، ولا بأس أن يطال ذلك دولاً كفنزويلا وكوبا ونيكاراغوا وجنوب أفريقيا، بالإضافة إلى الحركات الشعبية والنقابية والأكاديمية في الدول الغربية والجهود التي تقوم بها منظمة BDS.
- المواد المنشورة في موقع مركز القدس تُعبّر عن رأي أصحابها، وقد لا تعبّر بالضرورة عن رأي المركز.