الخلاص، الهيكل، وصعود الصهيونية الدينية
أوراق بحثية
الخلاص، الهيكل، وصعود الصهيونية الدينية
أشرف بدر
محاضر غير متفرغ في جامعة بيرزيت
خاص- مركز القدس للدراسات
أيار/ مايو 2022
تهدف هذه المقالة للتعريف بمفهوم الخلاص عند الصهيونية الدينية، وعلاقته ببناء الهيكل، وصعود الصهيونية الدينية، وذلك للإجابة على السؤال المركزي في المقالة، وهو: كيف ساهم مفهوم الخلاص في صعود أسهم الصهيونية الدينية؟
انتهجت المقالة مسح الأدبيات المتعلقة بالموضوع مع ربط وتحليل للعلاقة بين الصهيونية الدينية ومفهوم الخلاص. وقسمت إلى قسمين رئيسيين، أولهما يتناول مفهوم الخلاص والهيكل، وثانيهما يتناول نشأة وصعود الصهيونية الدينية. تجادل المقالة بوجود علاقة بين صعود الصهيونية الدينية في الكيان الصهيوني ومفهوم الخلاص في الديانة اليهودية، المرتبط ببناء الهيكل الثالث.
الخلاص والهيكل:
عقب السبي البابلي لليهود وحرق الهيكل (الأول) على يد نبوخذ نصر، نشأت حالة من الردة عند اليهود الذين افتقدوا وقوف الرب معهم، فاحتاج الحاخامات إلى ترويج فكرة "الخلاص" من أجل المحافظة على اتباع الدين اليهودي، والتي تقوم على الإدعاء بخروج المسيح المخلص في نهاية الزمان (المسيانية[1])، عقب تعرض المؤمنين لعذابات ومحن وابتلاءات[2]. لكن عقب تسهيل قورش (الذي قهر بابل) عودة اليهود لفلسطين وبناء الهيكل الثاني (الذي تدمر فيما بعد بفعل الخلافات اليهودية الداخلية)، لم يتحقق الخلاص ولم يظهر المسيح، فكان تخريج ذلك بواسطة الحاخامات عبر الإدعاء بأن ذنوب ومعاصي اليهود تحول دون خروجه[3].
تنقسم الصهيونية الدينية إلى فريقين في تناول مسألة الخلاص (المسيح المخلص/ المسيانية)، فريق يدعي أن الخلاص بيد الرب وحده، ولا يمكن التأثير عليه بشرياً، وإنما يمكن الاستدلال على قربه أو بعده بمدى الالتزام بتعاليم الدين، وفريق اصطلح عليه بالثوريين الذين يستجلبون الخلاص ويسرعونّه من خلال الفعل البشري[4].
تبنت الصهيونية التصحيحية (اليمين العلماني الذي ينتسب له الليكود) تعزيز الخطاب الديني، ظهر ذلك في ثلاثينيات القرن العشرين بخطاب "تحالف البلطجية/ حلف الفتوة" (بريت هبيريونيم)، وحركة الاتسيل، الذين عملوا على إطلاق البوق الديني (شوفار) بجانب حائط البراق[5]. ونادوا (قبل قيام الدولة) باستكمال عملية الخلاص بقوة الذراع، حيث قام أحد مؤسسي تحالف البلطجية (أوري غرينبرغ)، باقتحام المسجد الأقصى في سنة 1924، معتبراً أنّ القدس قلب العالم، و"أن جبل الهيكل يمر عبر قلب إسرائيل"، في محاولة منه لاستغلال المشاعر الدينية من أجل تحقيق السيادة على القدس. في السياق ذاته وضع قائد عصابة "ليحي" يائير شطيرن بند في كتيب بعنوان "أسس الوثبة"، الذي صدر في العام 1941، يدفع باتجاه "بناء البيت الثالث كرمز لحقبة الخلاص الكاملة"[6].
إذاً؛ لا يقتصر العمل على بناء الهيكل على المتدينيين الصهاينة، فمنذ العام 1941 رأت مجموعة من اليمين العلماني أن تحقيق النبوءة الصهيونية يتمثل ببناء الهيكل الثالث كوسيلة لتحقيق الخلاص[7]. يمكن القول إنّ المسيانية كفكرة موجودة حتى في التيارات العلمانية من اليسار واليمين، فالمفكر اليميني العلماني أوري غرينبرغ كتب حول تجديد بناء الهيكل[8]. وكذلك في اليسار المفكر بيرل كتسنلسون تناول النبوءة والخلاص[9]. وبالتالي فإنّ أنصار بناء "الهيكل"، لم يكونوا من بين المحافظين على الفرائض الدينية التوراتية، ومن ثم فمسألة الخلاص (الديني) لم يكن الدافع لتحركهم، وإنما كان هدفهم الانبعاث القومي، مستخدمين موضوع بناء "الهيكل" كأداة لتوحيد اليهود من خلفهم[10].
