التيار الديني القومي في مستوطنات الخليل
مدخل تاريخي:
تعتبر مدينة الخليل (في التراث الديني اليهودي) واحدة من أربع مدن مقدسة (القدس، صفد، طبريا، الخليل)، ويطلق عليها مدينة الآباء والأمهات، لاعتقاد اليهود بأنّ فيها قبور الأنبياء وزوجاتهم (آدم وحواء، إبراهيم وسارة، اسحق ورفقة، يعقوب وليئه). حيث يطلق الإسرائيليون على المسجد الإبراهيمي مسمى "مغارة مكفيليا"، التي يعتقد بأن آدم وحواء مدفونين بهما، لذلك اشتراها النبي إبراهيم، ويعتبرونها باب من أبواب الجنة.[1]
يطلق اليهود على الخليل أسم "حبرون" نسبة إلى مملكة يهودا (في جنوب فلسطين) كما ورد في التاريخ اليهودي. عاش اليهود في الخليل أو أتوا للصلاة فيها، واستقر عدد منهم بالمدينة عقب طردهم من إسبانيا (الأندلس). [2] بحسب المؤرخ الإسرائيلي بيني موريس بلغ عدد اليهود في الخليل سنة 1929حوالي 600 شخص، تم إجلائهم جميعاً من المدينة عقب المواجهات التي حدثت في الخليل وأدت لمقتل حوالي 60 منهم في يوم الجمعة 24/8/1929، على إثر المسيرة الاستفزازية التي قامت بها الحركة الصهيونية اليمينية "بيتار" في تل أبيب تحت شعار "الحائط لنا"؛ في إشارة إلى حائط البراق (المبكى)، وانتشار شائعة حول نية الحركة الصهيونية مهاجمة المصلين يوم الجمعة والاستيلاء على المسجد الأقصى.[3]
الاستيطان في الخليل عقب الحرب 1967:
عقب حرب العام 1967 انقسم القادة الإسرائيليون حول التعامل مع الخليل. ففي حين لم يرى وزير الحرب وقتذاك "موشيه ديان" في الخليل أهمية من ناحية عسكرية ولأغراض الحرب.[4] ذهب وزير العمل ايغال ألون باتجاه مساندة انصار "حركة إسرائيل الكبرى" من اليمين، المطالبين بالاستيطان في الخليل. تواصل الحاخام موشيه ليفنجر كممثل عن "حركة إسرائيل الكبرى" مع ألون من أجل الاستيطان بالخليل، بناء على ذلك قدم ألون في كانون الثاني (يناير) 1968 اقتراحًا إلى الحكومة الإسرائيلية من أجل إنشاء "حي يهودي في المنطقة المجاورة للخليل"، كما أثيرت قضية الاستيطان في الخليل على مستوى الرأي العام الإسرائيلي، لكن رئيس الوزراء ليفي أشكول امتنع عن تقديم مقترح الاستيطان للتصويت عليه في الحكومة خشية من معارضة باقي الوزراء. فقرر حينذاك ليفنجر التصرف عبر فرض أمر واقع.[5]
تتلمذ ليفنجر على يد الحاخام تسفي إبراهيم كوك (المرشد الروحي للصهيونية الدينية)، والذي تأسس على يديه الاستيطان في الخليل سنة 1968 من خلال احتلاله لفندق بارك (النهر الخالد)؛ أثناء عيد الفصح ورفضه إخلاء الفندق، إلا بعد أن تدخل الحكم العسكري الإسرائيلي والسماح له مع عشرات من المستوطنين بالإقامة في معسكر للجيش الإسرائيلي لحوالي 3 سنوات، وليتم بناء أول مستوطنة على أطراف مدينة الخليل (كريات أربع) سنة 1972، ويتم تعيين ليفنجر كرئيس للمجلس الديني للمستوطنة، وفي سنة 1975 ترشح لانتخابات الهيئة المحلية بكريات أربع وفاز مع قائمته ب4 مقاعد من 7، لكنه ما لبث ان استقال من منصبه ليتفرغ للعمل مع حركة "غوش ايمونيم" (تجمع المؤمنين)، التي تأسست سنة 1974، كحركة دينية قومية متطرفة تعمل على ترسيخ مبدأ أرض إسرائيل الكاملة، انبثقت الحركة عن المدرسة الدينية "مركاز هاراف"، والتي يقودها المرشد الروحي للصهيونية الدينية الحاخام كوك، وفعلياً كان ليفنجر بمثابة رئيس الحركة التي رسخت الاستيطان في المناطق المحتلة سنة 1967، وفرضت على الحكومة الإسرائيلية توسيع الاستيطان.[6]
برز وجود حركة "غوش ايمونيم" عقب فرضها للاستيطان في سبسطية وكفر قدوم، وفي المقابل اندلعت إضرابات ومظاهرات في الضفة الغربية والقطاع من نوفمبر 1975 إلى ابريل 1976، كاحتجاج على الممارسات الإسرائيلية وفي مقدمتها الاستيطان الذي تقوده "غوش ايمونيم".[7] توسع الاستيطان في وسط الخليل في مبنى أطلق عليه "بيت هداسا"، وفي سنة 1979 بعد عملية فدائية للمقاومة ضد هذا التجمع الاستيطاني "عملية الدبوية" سقط فيها ستة مستوطنين، استولى الاحتلال على مدرسة "أسامة بن منقذ" في وسط الخليل وكذلك مجمع البلدية للباصات والسيارات، وليقام فيهما تجمع استيطاني إضافي.[8]
إرهاب المستوطنين في الخليل:
يمارس المستوطنون في الخليل الإرهاب والعنف ضد المواطنين الفلسطينيين بشكل شبه يومي، وقد قاموا بتنفيذ عدة عمليات قتل ضد الأبرياء من أبرزها ما قام به التنظيم السري والإرهابي باروخ غولدشتين.
