العائلية والجهوية واختلاف الأولويات

سري سمور
26-11-2021

رأي

العائلية والجهوية واختلاف الأولويات

سري سمور

اللهجة الجزائرية أيضًا لا تحمل مفردات تفاوت طبقي، شأنها شأن لهجتنا الفلسطينية، ولعل هذا من تدابير اللطف الرباني، للشعوب التي وقعت تحت وطأة استعمار استيطاني؛ فالجزائر تعرضت لما يشبه الحالة الفلسطينية، حيث إن فرنسا اعتبرت الأرض الجزائرية "قطعة من فرنسا" وهناك نفور فلسطيني عام من التبجيل اللفظي المبالغ فيه للأشخاص، ولكنه تراجع  بوضوح، ولكن لم يصبح الحال مثل نظيره عند مجتمعات عربية أخرى.

العائلية والجهوية تعود بثوب جديد

البؤر المشتعلة في انتفاضة الحجارة شهدت منذ الأسابيع الأولى لاندلاع المواجهات انحسارًا شديدًا للتعصب العائلي، وصار التنظيم/ الفصيل/الحزب /الحركة عائلة المنتسب إليه فعليًّا، وقد يستثنى من ذلك بعض القرى الصغيرة، التي كان دورها هامشيًّا في أحداث تلك الانتفاضة، إلى درجة أن تجد عائلتين متنافستين بينهما نزاعات، كل منهما محسوبة على تنظيم بعينه، ولكن عمومًا، كانت التنظيمات هي المرجعية، وليست العائلات ولا العشائر، ولم تكن التنظيمات تتردد في عقاب أو تصفية من يثبت عندها أنه عميل للاحتلال حتى لو كان من عائلة كبيرة، وربما بمباركة -أو مشاركة- أفراد من العائلة نفسها.

نظّر بعض الكتبة والمثقفين إلى أن المرحلة الجديدة (بعد أوسلو) هي مرحلة الحكم المدني وانتهاء دور التنظيمات، وبطبيعة الحال لا مكان لدور العائلة والعشيرة في الإدارة المجتمعية العامة، ولكن ما جرى هو أن العائلية، وبالتوازي مع الجهوية أطلت برأسها من جديد، وعادت قطاعات من الجمهور إلى حضن العائلة والعشيرة، واتبعت معظم العائلات تكتيكًا أو سياسة إظهار الولاء قولاً وفعلاً للسلطة الجديدة، حمل عبارات التفخيم والتبجيل لها ولرئيسها، وبالتالي لم تعترض السلطة على التكتلات العائلية، باعتبار أن المجتمع الفلسطيني (عشائري) وأن هناك إمكانية للتفاهم والتواصل مع العائلات والعشائر في حال وجود مشكلة، وأيضا لحشدها في معارك انتخابية محتملة، واعتبرت العائلات داعمًا ضمنيًّا وشبه مضمون للحزب الحاكم "فتح" وهذا طبعًا بعيد عن فهم طبيعة عوام الناس، الذين ينحازون إلى مصالحهم غالبًا، وتأييدهم يكون للسلطة القائمة (أيًّا كانت) والاعتماد يكون على المجاميع النخبوية المستعدة للنضال في صفوف أي حزب أو حركة بغض النظر عن حالته حكمًا أو معارضة.

لكن السلطة لم تتساهل  أمام محاولة أي عائلة لتفجير السلم الأهلي عبر فتح ملفات انتفاضة الحجارة، خاصة موضوع قتل المتهمين بالعمالة مع الاحتلال أو ملاحقتهم وإيذائهم جسديًّا أو نفسيًّا، ولذا حين أطلقت سلطات الاحتلال سراح مجموعة من المعتقلين المحكومين بتهم تصفية عملاء، عززت السلطة إجراءاتها الأمنية حول الحافلات التي نقلتهم وحول بيوتهم وحذرت من المساس بهم، لعلمها أن هناك عوائل ترغب بالثأر منهم، وسرعان ما تم استيعاب معظمهم في الأجهزة الأمنية القائمة، وفي ذلك الحين نجحت السلطة تمامًا بلجم كل من تسوّل له نفسه التعرض لهم رغبة بثأر أو انتقام... لكن بطبيعة الحال هناك حالات حصلت بعد ذلك وحتى السنوات الأخيرة مردها رغبة عائلات أو أفراد من عائلات بالثأر والانتقام.