يشير تومر فيرسكو إلى أن أول حركة تأسست في "إسرائيل" (في ستينيات القرن العشرين) من أجل تغيير الوضع القائم في المسجد الأقصى، لم تنشأ من داخل صفوف التيار الصهيوني – الديني، سميت الحركة (أمناء جبل الهيكل) وقادها غرشون سولومون، وهو علماني مدعوم من أعضاء عصابتي "إيتسل" و"ليحي" المتبقين على قيد الحياة، وفقط في سنوات الثمانين ظهرت الحركة الأولى (المتدينة) بقيادة حاخام صهيوني – ديني، وهو يسرائيل أريئيل، مؤسس حركة "ماخون هميكداش" (معهد الهيكل)، وبقيت هذه الحركة وحيدة داخل الصهيونية– الدينية حتى سنوات التسعين.[11]
تأسس المعهد الهيكل سنة 1987، ويركز على تجهيز المعدات والمهارات الضرورية للتضحيات والطقوس الباطنية التي كان يجريها الكهنة أمام جماهير من الحجاج اليهود قبل خراب الهيكل، ويقود هذا العمل لجنة حاخامية مبنية على تحليل دقيق للنصوص الدينية اليهودية والدراسات الأكاديمية.[12] يستعد معهد الهيكل لبنائه ويعمل على تجهيز أدواته، فالحاخام يسرائيل أريئيل يعمل حاليّاً على بناء مذبح متنقل، سيكون بالإمكان وضعه في الهيكل بشكل سريع عندما يتم استئناف عملية تقديم القرابين.[13]
توجد في "إسرائيل" العديد من الحركات الدينية اليهودية المسيانية التي تدعو إلى بناء الهيكل في المسجد الأقصى، وتنظم هذه الحركات اقتحام المجموعات اليهودية للمسجد، إلا أن المؤسسة الدينية اليهودية تحظر دخول اليهود إلى المسجد، وتعلل ذلك بأن الظروف لا تسمح حاليّاً بذلك، لأنه ينبغي أن تتوفر عدة أمور قبل الدخول إلى المكان، "جبل الهيكل"، وبضمنها ظهور "المسيح المنتظر"، بينما تعتبر هذه الحركات أن بناء الهيكل الثالث، هو المفتاح لحل كل مشاكل اليهود ومصائبهم وخاصة الدينية والروحية، ورغم أن الحريديم يمتنعون بغالبيتهم الساحقة عن الدخول إلى المسجد الأقصى (أتباع أحزاب شاس وديغل هتوراة ويهودات هتوراة يمتنعون عن الدخول للمسجد الأقصى[14])، إلا أن مؤسس "الحركة من أجل إقامة الهيكل" وهو حاخام حريدي يدعى يوسف ألبويم، يدعو إلى استئناف "تقديم القرابين والصلاة في الجبل (المسجد الأقصى) في كل فرصة سانحة".[15]
تقتحم مجموعات يهودية مسيانية المسجد الأقصى على مدار العام، لكن حجم هذه المجموعات يتسع، وترافقه ضجة إعلامية أكبر، في أيام عيد العُرش اليهودي، الذي يمتد لثمانية أيام، ويعتبر اليهود أن الهيكلين الأول والثاني أقيما في موقع المسجد الأقصى (قبة الصخرة تحديداً)، في عهد الملك سليمان (لا يعتبرونه نبياً). لكن علماء الآثار، وحتى بعض الإسرائيليين بينهم، وأبرزهم البروفسور يسرائيل فينكلشطاين، من جامعة تل أبيب، يؤكدون أنه لم يتم العثور على أية موجودات أثرية تدل على أن الهيكل كان قائماً في هذا المكان.[16]
بعد استعراضنا لمفهوم الخلاص وعلاقته ببناء الهيكل، يأتي السؤال: كيف استخدمت الصهيونية الدينية هذا المفهوم من أجل الصعود؟
نشأة وتطور الصهيونية الدينية:
