الغزو الثقافي وأدوات المواجهة - قراءة في رؤية المفكر المصري حامد ربيع
مراجعات
الغزو الثقافي وأدوات المواجهة
قراءة في رؤية المفكر المصري حامد ربيع
بيسان عابد
مقدمة
تتتابع أدبياتنا العربية والفلسطينية في التصدي لمحاولات التشويه الثقافي والفكري -الصهيونية منها والغربية- متخذة موقف الرد والدفاع المُجتزأ حيناً؛ والإحالة إلى دور ووظيفة أجهزة الإعلام الجماهيرية والوسائل الأخرى بوصفها خطاً للدفاع الأول لمواجهة الفيضان الفكري المقابل حيناً آخر. وأدبيات إسلامية أخرى اجتهدت في تعميق فهم الغزو الثقافي ونادت بإحكام القبضة على التراث الإسلاميّ والعربيّ –عودة إليه وتشبثاً به- لحمايته من التذويب الصهيوني والغربي. إلا أن كلاً من هذه الأساليب لا تشكل رؤية كلية شمولية، ولا تنسج إطاراً معرفياً لفهم ودَرك أبعاد المشكلة، والتصدي لمنابعها ووقف هذا الفيضان والحد منه. وقصور هذه المحاولات يكمن في أنها تقف عاجزة عند سطح الظاهرة لا تتعداها، وعند ظاهر المعلومات ترصّها تباعاً، ولا ترتفع إلى رؤية فلسفية نظرية/ معرفية، فضلاً عن أن بعضها يركز على جانب العدو –الآخر- وأدواته وفحوى الرد المضاد على خطابه، وتهمل "الأنا" الحضارية ببعدها الأصيل الإنساني منه والفردي.
تحاول هذه الورقة إعادة قراءة ما يسمى بالغزو الثقافي والفكري، بالتفاعل مع نص المفكر وأستاذ النظرية السياسية في الجامعات المصرية والعربية، الدكتور حامد ربيع (1924-1989)، [1] الذي طال فكره قضايا الصهيونية والكيان الصهيوني والدعاية الإسرائيلية، فضلاً عن تناوله للديناميات الحضارية والمجتمعية المحركة لأطراف الصراع. وهو كما قال أحمد ثابت، من المفكرين العرب القلائل الذين حفروا لأنفسهم بنية منهاجية بالغة الدقة؛ وفائقة القدرة على التفسير المتكامل والمتناسق داخلياً، الذي يمتاز في منهاجية العلم الاجتماعي بالتناغم والسلاسة في الجدل الداخلي والتحليل، سواء كان هذا التحليل عبارة عن نموذج إرشادي أو (Paradigm) أو نموذج معرفي أو بنية نظرية.[2] وسنلحظ في هذه الورقة تناولاً مختلفاً لظاهرة الغزو الثقافي وأدوات مواجهته في النص الربيعي، وسنعرض المقدمات التي وضعها في نصه، والتي يجب أن ينطلق منها محور التعامل مع ظاهرة الغزو الثقافي بدءًا بالتقوية الذاتية أولاً، ثم الوعي الثقافي ثانياً، فاستراتيجية التعامل الثقافي ثالثاً.
التقوية الذاتية
يبتدئ ربيع بمقدمته المعرفية الأولى وهي التقوية الذاتية، وقد يتبادر للذهن أنها تسلّحٌ بالمعارف المضادة على المستوى الفردي لمواجهة المعارف الدخيلة، لكنها تذهب إلى أبعد من ذلك، وتبحث في المستوى الفردي؛ الذي يتمثل في "الأنا" الحضارية. فهي عنده "العودة إلى التراث وخلق الثقة بالذات القومية، ذلك أن الثقافة القومية لا يجوز أن تستند إلى فراغ لأنها تعبر عن استمرارية تاريخية؛ فالثقافة العربية حقيقة سلوكية لم تنقطع في أي مرحلة من مراحل التاريخ الإنساني." [3] وهذا المستوى من أول المستويات وأهمها، فالعودة للتراث العربي والإسلاميّ وتعزيز الثقة به هو أول أدوات المواجهة.
يذكرنا هذا بأدب ما بعد الحداثة وما بعد الاستعمار ومواجهته للمركزية الأوروبية التي سيطرت على الأدب لعقود (Eurocentrism)، فقاومها أدباء أمريكيا اللاتينية باستحداث/ تطوير أسلوب أدبي سمّي بالواقعية العجائبية (Magical Realism) ،[4] يستحضرون فيه تراثهم الديني والقوميّ ويؤسسون شرعية وجوده أصالة في الأدب بعدما أقصاه أدب الحداثة الأوروبيّ الواقعي. وغزا هذا الأخير العالم ليُرسي قواعد أدبه وعقلانيته المُثلى. فهذه عودة للتراث، تفاعل معه وإبداع له. ونذكر من روّاد هذا اللون الأدبي جابريال ماركيز في روايته الشهيرة "مئة عام من العزلة" “One Hundred Years of Solitude”.
