الطريق إلى منصور عباس

ساري عرابي
04-01-2022

رأي

الطريق إلى منصور عباس

ساري عرابي

 

بدت الاختيارات السياسيّة والمفردات الخطابيّة لمنصور عباس، رئيس القائمة العربيّة الموحّدة في الكنيست الإسرائيلي، مثيرة للاستغراب، والاستهجان بالتأكيد، لتطابقها في بعضها مع السياسات الصهيونيّة الاستعماريّة، ولأنّ هذه القائمة تُعدّ ذراعاً سياسيّة للحركة الإسلاميّة/ الجناح الجنوبيّ، في فلسطين المحتلّة عام 1948.

لم يكن تصريح منصور عباس الأخير، الذي يقول فيه إنّ "إسرائيل" ولدت يهوديّة وستبقى كذلك، إلا واحداً من جملة مواقف كثيرة، كان مطلعها بمشاركة القائمة العربيّة الموحّدة في حكومة نفتالي بينيت الأخيرة، وهو ما يترتب عليه ضمان القائمة العربية الموحّدة لاستمرار الحكومة وتماسكها، وغضّ النظر عن قراراتها الاستعمارية، أو تفهّمها أو تأييدها، مقابل مكاسب تتمثّل في تقليص الفجوات بين "الوسط العربي" في الداخل وبين "الوسط اليهودي".

يتضح من ذلك، رفع قضايا الاقتصاد والرفاه للمجتمع العربيّ في الداخل المحتلّ، إلى ما يفوق القضايا القومية الكبرى لعموم الفلسطينيّين، وهو ما يؤول بالسكان الأصليّين في الداخل المحتلّ إلى أن تنحصر قضيّتهم في مطالب أقلية تقبل بالسرديّة المؤسّسة لـ"إسرائيل". وقد عبّر عن ذلك منصور عبّاس صراحة، بتأكيده لا على يهوديّة "إسرائيل" من حيث حقيقتها العنصريّة، أو وصف الواقع كما هو، بل من حيث إيمانه بأنها سوف تبقى يهوديّة، الأمر الذي يطرح سؤالاً عن أهدافه طالما أنّ يهوديّة الدولة حتميّة لازمة لوجوها، لن ينشغل بتغييرها، بل ولا حتى بمعارضتها.

يعني ذلك أن منصور عبّاس قد تجاوز كلّ بعد كلّيّ فوقيّ للصراع، ذي طبيعة قوميّة، أو متعلّق بالسرديّة، أو بحقوق الفلسطينيين ومصالحهم خارج مجال اشتغاله، أو حتى بطبيعة الدولة التي يعيش فيها، لينشغل بالقضايا التحتيّة حصراً في مجال اشتغاله، وهو ما يعني أنّه مستعدّ لدفع الثمن المطلوب من القضايا الكلّيّة الكبرى لصالح القضايا التحتيّة، ممّا قد ينتهي بالمسار إلى مآلات أخطر ومدمّرة للوعي القوميّ ولطبيعة دور الفلسطينيين في الداخل المحتلّ عام 1948، وذلك لأنّ المنطلق في هذا المسار ينحطّ بالفلسطينيين في الداخل المحتلّ من سكان أصليين يناضلون في سبيل الرواية والحقّ والتاريخ، إلى أقلّيّة تشبه من وجه ما أقلّيات يهودية عرقيّة، منخرطة في المبدأ الصهيوني، ولكنها تطالب بمساواتها مع المكوّنات الاجتماعية اليهوديّة الأخرى الأكثر حظّاً ونفوذاً في "إسرائيل". ولتوضيح الأمر، يمكن السؤال: كيف يمكن أن ينظر الفلسطينيون في الضفّة الغربية والقدس وغزّة لموقف شديد الإضرار بهم؛ باعه منصور عباس لحكومة بينيت لأجل مكاسب اقتصادية لفلسطينيّي الداخل مثلاً؟!

ما ينبغي قوله والحالة هذه، إنّ المقدّمات إلى هذا المآل لم تبدأ مع منصور عباس، ولكنّ الأخير أخذها إلى نتائجها التي كانت سوف تفضي إليها في المحطّة الأخيرة للمسار. فمن جهة عجزت الحركة الوطنية الفلسطينية عن صياغة موقف وطنيّ جامع يلاحظ مواقع الفلسطينيين في كلّ مكان، ومع توقيع اتفاقية أوسلو، التي عَنَتْ حتماً التخلّي عن الفلسطينيين في الداخل المحتلّ عام 1948 وتركهم يتدبّرون مصيرهم بأنفسهم، وتحوُّل حلّ الدولتين بصيغه المتعدّدة إلى مشروع فلسطينيّ تتفق عليه القوى الفلسطينية وإن بصيغ مختلفة، فإنّ النزوع الأقلّياتي سيجد دفعة إضافية لـ"النضال" حصراً من داخل المؤسسة الصهيونية، والتي تبدأ، والحالة هذه، بالكنيست الإسرائيلي، وهي طريق بدأها قبل ذلك الحزب الشيوعي الإسرائيلي بأعضائه اليهود والعرب، وبصيغته الأخرى؛ الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، ثم في الأحزاب العربية المتعدّدة، والتي كان منها حزب منصور عباس؛ الحركة الإسلامية التي دفعت الثمن مباشرة بشقّ الحركة وتمزيقها حين دخولها الكنيست عام 1996 بالتحالف مع الحزب العربي الديمقراطي.