تمتد جذور الصهيونية الدينية للتيار الأرثوذكسي، حيث ظهرت عدة تيارات دينية يهودية في العصر الحديث أبرزها الإصلاحية والمحافظة والأرثوذكسية. يهدف التيار الإصلاحي إلى نزع القداسة عن كثير من المعتقدات الدينية اليهودية ووضعها في إطار تاريخي، بينما نشأ التيار المحافظ كحل وسط بين التيار الأرثوذكسي والإصلاحي، فيما يشكل المنتسبين للتيار الأرثوذكسي معظم المتدينين في "إسرائيل". يلتقى التيار الأرثوذكسي مع الصهيونية (العلمانية) في فكرة الحفاظ على اليهود كجماعة منفصلة وعدم الاندماج في المجتمعات الأوروبية، على اعتبار أنّ اليهودية عبارة عن دين وقومية. ينقسم التيار الأرثوذكسي بدوره إلى ثلاثة أقسام، وهي الحسيدية ذات التوجه الصوفي واللتوانية المعارضة للحسيدية وأخيراً الصهيونية. عارضت الأرثوذكسية الصهيونية الفكرة التي يؤمن بها الأرثوذكس الحريديم؛ والداعية إلى الاعتماد على "المسيح المنتظر" كي يقود اليهود صوب فلسطين من أجل إقامة "مملكة إسرائيل"، فقد رأت الصهيونية الدينية أن هذا الاعتقاد منع اليهود من اتخاذ أي عمل سياسي يعيدهم إلى "أرض الميعاد". وقد استغلت الصهيونية الدينية مقولتين أساسيتين يؤمن بهما عامة اليهود؛ وجعلتهما دعامة فكرية لمفاهيمها وهما: "الشعب المختار" و"أرض الميعاد"، ومن هنا تنبع قوة الصهيونية الدينية كونها متوائمة مع جوهر المشروع الصهيوني المبني على نفس المقولتين، فالصهيونية منذ نشأتها مزجت الاستعمار الاستيطاني بالدين والقومية، معتبرة أنّ اليهودية دين وقومية، ولإن حاولت الصهيونية في بداية قيام "دولة إسرائيل" اتباع النهج العلماني إلا أنّ المبرر الديني لقيامها سيطر في النهاية[17].
شارك 14 حاخاماً من أصل 140 مندوباً في مؤتمر صهيونيي روسيا سنة 1898، وحّدهم الحاخام "إسحق يعقوب رينس" ضمن كتلة مزراحي (اختصار للمركز الروحي)، ليشكلوا أول حزب يمثل الصهيونية الدينية[18]. تأسست حركة "مزراحي" سنة 1902 بقيادة "رينس" كحركة دينية صهيونية، والتي تدعو للعمل من أجل تحقيق السيادة اليهودية وإقامة "إسرائيل" (دون انتظار ظهور المسيح المخلص)، بخلاف الحريدية الأرثوذكسية التي تؤمن بأن إقامة "دولة إسرائيل" سيكون آخر الزمان على يد المسيح المخلص. تمظهرت حركة مزراحي بعدة أشكال تنظيمية منذ تأسيسها من بينها "بوعيل مزراحي"، المفدال "حزب الاتحاد الوطني"[19]، الصهيونية الدينية وبني عكيفا (سنة 1929)، حركة التوراة والعمل (والتي انقسمت فيما بعد إلى الاتحاد الوطني والبيت اليهودي واليمين الجديد)[20].
تدمج الصهيونية الدينية بين ثلاثة مفاهيم أساسية وهي: "توراة إسرائيل"، "شعب إسرائيل"، و"أرض إسرائيل"، مع العمل على تحقيق "فريضة استيطان أرض إسرائيل" وفق الفهم التوراتي[21]. ويعتبر الحاخام أبراهام كوك (1856- 1935) الأب الروحي للصهيونية الدينية ومنظرها[22]. عمل كوك على التوفيق بين الصهيونية والتيار الديني من خلال الرد على إدعاء التيار الأرثوذكسي بعلمانية مؤسسي "دولة إسرائيل" ووجوب عدم التعاون معهم، مدعياً بأن هؤلاء العلمانيين أداة الرب لتحقيق الخلاص وتقريب مجيء المخلص من خلال تجديد الاستيطان في "أرض إسرائيل"، وأن أفعال هؤلاء العلمانيين موجهة من الرب رغم عدم معرفتهم بذلك[23]. فبعدما يظهر المسيح سيتحول هؤلاء العلمانيون نحو الالتزام بتعاليم الدين[24]. لكن وفي الوقت ذاته حذر كوك من دخول المسجد الأقصى، أو تسريع النهاية لأنهم لا يستحقون ذلك، وأصدر فتوى بذلك [25]. صاغ كوك تصوراً يقوم على اعتبار الصهيونية المادية كالجسد، واليهودية الدينية كالروح، مما يفضي إلى الخلاص بواسطة الأيدي البشرية، وبتأييد إلهي من خلال إنشاء مملكة الله على الأرض كوسيلة لاستجلاب المسيح المخلص. تمظهر هذا التوجة بالحردلية "حردي لئومي" (المتدين الوطني) [26].
