الثورة العالمية الرابعة.. "ثورة ما بعد كورونا" أم "ثورة وحدة القيم"!!

فتحي الورفلي
11-04-2020



كتب: فتحي الورفلي




"الشعوب" تنبثق من "الثورات" وليس العكس، و"الدول" تنبثق من "الحضارات" وليس العكس. وإذن فمن أين تنبثق "الثورات"، ومن أين تنبثق "الحضارات". في حقيقة الأمر تنبثق "الثورات" من "تراكم الأزمات الاجتماعية عبر التاريخ"، في سياقٍ يتجاذب حينا ويتعارض حينا آخر مع متطلبات قانون التطور الطبيعي لحركة ذلك التاريخ.

وتنبثق "الحضارات" من "الفلسفات والمعتقدات" التي تقوم عليها تلك "الثورات"، وهذا يقتضي الإقرار بالفارق الكبير بين "الثورة" بمعناها الحضاري الإنساني التاريخي المُمْتَدِّ في الجغرافيتين الزمانية والمكانية، وتلك التي تَعَوَّدنا على أن نُطْلِقَ عليها اسم "ثورة بالمعنى السياسي أو التاريخي المحدود"، والتي هي مجرد "حراك مجتمعي تغييري" فقط.




بهذا المعنى الحضاري التاريخي المُمْتَد، فإنَ البشرية لم تشهد حتى الآن سوى "ثلاث ثورات"، وهي في انتظار "الثورة الرابعة" من رحم المخاض الكوني الراهن، في حين أنها شهدت آلاف الحراكات المجتمعية على مدى آلاف السنين من تاريخها، من تلك التي تعوَّدنا على تسميتها تجاوزا أو خطأ أو اختزالا "ثورات". أما الثورات الثلاث الكبرى التي عرفها تاريخ البشرية فأسَّسَت لحضاراتٍ ذات بُنى فلسفية وعقدية مختلفة جوهريا فهي:




أولا: "ثورة الإسلام العربية" التي تخلَّقَت في حاضنة النبوات على مدى آلاف السنين، والتي انتهت عملية تخليقها وتطويرها واستكمالها لعناصر تفجيرها النهائية، مُعْلِنَةً عن ذاتها الثورية، في آخر حلقة من حلقات الرسالات والنبوات بقيادة النبي محمد عليه السلام الذي أسَّس له سابقاه الرئيسين وهما "موسى"، و"عيسى" عليهما السلام، وهي الثورة التي أخرجت لنا تراثا سياسيا واقتصاديا انحرف عن سكته الأصيلة منذ وقت مبكر – مع الأسف الشديد – مُمَهِّدا بتفاعلاته المتبادلة عالميا لبروز الثورة الثانية بكلِّ مُخرجاتها السياسية والاقتصادية.

ثانيا: "ثورة التنوير الأوربية" التي تخلقَّت في رحمِ الصراع التاريخي الطويل بين حَمَلَة انحرافات "ثورة الإسلام العربية" بكلِّ إصاباتهم وانحرافاتهم اللاحقة للانحراف التاريخي الأول، ومقاوميها الرئيسيين على الصعيد العالمي، وهم الأوربيون بكلِّ تطلعاتهم التي أنتجت أوربا الحديثة بكلَّ مُخرجاتها الحضارية، مُمَثَّلَة في أيقونتيها الرئيستين وهما "الليبرالية السياسية" و"الليبرالية الاقتصادية"، أو بتعبير أوضح "الديمقراطية" في السياسة، و"الرأسمالية" في الاقتصاد.