ما فعله منصور عباس، أنه طرح الوجه الآخر لهذا المسار، فكما أنّ الحكومة الإسرائيلية هي مؤسّسة صهيونية، فكذلك الكنيست الإسرائيلي، فلا شيء من هذه الحيثية يمنع المساواة بينهما، ومن ثمّ توسيع الخيارات السياسية للأحزاب العربية في "إسرائيل"، فيصير دخول الحكومة كدخول الكنيست خياراً سياسيّاً مقبولاً. وطالما أنّ الأحزاب العربية لا ترى فرقاً بين الأحزاب الصهيونية الأمر الذي يعني بالنسبة لها مقاطعة الحكومة، أو الامتناع عن الدخول في تحالفات وائتلافات مع القوى الصهيونية، فإنّ المساواة بينها قد تعني العكس تماماً، فطالما أنّها واحد في النهاية، فما الذي يمنع اللعب على تناقضاتها، ولو بالدخول في ائتلاف كما هو الحال في حكومة بنت الحالية؟ وطالما أن "النضال" محصور في المجرى المقبول من المؤسّسة الصهيونية، وهو الكنيست، فإنّه لا بدّ والحالة هذه من القبول بالشرط الصهيونيّ لنيل المساواة!

ما فعله منصور عبّاس أنه كان أكثر صراحة ووضوحاً من سابقيه إلى طريق الكنيست، فأعاد ترجمة "إسرائيلي كامل فلسطيني كامل"، أو "دولة لكلّ مواطنيها"، إلى المعنى الحقيقي لهذه العبارات، فالدولة تطالب بإسرائيلية كاملة ابتداء، لتمنح السكّان الأصليين حقوقاً مساوية.

والإسرائيلية الكاملة تبدأ بالاعتراف بالدولة والعمل من خلال مؤسّساتها ثم استكمال الاعتراف؛ بالإقرار بيهودية الدولة، والقبول بالعمل في بقية مؤسساتها من بعد الكنيست، ولو بالتخلّي عن السرديّات الأصليّة، والنزول عن مستويات النضال الفوقيّة القوميّة. وليس لـ"إسرائيل" كبير مشكلة في بعض الحقوق الثقافيّة، كأن يتحدث الفلسطينيّون العربية وأن يذهبوا إلى مساجدهم وكنائسهم، فالمهمّ الإقرار العمليّ بالدولة وسرديّتها، ونزع الفلسطينيين في الداخل المحتلّ عن الخطاب القومي الفلسطيني، وتجميل ديمقراطيتها بهم في النهاية، بعد إعادة هندستهم وربطهم بالكامل بالمؤسّسة الصهيونية، وهو ما حصل بالفعل من قبل مع بعض الفئات، بعد تقسيم المؤسسة الصهيونية للفلسطينيين في الداخل وفق محدّدات طائفية وفئوية، وعلى نحو دفع بعضهم للخدمة في جيش الاحتلال، وإفراز شخصيات سياسية أكثر يمينية في الانتساب للصهيونية من الصهاينة أنفسهم!

إنّ طلب الاعتراف من الأقوى، بعد دخول اللعبة بشروط الأقوى، سيفضي إلى هذه النتيجة، فالأقوى سيطلب المزيد من التنازلات دون وجود ضمانات كافية لأن يقدّم بدوره الأثمان المطلوبة للأضعف، وهو ما يظهر في التجربة الفلسطينية عموماً، سواء تجربة مسيرة التسوية وعملية السلام، أو تجربة الدخول في الكنيست، أو حتى تجارب الإسلاميين السياسيين في أكثر من بلد، وقد انتهى بهم المطاف - غالباً - لمطالبة الدولة (كما هي) بالاعتراف بهم، لينتهوا إلى خطابات ومواقف تتعارض مع منطلق التشكّل السياسيّ للإسلاميين. فقد أصبحوا كأيّ كيان سياسيّ آخر، متخفّف من السرديّات الكبرى، وينشغل خطابيّاً في أحسن أحواله في تحسين شروط الديمقراطيّة، وقد يتورّط في تحالفات وتربيطات سياسية تناقض حتى هذا الحدّ الأدنى.

قد يكون ثمّة عوامل خاصّة كثّفت من حالة منصور عباس، كالعوامل الشخصية، والتي قد يكون منها الإفراط في تقدير الذكاء الذاتيّ، أو العوامل الاجتماعيّة، بالشعور الأقلّياتي المضاعف، فالرجل ينتمي لـ"الأقلّية العربية"، ثم هو في قريته مسلم سنّيّ وسط أكثريّة درزيّة، بيد أنّ مقدّمات المسار التي جرى عرض بعضها في هذه المقالة؛ هي العوامل الأساسيّة والحاسمة.

المصدر: عربي21