السعودية و"حماس".. دبلوماسية لا تُثمِرُ شيئاً!

ساري عرابي
12-08-2021

رأي

السعودية و"حماس".. دبلوماسية لا تُثمِرُ شيئاً!

ساري عرابي

بعد تحالفٍ ضمنيّ انخرط فيه العهد الحاليّ من الحكم السعوديّ مع دولة الاحتلال برعاية إدارة ترمب، بدا، في الآونة الأخيرة، وكأن ثمة تحولاً نسبيّاً في السياسات السعوديّة تجاه القضية الفلسطينيّة. ظهرت تجليات ذلك التحالف في الدفع نحو إظهار التطبيع العربيّ، والخليجيّ منه خصوصاً، إلى العلن، وتنظيم الحملات الدعائيّة ضدّ الفلسطينيين، بقصد شيطنتهم وتسويغ التخلّي عن قضيتهم والتحالف مع عدوّهم، وصولاً إلى حدودٍ غير مسبوقة؛ بتبني السرديات الصهيونيّة بخصوص الصراع في فلسطين.

أما ما بدا - لدى البعض- وكأنّه مقدّمات لتحولاتٍ نسبيّة، فقد تمثّل في خطوتين سعوديتيّن، الأولى، المادة 31، مما سمّته الحكومة السعوديّة "قواعد المنشأ الوطني"، والتي أعادت فيها تعريف المنتج الخليجيّ المُعفى من الرسوم الجمركيّة، فاستثنت المادة المذكورة من ذلك السلعَ إذا كانت إحدى مكوناتها مُنتَجَةً أو مُصنَّعةً في الكيان الصهيونيّ (عبارة الكيان الصهيوني، وردت هكذا في الأصل)، أو كانت إحدى العناصر المُحايدة (كالطاقة والوقود والمعدات…)، مملوكةً كليّاً أو جزئيّاً لشركاتٍ إسرائيليّةٍ، أو شركاتٍ موضوعةٍ في قوائم المقاطعة العربيّة لـ "إسرائيل".

ثمّ كانت الخطوة الثانية باستضافة خالد مشعل، الرئيس السابق لحركة "حماس"، ورئيس إقليمها في الخارج حالياً، على قناة "العربية"، وهي خطوة من المستحيل أن تجري، دون إرادة سعوديّة عليا، لوزن خالد مشعل ورمزيته.

ثمّ تهاوت هذه التقديرات؛ أولاً بالسماح للاعبة الجودو تهاني القحطاني بمنازلة اللاعبة الإسرائيليّة في أولمبياد طوكيو، ثم تالياً بالأحكام القاسية، التي أصدرتها محكمةٌ سعوديّةٌ، يوم أمس الأحد (08.08.2021)، بحقِّ عددٍ من المُعتقلين الفلسطينيّين والأردنيّين المُتهمين بالعمل لصالح حركة "حماس" داخل السعودية، وجمع التبرعات لها. نسفت هذه الخطوة الآمال التي بُنيت على ظهور مشعل في قناة "العربية"، وما قيل عن تفاهمات بالإفراج عن المعتقلين، سبقت ظهوره على تلك القناة.

نظام لا يفارق خطّه الناظم

كان الخطأ في التقدير لدى فريق المتأملين ناجماً عن وضع الخطوات السعوديّة في سياقاتٍ كبرى لا تحتملها طبيعةُ النظام الحاكم في المملكة. إذ نسي هؤلاء أنَّ النظام الحاكم يختطّ لنفسه، تاريخيّاً، مسلكاً مُحافظاً تجاه القضية الفلسطينيّة، محكوماً بالمُطلق للهوامش التي تُتيحها الولايات المتحدة لحلفائها وأدواتها في المنطقة. ويظهر أنّ الولايات المتحدة توزّع هذه الهوامش، ضيقاً وسعةً، على هؤلاء الحلفاء، بحسب عوامل موضوعيّة وذاتيّة، تتباين حسب اختلاف الحلفاء، وحسب الرؤى الأميركية للأدوار المفترضة من كلّ طرف منهم. 

لا ينفي ذلك الوضعُ الوجودَ الرسميّ لحركة "حماس" في المملكة السعوديّة. ولا يُقصد بكونه رسميّاً أنّه مُعلنٌ عنه من الطرفين، ولكنّه بالتفاهم بين الطرفين خلال العهود السابقة. إلا أنّ هذا الوجود ظلّ يهتزّ منذ فشل اتفاق مكة بين "حماس" و"فتح" عام 2007، فقد أخذت السعودية بعد ذلك بالتضييق على "حماس"، أفراداً ومشاريع واستثمارات، وشمل ذلك اعتقال بعض قياداتها، فضلاً عن الخطّ الإعلاميّ والدعائي المناهض للحركة ومشروعها، والذي يتجلّى في مفارقته في أداء قناة "العربيّة" التي تبنت الرواية الإسرائيليّة منذ تأسيسها.