ثالثا: "ثورة الشمولية الكوميونيستية"، والتي تعرف في الأدبيات التاريخية والفكرية العربية – تحديدا – بـ "الثورة الشيوعية" التي تخلَّقت في حواضن الظلم والاضطهاد والاستغلال الاقتصادي والسياسي الأوربي، في محاولةٍ للخروج من المأزق الحضاري الذي فرضته مُخْرجات "ثورة التنوير الأوربية" التي ورثت مُخْرجات "ثورة الإسلام العربية"، وأسبغت عليها الطابع الأوربي بتطلعاته القارية والعالمية، ما جعل "ثورة الشمولية الكوميونيستية" لا تجد نفسها ولا تستشعر هويتيها الفلسفية والسياسية إلا على أنقاض "المُكَوِّن الديني" الذي نُظِرَ إليه باعتباره المؤسِّس لكلِّ تلك المُخرجات الخالقة للمآزق الحضارية التي مَهَّدَت لظهور "ثورة الشمولية الكوميونيستية" من جهة، وعلى أنقاض "المكون الليبرالي الرأسمالي" الذي نُظِرَ إليه كمتاجر بالدين ومستغِلٍّ له، لمنح شرعيَّةٍ سماويةٍ للاستغلال الاقتصادي من جهة أخرى.




أما الثورة الرابعة فهي تلك التي يترقَّبُها العالم من خلال مخاضٍ كونيٍّ عارم وشامل وواسع النطاق، بدأت معالمه عقب الحرب العالمية الثانية وما تزال مستمرة حتى الآن، من خلال ما يبدو واضحا أنه تغوُّل متسارع في المكوِّن الأساس والأهم من مكونات "ثورة التنوير الأوروبية" ألا وهو "الرأسمالية"، التي تؤكد للتاريخ أنها بتغوُّلِها المتسارع ذاك إنما تستعجل نهايتَها المُفْجِعَة..

مخاضٌ راح يتخذ – شيئا فشيئا ومن أزمة لأخرى – شكل "الطلق الفاجع ألما"، يعبِّر عنه ذلك التناقض العميق بين احتياجات الكوكب "أرضا" و"بشرا" في الأنساق الإنسانية لتلك الاحتياجات، وبين مُكونات ومُخرجات المرحلة الراهنة من مراحل تطور الرأسمالية، وهي "الرأسمالية المالية"، أو ما يُعرَف بـ "النيوليبرالية" التي تتولى إدارتها وقيادتها عالميا القوى المهيمنة على الولايات المتحدة الأميركية، وذلك بعد حرفِ "الكينزية" عن سكِّتها التطوريَّة الطبيعية، بدل جعلها تنمو بشكل سلس على مَعْلَم الإحداثيات "الإنساني"، وذلك منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي كما مر معنا تفصيل ذلك في فصول سابقة. تفاقمت معالم هذا المخاض التاريخي بشكلٍ شديد منذ تَفَكُّك الاتحاد السوفييتي عام 1992 في النسق السياسي للمخاض، ومنذ الأزمة المالية العالمية عام 2008 في النسق الاقتصادي له، وهو يتفاقم على نحو متسارع منذ مطلع عام 2020 في نسقه الثقافي "الأخلاقي"، جراء الأزمة العالمية التي سبَّبها تفشي "فيروس كورونا".




ومع أن كل نسق من أنساق المخاض العالمي تلك قد اتسم بهيمنة عنصر من العناصر الثلاثة "الاقتصاد، السياسة، الثقافة" عليه، إلا أن هذا لا يعني أن النسقين الآخرين كانا غائبين غيابا كليا عند المخاض ذاته، أو عند ولادة مقدماته، أو بعد ظهور تداعياته، وإنما هو يعني أن العنصر الأكثر تأثيرا في مفاقمة المخاض عند كل واحدة من الأزمات الثلاث لجهة التسبب فيه أو النتاج عنه – أي في المخاض وعنه – هو العنصر المشار إلى أن الأزمة قد حدثت في نسقه، ومن ثم فهو العنصر الأكثر بروزا في مفاقمة المخاض خلال الأزمة وقبلها وبعدها.

أي وبكلمة أخرى، إن لحظة المخاض عام 1992، أحدثت زلزالا سياسيا أكثر من كونه زلزالا اقتصاديا ثقافيا، بسبب أن مسبباته ونتائجه السياسية العالمية طغت على نظيرتيها الاقتصادية والثقافية، فضلا عن أن شكل الزلزال كان سياسيا بامتياز، فيما لحظة المخاض عام 2008، أحدثت زلزالا اقتصاديا أكثر من كونه زلزالا سياسيا ثقافيا، بسبب أن مسبباته الاقتصادية العالمية طغت على نظيرتيها السياسية والثقافية، فضلا عن أن شكل الزلزال كان اقتصاديا