توسعت الصهيونية الدينية عقب اندماجها في المؤسسات العامة بـ "إسرائيل" وفي مقدمتها الجيش[27]. حيث امتنع المتدينون عن الانخراط في صفوف الجيش الإسرائيلي مع بداية تأسيس "دولة إسرائيل"؛ متذرعين بأسباب دينية تتعلق بهوية "دولة إسرائيل" وعدم تطبيقها للشريعة التوراتية، تم تقنين هذا "الامتناع" عبر اتفاقية الوضع الراهن التي تم التوقيع عليها في يونيو 1947؛ بين الوكالة اليهودية التي ترأسها حينئذ دافيد بن غوريون مع حزب "أغودات إسرائيل" الذي يمثل معظم المتدينين. نصت الاتفاقية على عدم معارضة الحزب لقيام الدولة ومشاركته بمؤسساتها؛ مقابل المحافظة على الطابع اليهودي من خلال اعتبار السبت يوم العطلة الرسمية، وسن قوانين للزواج تكون موافقة للشريعة اليهودية، وأخذ الخطوات اللازمة للتأكد أن مطابخ الدولة تقدم الأكل الحلال "كوشير"، بالإضافة إلى ضمان استقلال التعليم الديني. تضمنت الاتفاقية إعفاء المتدينين الدراسين للتوراة من الخدمة العسكرية تحت مسمى"توراته عمله"؛ بمعنى أنّ عمل المتدينين الأساسي هو دراسة التوراة، ربما كان الدافع الأساسي لموافقة بن غوريون على ذلك أنّ عدد المعفيين من الخدمة العسكرية والذين ينطبق عليهم مسمى "توارته عمله" لا يتجاوز 400 متدين. كان هنالك خشية حقيقة من قبل قيادات الصهيونية الدينية (الحاخامات) من ذوبان الشبان المتدينين في أتون قيم الجيش العلمانية[28]، الذي لا يحترم تعليمات التوراة من الحفاظ على السبت والأكل الحلال "كوشير"، هذا ما وضحه الحاخام دافيد رجنشبرج في كتابه الصادر عام 1949 بعنوان "محاكمة الجيش في إسرائيل"[29].
مع مرور الوقت برزت لدى القيادة الإسرائيلية مشكلة تزايد أعداد المتدينين العازفين عن الخدمة العسكرية بذريعة التفرغ لدراسة التوراة. تم حل المشكلة بشكل جزئي عام 1965 عبر التوصل لتسوية بين حاخامي الصهيونية المتدينة والجيش؛ يتم بموجبها الدمج ما بين التعليم العالي للتوراة وما بين الخدمة العسكرية في الجيش في مدارس توراتية خاصة تسمى "يشيفات هسيدر"[30]، وذلك مقابل قيام الجيش بدمج المتجندين المتدينين في وحدات متجانسة بعد سنتين من دراستهم؛ وتقليص مدة خدمتهم العسكرية إلى ستة عشر شهراً. ساهم في بلورة هذا الحل "الفتوى" التي أصدرها الأب الروحي للصهيونية الدينية الحاخام تسفي كوك (ابن الحاخام أبراهام)؛ والتي تنص على أنّ الخدمة العسكرية تعتبر بمثابة واجب ديني[31].