ثمّ مع إحكام التحالف الإماراتيّ السعوديّ زمن الملك السّابق عبد الله، واتحاد رؤى البلدين بعد ثورات الربيع العربيّ، تصاعدت الحملة على "حماس" وتحوّلت إلى مقاطعةٍ شاملةٍ لها. أما الانفراجة الصغيرة1، في مطلع عهد الملك الحالي سلمان، فلم تكن إلا ارتباكةً عابرةً أفضى إليها موقفُ العهد الجديد في حينه من بعض رموز العهد القديم الذين حاولوا قطع الطريق على الملك سلمان (يجري الحديث عن رئيس الديوان الملكي السابق خالد التويجري). 

إلا أنّ طموحات المُلك عند محمد بن سلمان، واتصالها بنفوذ ولي عهد أبو ظبي، استعادت سريعاً التحالف بين النظامين، وبآمادٍ أبعد وخطواتٍ أعمق، فقد عُقِد التحالف هذه المرّة برعاية إدارة ترمب، وشمل خطّةً لإعادة ترتيب المنطقة، بما يكرّس حكم العهد الجديد شَرْطَ تكريس الوجود الإسرائيلي، ومن هنا أخذ خطوات التطبيع بالتسارع، مصحوبة بغطاءٍ سعوديّ، إعلاميّاً وسياسيّاً.

كما كانت الانفراجة الأولى العابرة ناتجةً عن موقفٍ غاضبٍ من إدارة عهد الملك عبد الله وتحالفاتها الإماراتيّة التي قيل إنّها حاولت قطع الطريق على الملك سلمان، فإنّ الخطوات السعوديّة الأخيرة التي "بشّرت" بانفراجةٍ جديدة، لم تكن، في جانبٍ منها سوى مناكفةً للإمارات، وفي جانب آخر محاولة لتعديل الميزان التجاريّ مع الإمارات.

ما ينبغي جوهريّاً التأكيد عليه هو استحالة حدوث تحوّلاتٍ جوهريّةٍ في السياسات السعوديّة، والتي انزاحت من المحافظة التقليديّة، (وكانت تُوصَف في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي بالرجعيّة)، إلى الاقتراب أكثر من "إسرائيل". هذا الفهم هو ما ينبغي أن يضبطَ التصوّرات حول طبيعة العلاقة مع الحكم هناك، إذ لم تكن هذه العلاقة مفيدةً، في أحسن أحوالها، أكثر من إتاحة مساحةٍ لجمع التبرعات والاتصال الدبلوماسيّ ببعض قيادات "حماس"، وهي الفوائد التي أُغلقت تماماً، والتي ينبغي أن تُوزَن إستراتيجيّاً بالنسبة للسياسات العامة للسعودية تجاه القضية الفلسطينيّة، والمقاومة الفلسطينيّة خصوصاً.

الأخطر في ذلك كلّه، أنّ التحولات التي أخذت تتصاعد منذ عهد الملك عبد الله، والتي نَسَجَت في الخفاء علاقاتٍ أمنيّةٍ مع "إسرائيل" وتضمنت شراء تقنيات استخباراتيّة منها، وغير ذلك، تعمّقَت مع العهد الحالي إلى درجةٍ تجعل الفكاك منها صعباً. يظهر ذلك الأمر في محاولات العهد الحالي للتكيف مع إدارة بايدن، وإعادة النظر في الاندفاعة نحو "إسرائيل"، إذ كانت تلك المحاولات بطيئةً للغاية، وما لبثت أن ارتدت. يؤشّر ذلك إلى نمط من العلاقات تجاوز في عمقه الإداراتِ السياسيّة واختلافاتها في أميركا و"إسرائيل"، وتَحَوّل إلى علاقاتٍ مؤسسيّة بين أجهزة البلدين. كما أنّ العهد الحالي غير قادر على اجتراح طريق يَعبُرُ به من أزماته المختلفة بمعزلٍ عن النفوذ الإسرائيليّ وتقديم خدماتٍ له.

هذه القراءة الإستراتيجية لطبيعة النظم الحاكمة وآفاقها، هي التي ينبغي أن تضبط علاقة حركة "حماس" بتلك النظم وتصوراتها عنها، وذلك بعيداً عن الآمال الرغبوية والمجاملات المُفرِطة والدبلوماسية التجميليّة. وبالرغم مما هو معلوم من دبلوماسية "حماس" الهادئة تجاه الأنظمة التي تستهدِفُها، والأثمان الشكلية التي قد تُدفع مقابل السعي في الإفراج عن معتقليها لدى السعوديّة، فإنّ الحركة عليها مراجعة بعض خطواتها التي لا تُثمر شيئاً جديّاً لها مقابل ما تستفيده تلك الأنظمة من تبييض صفحتها بـ"حماس" والتجمّل بها، كما حصل في زيارة اسماعيل هنية أخيراً للمغرب، أو إثارة تصوّرات تفضي إلى التضليل حول سياسات بعض الدول ومواقفها، مما يؤثّر على صوابية قراءة جمهور المقاومة للمشهد، وأحياناً على صدقية حركات المقاومة بين جمهورها.

المصدر: متراس