أسس بعض مستوطنو الخليل المنتسبين لحركة "غوش ايميونيم" (ومن بينهم صهر الحاخام ليفنجر) تنظيم سري إرهابي في الفترة ما بين 1978- 1984، تأثر منتسبو التنظيم بأفكار الحاخام كوك، وقد قاموا بعدة عمليات تستهدف قتل الفلسطينيين، من أبرزها في 2/6/1980 ما قام التنظيم به من زرع لعبوات ناسفة في سيارات ثلاثة من رؤوساء البلديات، بسام الشكعة رئيس بلدية نابلس الذي بترت قدميه نتيجة الهجوم، وكرم خلف رئيس بلدية رام الله الذي فقد إحدى ساقيه، ورئيس بلدية البيرة إبراهيم الطويل الذي نجى من محاولة الاغتيال بعد اكتشاف العبوة الناسفة بسيارته. كما قام التنظيمبقتل ثلاثة من طلاب جامعة الخليل بواسطة إطلاق النار وإلقاء القنابل اليدوية سنة 1983. وقد وضع التنظيم نصب عينيه تنفيذ عدة هجمات من بينها تفجير قبة الصخرة في الحرم القدسي، وكذلك تفجير 5 باصات عربية.[9]
أبرز مجزرة قام بها مستوطنو الخليل كانت مجزرة المسجد الإبراهيمي بتاريخ 25/2/1994، والتي نفذها الطبيب باروخ غولدشتين من مستوطني كريات أربع، وأسفرت عن استشهاد 29 مصلي بالمسجد وإصابة حوالي 125. ينتمي غولدشتين لحركة "كاخ" اليمينية المتطرفة والتي أسسها الحاخام مائير كهانا، وقد كان غولدشتاين من ضمن المرشحين للكنيست في قائمة "كاخ". عقب المجزرة استغلت إسرائيل الوضع ورسخت التقسيم الزماني والمكاني في المسجد الإبراهيمي، عدا عن توقيع اتفاقية الخليل مع منظمة التحرير والتي أسفرت عن تقسيم المدينة إلى H1& H2، بحيث يدار معظم السكان الفلسطينيين في المدينة بواسطة السلطة الفلسطينية، فيما تم "تقنين" وجود المستوطنين في وسط المدينة وخلق شرخ جغرافي بين شقها الشمالي والجنوبي، فالمنطقة الشمالية تسيطر السلطة على معظمها، فيما المنطقة الجنوبية وتضم أكثر من 50 ألف نسمة تسيطر على معظمها إسرائيل.
التيار الديني القومي في مستوطنات الخليل:
تعتبر مستوطنات الخليل بؤرة للتيار الديني القومي الإسرائيلي، ففيها يتواجد أهم حاخامات هذا التيار، فعدا عن ليفنجر الذي سبق ذكره، يبرز حاخام مستوطنة كريات أربع الحالي "دوف ليئور"، الذي أفتى "بأن من يتفاوض مع الوحوش (يقصد العرب) خائن ونذل وجبان، ويجب شنّ حرب مقدسة على دعاة الانسحاب من أرض "إسرائيل"، وأفتى كذلك بـ"وجوب تدمير غزة عن بكرة أبيها لتحقيق سلام "إسرائيل"".[10] يضاف إلى ذلك أن رئيس حزب "العظمة اليهودية" (التابع لقائمة الصهيونية الدينية) ووزير الأمن القومي الحالي ايتمار بن غفير هو من سكان مستوطنة كريات أربع بالخليل.