طرأ تحول فكري في أوساط الصهيونية المتدينة عقب حرب العام 1967، حيث تغيرت نظرة المتدينين للجيش في أعقاب الحرب وما نتج عنها من احتلال ما تبقى من فلسطين، وبسبب استيلائه على حائط البراق "حائط المبكى" وغيره من الأماكن المقدسة الواردة في التوراة، فجميع الأماكن الدينية المذكورة في التوراة تقع في الأراضي المحتلة عام 1967، وقتئذ بدأت بعض الأوساط داخل التيار الصهيوني المتدين بتسمية الجيش باسم "جيش الله"، مما ساهم في تعزيز التوجه نحو خدمة المتدينين في الجيش، علاوة على ذلك بدأت المدراس الدينية "يشيفات مركاز هاراب" (التي ساهمت بشكل كبير في نشر الفكر الديني القومي) بالتشديد على معنى النجاح كمؤشر تاريخي على نجاح الصهيونية المتدينة (النجاح في إقامة الدولة وحرب عام 1967)، بالإضافة إلى التركيز على الدور الخاص المنوط بالصهيونية المتدينة للسيطرة على الدولة (العلمانية) وتوجيهها بما يخدم الغاية النهائية (الخلاص). وهكذا شهدت سبعينيات القرن العشرين زيادة مطّردة في أعداد الضباط المتدينين القادمين من "يشيفات هسيدر" (على سبيل المثال غرشون سلمون خريج لليشفاه)؛ وذلك بفضل التحول الفكري الذي عايشته الصهيونية المتدينة عقب حرب 1967. سنحت الفرصة لخريجي "يشيفات هسيدر" للتغلغل في الجيش عقب حرب العام 1973؛ وخصوصاً في وحدة المدفعية التي تعرضت لضربة قوية أثناء الحرب؛ مما دفع قيادة الجيش للاستعانة بخريجي "يشيفات هسيدر" لإعادة بناء الوحدة[32].
استطاعت الصهيونية الدينية من خلال هذه الكليات ضرب عصفورين بحجر واحد؛ فمن ناحية اخترقت شريحة الضباط من خلال كلية مختلطة (تضم علمانيين ومتدينين) بحيث يصعب تصنيف خريجي الكلية على التيار الديني، ومن جانب آخر حافظت على منتسبيها من الذوبان والتأثر بالقيم العلمانية من خلال العودة للدراسة عقب انتهاء الخدمة العسكرية لمدة 4 سنوات؛ وذلك لضمان إعادة "شحنهم" بالقيم الدينية[33].
تكمن المفارقة في أنّ الذي شرعن وجود الكليات العسكرية التمهيدية هو الجنرال عمرام متسناع (قائد المنطقة الوسطى في الجيش حينذاك، ورئيس حزب العمل "العلماني" عام 2002)، معللاً ذلك بحاجة الجيش لمقاتلين ذوي خلفية دينية يملكون دافعية القتال في ظل أزمة القيم التي يعيشها المجتمع الإسرائيلي وقتئذ، وعزوف الشبان العلمانيين عن الخدمة العسكرية. وهذا يدفعنا للاستنتاج بأنّ هذا الحرص على ضم المتدينين للجيش (بذريعة امتلاكهم للدافعية) يعتبر بمثابة اعتراف ضمني بهزيمة المشروع الثقافي للصهيونية العلمانية، وقد يفسر على أنّه استخدام للدين من أجل ضمان استمرارية المشروع الاستعماري كما حصل مع بداية الإعلان عن تأسيس الحركة الصهيونية.
ضمن نفس السياق يجب ملاحظة حرص الحاخامات على إنشاء أول كلية تمهيدية في مستوطنة "عيلي" المقامة على الأراضي المحتلة عام 1967؛ علاوة على أنّ أكثر من نصف هذه الكليات قد أقيمت في مستوطنات الضفة الغربية، من الصعب التخيل أن هذا الأمر جاء بطريق الصدفة دون أن يكون مخططاً له، وربما يكون الهدف المستتر لهذا الأمر هو كسر الحساسية "النفسية" لدى جنود وضباط الجيش الإسرائيلي تجاه المستوطنات والمستوطنين؛ (على افتراض أن هذه الحساسية موجودة عند البعض)، فالدراسة في المستوطنات لمدة تزيد عن أربع سنوات تساهم في بلورة شعور بالانتماء لها، واستبطان اعتبار المستوطنات والأراضي المحتلة عام 1967 جزء من "الوطن" و"أرض الميعاد" التي يجب الدفاع عنها[34].
اندمج حزب مزراحي مع هابوعيل هامزراحي تحت مسمى حزب الاتحاد الوطني (المفدال)، وفي سبعينيات القرن العشرين تبنى الخط السياسي لحزب مباي (العمل) مع التركيز على التشريع الديني[35]. تزايد أعداد أتباع الحاخام تسفي كوك بعد 1967، على حساب خريجي المدارس الدينية الأثوذكسية الحريدية[36]. وفي السبعينيات أسس طلاب الابن تسفي كوك حركة غوش إيمونيم المحرك الأساس للاستيطان في مناطق 1967 [37].