الليبراليون الحالمون والمنظرون لحكم ديموقراطي شبيه بما عليه الحال في "إسرائيل" والدول الغربية، وهم بالمناسبة أتيحت لهم بعد أوسلو معظم وأهم المنابر الإعلامية، غير ما ابتكروه هم من منابر، انزعجوا من ظاهرة العائلية والجهوية، وكتبوا عنها عشرات المقالات وانتقدوها في محاضرات وندوات، فهم كانوا يرون إمكانية بناء مجتمع ونظام فلسطيني لا يستنسخ سلبيات الحالة العربية، وأيضًا كانوا يرون أن بناء نظام "مدني ديموقراطي علماني" يحدّ من انتشار "التطرف الإسلامي" (طبعًا هم يقصدون أي حالة إسلامية بما في ذلك حماس والجهاد الإسلامي، فمعظم مثقفي هذا التيار لهم موقف سلبي من مسائل إسلامية عادية يقوم بها معظم الناس، ولكنهم يطعمون أو يتسترون وراء شعارات التصدي "للتطرف والظلامية والعودة إلى عصور الظلام والتشدد وعدم الأخذ بسماحة الإسلام"...إلخ  وكل تلك العبارات الفضفاضة المكرورة).

لكنهم عمومًا كانوا حقيقة يحلمون بإقامة مجتمع ونظام يقدّس حقوق الإنسان وتعزيز مبدأ المواطنة، والاحتكام إلى الخيار الديموقراطي (بشرط ألا يشارك فيه الإسلاميون) أو بكلمات أخرى بناء كيان فلسطيني بمواصفات الدول الأوروبية الحديثة لا باستحضار البنى العربية القائمة على عكس ما حلموا به ونظّروا له،وكل هذا بنظرهم يمرّ من بوابة أوسلو، ولا أدري كيف فهموا أن اتفاقًا -مؤكد هم قرأوه- كهذا يمكن أن يحقق أحلامهم وآمالهم أو حتى بعضًا منها.

ولكن هجومهم على العائلية والجهوية ظل في إطار نظري، والحلول التي قدموها لم تكن عملية، وبدت وكأنها تتحدث عن مجتمع آخر أو منظومة سياسية في مكان مجهول بالنسبة للجمهور.

وخصوم هؤلاء أيديولوجيًّا أي التيار الإسلامي أيضًا انتقدوا عودة العائلية من منطلق شرعي، وكانت ردود المنخرطين في تكتلات عائلية تقول إنهم يتكتلون للتعاون على الخير والبر وليس على الشر والإثم وهذا ما يأمر به الشرع.

والحقيقة المرّة أن العائلية والجهوية، حتى لو كانت نوايا الدافعين نحوها طيبة، تضعف التمركز حول القضية الوطنية الجامعة، وتفتح باب التنافس بعيدًا عن مفاعيلها وتسبب في تغيير الأولويات الفردية وأوتوماتيكيًّا الجماعية.

وظهرت أعراض أمراض اجتماعية عدة آنذاك نابعة من ضعف التمركز حول القضية الوطنية منها:

  • كثرة الادعاءات البعيدة عن الحقيقة؛ فصرت ترى كثيرًا من الأشخاص بعد استقرار السلطة النسبي يتكلم بصوت عال أنه كان (فتحاويًا ويعمل سرًّا) وينسب لنفسه أدوارًا يعرف القاصي والداني أنه بعيد عنها، ويزعم أن له الحق برتبة أو منصب أو وظيفة بناء عليها. بالطبع كان تنظيم فتح قبل أوسلو محظورًا من سلطات الاحتلال، وكان يمكن أن يلاحق مواطن عادي وتستدعيه مخابرات الاحتلال لسؤاله هل التقى قريبًا له يعمل في التنظيم عندما سافر إلى بلد عربي أو حتى أجنبي، وكان هناك من يبتعد عن مناضلي فتح تجنبًا لأذى الاحتلال. والآن رفع الحظر عن الانتماء لفتح وصارت حزب السلطة، وبالتالي قفز هؤلاء للادعاء الكاذب؛ ولا أنفي هنا أن هناك من كانوا في تنظيم فتح وعملوا سرًّا ولم تتمكن مخابرات الاحتلال من كشفهم و اعتقالهم، ولكن عدد هؤلاء قليل جدًّا، ولو جمعنا أصحاب زعم (العضوية السرية) فسيقول أي مبتدئ في الأمن والسياسة أن مخابرات الاحتلال ساذجة وغبية ولا تعرف شيئًا عن الناس، وهذا غير صحيح بالتجربة العملية، ولكن فتح وإن كان بعض كوادرها انتقدوا شخصيات زعمت هذه المزاعم، لدرجة تصنيفهم ونسبتهم إلى جهات ومرجعيات ودول، ولكن في حوارات ودردشات خاصة، وليس وفق إجراء تنظيمي يضع حدًّا لهم، لأن فتح ربما رأت أن كذب هؤلاء خير من ذهابهم إلى تأييد خصمها السياسي، أو حتى اتخاذهم موقف المحايد، وأن ثمة شعور بالنقص لديهم ورغبة جامحة في إثبات الولاء سيجعلهم أدوات تنفيذية لتصورات الحركة.
  • هناك من ليس كاذبًا بل كان في التنظيم فعلاً، ولكنه زعم زهده في السلطة ووظائفها رغم أنه حقيقة ساع إليها وطامع فيها، مع استثناءات طبعًا، فمثلما كنت تلقى وتسمع الكاذب الذي يكاد يقول لك إن أبا عمار كلفه بقيادة التنظيم سرًّا في جنين أو نابلس أو رام الله، وكنت تلقى مناضلاً أو من كان في التنظيم وسجن أو طورد يقول لك: عرضوا عليّ وكيل وزارة كذا ورفضت (أو حتى منصب وزير) أو رتبة عقيد في جهاز كذا وأنا لا أرغب، ولا أدري ما هو مصدر العرض المزعوم ولماذا يرفضه، وهو سعى أو انخرط بأقل منه غالبًا؟!
  • التفاخر الاجتماعي بأقارب مسؤولين أو قريبين من المسؤولين. قلت في مقالات سابقة إن الوضع الجديد جعل على منصة المكانة الاجتماعية من ينافس المقاومين، وتبعًا لذلك صرت تجد ظاهرة التفاخر بقرابة أو مصاهرة مسؤول ما، مع مبالغات في دوره ومكانته وتأثيره الحقيقي، خاصة في بعض المناطق التي لم يكن لها باع طويل في المواجهات مع الاحتلال، مع حالة تزلف واضحة في حالة حضور المسؤول، حتى لو كان هو فعليًّا لا يرغب في هذا، ولكنها حالة شبه عامة. على كل ربما يبدو التفاخر بالمسؤول معقولاً ومستوعبًا، ولكن وجد أناس يتفاخرون بأن قريبهم من الدرجة الرابعة هو مرافق أو حارس المسؤول فلان!
  • التنافس في المظاهر والتباهي بأمور غابت خلال سنوات انتفاضة الحجارة؛ فتجد من يريد اقتناء سيارة تماثل سيارة فلان حتى لو لم يكن قادرًا أو ليس بحاجة إليها، أو بناء بيت أكبر حجمًا من بيت فلان، أو إقامة حفل زفاف أكبر مما كان لدى فلان.. وهكذا!

قد تبدو هذه أشياء طبيعية في المجتمعات العربية، ولكن في الحالة الفلسطينية بعد تغييبها أو غيابها بفعل ظرف انتفاضة شعبية فإن لها مدلولاً سياسيًّا، وهو أن ترتيب سلم أولويات عامة الناس اختلف وتغير، ولم تعد مسألة الاحتلال على رأس سلم الأولويات والاهتمامات، خاصة في ظل سعي الناس لتحصيل أرزاقهم أو كماليات الحياة.

طبعا هذا لا يعني أن الناس أداروا ظهرهم للشأن السياسي عمومًا، أو توقفوا عن متابعتهم للأخبار والأحداث، أو توقف حالة الاستقطاب، ولكن ليس الأمر بذات الوتيرة السابقة. وسنتحدث بمشيئة الله عن ظواهر ومظاهر أخرى في تلك الفترة في المقال أو المقالات القادمة.