يمكننا الاستشهاد بنتائج انتخابات الكنيست الأخيرة (2022) للتدليل على سيطرة التيار الديني القومي في مستوطنات الخليل، إذ تظهر نتائج الانتخابات في أكبر مستوطنة من مستوطنات الخليل (كريات أربع)، أن من بين 3257 صوتوا في الانتخابات، ذهب 2191 صوت إلى قائمة الصهيونية الدينية، بمعنى ثلثي الأصوات (67%)، فيما صوت 693 لصالح حزب الليكود، بما يعادل 21% من الأصوات، وتوزعت باقي الأصوات على بقية القوائم بحيث جاء بالمركز الثالث حزب شاس بحصوله على 112 صوت.[11]
الخلاصة:
تعتبر مستوطنات الخليل من أهم التجمعات للمستوطنين ذوي الخلفية الدينية القومية، فقد فرض هذا التيار سياسة الأمر الواقع في الخليل بواسطة إنشاء مستوطنة كريات أربع وغيرها من المستوطنات، رغم تردد الحكومة الإسرائيلية وقتئذ في إقامتها، كما أنّ مستوطنات الخليل تضم مجموعة من أبرز متطرفي التيار الديني القومي الذين لا يتورعون عن استخدام العنف لتحقيق أهدافهم السياسية، والذي برز من بينهم "التنظيم السري الإرهابي اليهودي" في بداية الثمانينات، الذي برر القائمين عليه ممارستهم للعنف وتخطيطهم لتفجير قبة الصخرة، بأنّهم بهذه الطريقة سيسرعون خروج المسيح المنتظر. وفي نفس السياق يأتي تنفيذ غولدشتاين لمجرو المسجد الإبراهيمي، والذي يعتقد البعض بأنّ دافعه الأساسي منها هو منع أي تنازل إسرائيلي عن الخليل، وإفشال مفاوضات "السلام" بين إسرائيل و "م.ت.ف".
وصل رموز التيار الديني القومي في الخليل إلى قناعة مفادها، أنّ المحافظة على مكتسباتهم السياسية، ووضعهم في مدينة الخليل، يمر من خلال الانخراط في الحكومة الإسرائيلية والمشاركة في انتخابات الكنيست، وبالفعل خاض عدة رموز للتيار الديني القومي الانتخابات على مدار العقود السابقة، وقد توجت جهودهم في الانتخابات الأخيرة (2022)، بدخول حزب "العظمة اليهودية" برئاسة بن غفير تحت مظلة قائمة الصهيونية الدينية، وتجاوزها نسبة الحسم، لتحصل على القائمة على 14 مقعد في الكنيست، وتسيطر على أهم مفاصل الحكومة الحالية.
[1] بيت حباد، الأربع مدن المقدسة في إسرائيل: ما هي ولماذا؟، 13/2/2021. (بالعبرية) https://bit.ly/3YDtpC4
[2] المستوطنة اليهودية في الخليل، تاريخ، 13/2/2022. (بالعبرية) https://bit.ly/40IwGSa
[3] Benny Morris, Righteous Victims: A History of the Zionist-Arab Conflict, 1881-2001, New York: Vintage Book, 2001, p: 114.
[4] أرشيف دولة اسرائيل، مقابلات مع أشخاص، א-13/5002. (بالعبرية): 26/4/1985، ص: 25.
[5] دافيد كريتسمر و جرشوم جونبرج، سياسة، قانون والمسار القضائي: حالة البجاتس في شطحيم، جامعة حيفا: مجلة القانون والحكومة، المجلد 17، 2006ـ ص: 57. (بالعبرية)
[6] إنعام حامد، الحركات الاستيطانية غوش إيمونيم نموذجًا، مركز القدس، 13/7/2022. https://bit.ly/3lKKdc2
[7] موشي ماعوز، القيادة الفلسطينية في الضفة الغربية: أسرار، تحركات ومواقف، د.م: د. ن، 1986، ص: 12.
[8] المستوطنة اليهودية في الخليل، تاريخ، 13/2/2022. (بالعبرية) https://bit.ly/40IwGSa
[9] Nur Masalha, Imperial Israel and the Palestinians: The Politics of Expansion, London: Pluto Press, 2000, p: 123.
[10] مها شهوان، الحاخامات.. صانعو المُلك في "إسرائيل"، نون بوست، 27/12/2022. https://bit.ly/3Ig216g
[11] لجنة الانتخابات المركزية، نتائج انتخابات الكنيست 25: النتائج حسب المناطق، 1/11/2022. (بالعبرية) https://bit.ly/3YMLVYq