استخلص التيار الديني والقومي العبر مما حدث عقب إخلاء المستوطنات في سيناء عام 1982 (بعد توقيع اتفاقية السلام مع مصر) ووضع خطة للسيطرة على الجيش حتى يضمن عدم تنفيذه أوامر الإخلاء، حيث بدأ المفدال بذلك منذ السبعينيات وزاد نشاطه بعد الانسحاب من قطاع غزة بالتغلغل في مؤسسات الدولة ضمن سياسة تمت تسميتها بـ "استيطان القلوب"، يمكن استنتاج ذلك من ازدياد نسبة الجنود المتدينين خريجي استكمال المشاة من 2.5% عام 1990 إلى 26% عام 2008، وكذلك ازدياد نسبة الضباط المتدينين في الفترة ما بين 1990-2010؛ والتي زادت 12 ضعفًا. حيث نجد أنّ 40% من الضباط رؤساء اللجان في الجيش هم متدينون[38].
يجادل فيرسكو بوجود رابط فكري/ مسياني يربط بين "تحالف البلطجية" العلماني (الذي سبق ذكره) وجماعة "التنظيم الإرهابي اليهودي" في سنوات الثمانين من القرن الماضي، التي حاولت تفجير قبة الصخرة، "من أجل إرغام الرب على جلب الخلاص".[39] يؤكد فيرسكو أن أنصار "الهيكل" كانوا أقلية هامشية ومنبوذة داخل الصهيونية – الدينية، لكنهم باتوا اليوم أكثر الأصوات التي تتعالى من داخل هذا التيار، ويمكن القول إن الاقتحامات المتزايدة للمسجد الأقصى هي ليست فقط مؤشراً على التنكر للخط الرسمي الذي وضعه الحاخام كوك، وإنما تمرد ضد تقاليد الشريعة اليهودية، والنظر إلى "جبل الهيكل" مثلما نظر له من قبل "تحالف البلطجية" كإله قبلي بدائي يجسد جوهر السيادة على البلاد، فالجانب القومي يلعب دوراً أقوى من الجانب الديني فيما يتعلق باقتحامات المسجد الأقصى.[40]
تجسد التحول بصدور فتوى دينية عن لجنة حاخامي المستوطنات في الضفة والقطاع، في العام 1996، وسمحت باقتحام "جبل الهيكل"، وتضمنت الفتوى دعوة لكل حاخام "بالصعود بنفسه وإرشاد أبناء مجتمعه حول كيفية تنفيذ هذا الصعود من خلال الالتزام بكافة قيود الشريعة اليهودية"، من الأسباب المهمة لهذا التحول عقد اتفاقية أوسلو، التي "شكلت تحدياً لحركة غوش إيمونيم وتعاظم الاهتمام بجبل الهيكل"[41].
شكّل الانسحاب (الانفصال) من مستوطنات قطاع غزة وبعض مستوطنات الضفة عام 2005 صدمة لقطاع كبير من المجتمع الإسرائيلي بخاصة لمجتمع المستوطنين؛ حيث تملّك المستوطنين الخوف وعدم اليقين حول مستقبلهم الشخصي ومستقبل الاستيطان بشكل عام، أمّا على صعيد باقي المجتمع فقد انهارت دعاوى التيار الديني الوطني حول أرض "إسرائيل" التاريخية (أرض الميعاد)، كما ساهم الانفصال عن غزة في انهيار ثقة المستوطنين بزعامتهم الممثلة بمجلس مستوطنات الضفة الغربية وقطاع غزة "يشع" كونه فشل في وقف الانسحاب، وقد قاد ذلك إلى ظهور شريحة من المستوطنين الشباب غير الراضين عن أداء "يشع" الهادئ والمسالم؛ الذي تماهى مع توجهات الحكومة بالإخلاء، ظهر ذلك بشكل واضح أثناء إخلاء مستوطنة "عمونة" الواقعة في الضفة الغربية عام 2006؛ حيث لوحظ وجود أعداد كبيرة من المستوطنين الشباب فاقدي الثقة بقيادة الكهول في "يشع"، يقاومون الإخلاء بطريقة عنيفة مما أوقع إصابات عدة في صفوفهم وصفوف الجنود المشرفين على الإخلاء[42].
تسبب الانسحاب من قطاع غزة في تآكل المنظومتين الكولونيالية الاستعمارية والمسيانية الخلاصية، التي ترى في السيطرة على أرض فلسطين مقدمة لظهور المسيح المخلص؛ فساهم الانسحاب من قطاع غزة بانهيار فكرة "إسرائيل الكبرى" التي قامت عليها الصهيونية، ومن هنا سعت الصهيونية الدينية إلى تعريف الصهيونية من جديد؛ عبر تأسيس علاقات قوة جديدة بين الدولة من جهة والأفراد والمجتمع المدني والحركات السياسية من جهة أخرى، بهدف ترسيخ "الحق التاريخي للشعب اليهودي" في أرض "إسرائيل"[43]. فكان التوجه إلى "جبل الهيكل" ليحل مكان الإيمان بالتقدم البطيء نحو الخلاص والمفهوم المقدس للدولة، هذا التحول لا يقتصر على الصهيونية – الدينية، وإنما حصل في جزء من التيار اليميني العلماني وبضمنهم أكثر من نصف عدد أعضاء الكنيست من حزب الليكود، فقيادات الحزب من أمثال، ميري ريغف وغيلا غمليئيل وياريف ليفين، "يتحدثون عن جبل الهيكل كأنهم يتحدثون عن قلب الأمة". لذلك فإن "التقسيم ليس بين علمانيين ومتدينين، والمسألة لم تكن أبداً حول تطبيق أو عدم تطبيق فرائض دينية. المسألة تتعلق بمحاولة تطبيق الأسطورة في الواقع"، ومن ثم يخلص فيرسكو إلى أن "الصهيونية مبنية على الأسطورة اليهودية – المسيانية. وهذه الأسطورة هي جوهرها وأيضاً نقيضها".[44]
أضحى التيار الديني الصهيوني (المفدال) بعد الثمانينيات متساهلاً مع ضم علمانيين لصفوفه، تمثل ذلك بضم نفتالي بينت القادم من الليكود وكذلك إيليت شاكيد، ليتم عقبها تأسيس البيت اليهودي سنة 2006، بعد الاتحاد مع أحزاب تكوما، موليدت[45]. انفصل بينت وشاكيد عن البيت اليهودي فيما بعد وشكلا حزب اليمين الجديد وذلك بعد سيطرة الخط المتشدد على البيت اليهودي، والذي يدعو للصدام مع الدولة ورفض الأوامر العسكرية[46].
استعانت الصهيونية الدينية بعدة وسائل من أجل الصعود والسيطرة على الحياة في "إسرائيل"، فقد سيطرت على مفاصل الحياة السياسية والإعلام، ولا يقتصر الأمر على وجود ضباط برتب عالية في الوحدات القتالية، فهم أيضاً يسيطرون على ثلث تركيبة المحكمة الإسرائيلية العليا، ومنهم: المستشار القانوني للحكومة، ورئيس الشرطة، ورئيس الموساد، ومدير مكتب نتنياهو، وسفير "إسرائيل" في الولايات المتحدة[47]. وأخيراً؛ سيطروا على رئاسة الوزراء من خلال نفتالي بينت. وبحسب فيرسكو فإن بينت يشكل نموذجاً واضحاً لانتقال مركز ثقل الصهيونية – الدينية "من الشريعة اليهودية إلى القومية".[48]
الخلاصة:
يمنح المجتمع الصهيوني مكانة متقدمة للجيش، ومنتسبيه، فبعد انتهاء الخدمة العسكرية يتقلد الجنرالات المتقاعدين مناصب متقدمة في الدولة ومؤسساتها الاقتصادية، والسياسية، عدا عن قيادة الأحزاب. وقد استخدمت الصهيونية الدينية الجيش كأداة للتغلل في الحياة العامة، والتحكم في مفاصل صنع القرار داخل الكيان الصهيوني، وذلك عبر استغلال تراجع المشروع الثقافي للصهيونية العلمانية، وتناقص الدافعية لخدمة الكيان لدى منتسبيها، فحل محلها منتسبو الصهيونية الدينية الذين يملكون الدافع الأيدلوجي المتمثل بالسعي نحو تحقيق "الخلاص".
ارتبط صعود الصهيونية الدينية في الكيان الصهيوني بمحاولة تحقيق "الخلاص"، المترافق ببناء الهيكل الثالث. يمكننا القول إنّ حركات بناء "الهيكل" تجسد انتقال الصهيونية من حركة قومية إلى حركة مسيانية، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ الفكرة الصهيونية منذ نشأتها استبطنت المسيانية، من خلال استنادها على مقولتي "أرض الميعاد" و"شعب الله المختار".
[1] اليهودية المسيانية هي حركة تعود جذورها إلى الإنجيلية البروتستانتية التي تؤكد على العنصر "اليهودي" في الإيمان المسيحي ويتكون أتباعها من اليهود المؤمنين بالمسيح المنتظر الذي يخرج في آخر الزمان.
[2] ديتر تسمرلنغ، النهايات: الهوس القيامي الألفي، ترجمة: ميشيل كيلو، دمشق: قدمس للنشر والتوزيع، 1999، ص: 27.
[4] نبيه بشير، الخلاص اليهودي في التراث اليهودي المقدس، مجلة قضايا إسرائيلية العدد 63، نوفمبر 2016، ص: 22.
[5] مهند مصطفى، المسجد الأقصى في الخطاب الديني الصهيوني من علمنة المقدس إلى استعادته، مجلة قضايا إسرائيلية، عدد 60، ديسمبر 2015، ص: 71.
[6] المشهد الإسرائيلي، تفاقم النزعات المسيانية- الأسطورية في الحركة الصهيونية واتساع صفوف حركات "الهيكل"، رام الله: مدار، 9/12/2014. https://bit.ly/3yhSwQJ
[7] هليل بن ساسون، الصهيونية، الدين والمسيانية التي بينهما: "جبل الهيكل" (الحرم القدسي) كحالة قصوى، ترجمة: سليم سلامة، مجلة قضايا إسرائيلية العدد 63، نوفمبر 2016، ص: 58.
[10] المشهد الإسرائيلي، تفاقم النزعات المسيانية...، مصدر سابق
[12] تايمز أوف إسرائيل، "نساء من أجل الهيكل" يعملن بجهد تمهيداً لبناء الهيكل الثالث في القدس، 15/8/2016. https://bit.ly/3NcpXsn
[13] المشهد الإسرائيلي، تقرير صحافي: اتساع حجم الحركات الدينية اليهودية المسيانية التي تدعو إلى بناء الهيكل في الحرم القدسي، رام الله: مدار، 9/10/2012. https://bit.ly/3OxoL45
[14]مهند مصطفى، جماعات الهيكل: تاريخها وتشكيلاتها الراهنة، بودكاست مدار، 2022. https://apple.co/398kfcg
[15] المشهد الإسرائيلي، تقرير صحافي: اتساع حجم الحركات الدينية اليهودية المسيانية التي تدعو إلى بناء الهيكل في الحرم القدسي، رام الله: مدار، 9/10/2012. https://bit.ly/3OxoL45
[17] أشرف بدر، المتدينون في الجيش الإسرائيلي، دراسات عن إسرائيل 2، مركز مدى الكرمل، كانون الثاني 2019، ص: 4.
[18] سعيد بشارات، الحاخام كوك يعود من جديد، القدس: الهدهد، 2019، ص: 16.
[19] الذي انهار سنة 1981 وتوزع منتسبوه على حزب العمل/ ميماد والليكود وباقي الأحزاب اليمينية.
[20] سعيد بشارات، مصدر سابق، ص: 5.
[24] تومر فرسيكو، حول التجرية اليهودية الأخيرة للتغلب على عملية العلمنة: صعود وسقوط "غوش ايمونيم"، مجلة قضايا إسرائيلية العدد 63، نوفمبر 2016، ص: 39.
[25] مهند مصطفى، المسجد الأقصى...، مصدر سابق، ص: 69.
[26] نبيه بشير، مصدر سابق، ص:30.
[27] سعيد بشارات، مصدر سابق، ص: 9.
[28] حاولت الصهيونية في بداية نشأة دولة إسرائيل تصميم الجيش ليصبح بوتقة صهر للإثنيات والأفكار المختلفة والمتناقضة داخل المجتمع الإسرائيلي.
[29] أشرف بدر، مصدر سابق، ص: 5.
[30] بداية نشاتها كانت عام 1953 بواسطة حركة همزراحي تحت إطار يشفات كرم يبناه ومركز يشيفوت بني عكيفا ويشيفات هادروم في رحوفوت، ترأسها الحاخام تسفي ملتسر، وكان الهدف من إنشائها تهيأة الشبان المتدينين حسب تعاليم التوراة قبل الخدمة العسكرية.
[31] أشرف بدر، مصدر سابق، ص: 6.
[32] أشرف بدر، مصدر سابق، ص: 6.
[35] سعيد بشارات، مصدر سابق، ص: 16.
[38] أشرف بدر، مصدر سابق، ص: 9.
[39] المشهد الإسرائيلي، تفاقم النزعات المسيانية...، مصدر سابق.
[41] المشهد الإسرائيلي، تفاقم النزعات المسيانية...، مصدر سابق.
[42] أشرف بدر، مصدر سابق، ص: 13.
[44] المشهد الإسرائيلي، تفاقم النزعات المسيانية...، مصدر سابق.
[45] سعيد بشارات، مصدر سابق، ص: 18.
[48] المشهد الإسرائيلي، تفاقم النزعات المسيانية...، مصدر سابق