وحتى لا يلتبس مفهوم عملية إحياء التراث الذي ذكرناه مع الدعاوى المُجتزأة التقليدية لمواجهة العزو الفكري، يعرفه ربيع بمزيد وضوح، "أنه ليس مجرد نشر لمجموعة من النصوص الجامدة؛ إنه معاناة ومعايشة، تطعيم للخبرة بدم جديد ومنطق متجدد، إنه استقراء الماضي على ضوء الحاضر لإطلاق الدلالة نحو المستقبل." [5] وبهذا يفارق هذا الطرح سواه، في نظرته للتراث كأداة في مواجهة الغزو الثقافي، فما يعنيه في هذا المقام ليس "التراث" إنما "التفاعل مع التراث" وشتان بين الاثنين.
وخلاصة هذه المقدمة في نص ربيع أننا اعتدنا أن نسوق النصوص التراثية ونعود إليها "كما هي" لحل كل إشكال، فمنتهى نسخ هذه النصوص لا يعني إلا المؤرخ أو المتخصص، أما ما يسمّيه ربيع بعاَلم المُجتمع الجماهيري، فوظيفة إحياء التراث فيه يكون أساسها: "البحث عن الذات القومية وتأسيس انطلاقة المستقبل من خلال محاور ومستندات الماضي عبر الحاضر."[6]
الوعي الثقافي
بعد تحقق المقدمة الأولى، يجب التنبه للمقدمة الثانية وهي طبيعة الوعي الثقافي، وأن هذا الوعي لم يعد "ذاتياً"، بل أضحى علاقة مشاركة في المحيط الإنساني. فليس يكفي وفقاً للنص الربيعي أن تثق في التراث القوميّ، "بل يجب أن يثق الآخرون في ذلك التراث؛ وبوظيفته الإنسانية والتاريخية، بل وظيفته القيادية." [7] فهنا ينتقل الوعي من "الفردي" إلى "الجماعي"، والتراث القومي المُتجدد والذي تم إحياؤه؛ سيخرج إلى المجتمع الجماهيري ويمتزج بوعيه.
يذكُر ربيع في هذا السياق، الحرب التي تشنها أجهزة الدعاية الصهيونية منذ الحرب العالمية الأولى، والتي من أسبابها فشل قيادتنا في تعميق هذا المستوى من الوعي الجماعي، وتبعاً لفشلها فرضت حرباً نفسية تخضع لها المنطقة العربية والثقافة العربية، في محاولة لتشويه كل ما يتصل بالعروبة، "فتم تقديم التراث العربي في علاقة طرد ثابتة وفي مناقشة فكرية دائمة مع التراث الغربي بعامّة، واليهوديّ بخاصة؛ أحدهما نموذج للتخلف والتعصب، وثانيهما تعبير عن التقدم والرقي والانطلاق والحق في القيادة." [8]
ونشهد اليوم المحاولات الصهيونية وقد وصلت بالتطبيع العربي مداها، فتحاول تزييف الوعي المجتمعي ليكون قابلاً للتعايش مع الآخر، محاولةً دمج نفسها في نسيج المنطقة؛ بما يخدم الفكر والممارسة الصهيونية على أرض الواقع. وما هذا إلا نتاج جمود أدواتنا في حماية الكلّ الجماعي، فأصبح الوعي الجماعي هشاً ومُخترقاً؛ وإن كانت أصوات عربية هنا وهناك تثبت حيناً أن هذه المحاولات لم تنجح تماماً في اختراقه.
ونلحظ بالمقابل، أن ما يذكره ربيع من "ترسب لأفكار التشويه الصهيونية في الفكر والإدراك الأوروبي والعالمي المعاصر"، ما ذلك إلا تمثّل انتقالها من مستوى كونها فردية وخاصة بجماعة، إلى العالم كله باستراتيجية تعميقها في الوعي الجماعي العام لتشويه الثقافة العربية ووضعها في موضع يستلزم التبرير والرد، والدفاع دوماً وليس الهجوم؛ ومن هنا يمكن استخلاص أن أدوات المواجهة والرد يجب أن تكون من المنطلق نفسه.
استراتيجية التعامل الثقافي
وبين المقدمة الأولى والثانية علاقة تربط بينهما، أو هي أقرب لكونها مقدمة ثالثة في النص الربيعي، وهي استراتيجية التعامل الثقافي. ومدارها في نصّه أن عملية "التعامل" الثقافي سواء كان إيجابياً أو سلبياً، قاصداً تدعيم الثقافة العربية لإبرازها في ثوبها الحقيقي، أو إزالة الصورة المترسبة في الأذهان حول ما يسمى "الثقافة اليهودية" وكلاهما وجهان لحقيقة واحدة، هي عملية لا يمكن أن تؤديها الصحافة اليومية والإعلام المُتداول؛ إنما هي وظيفة المدارس الفكرية.[9]
ونذكر في هذا المقام مالك بن نبي في كتابه "الصراع الفكري في البلاد المستعمرة"، وتبيانه لأهمية المدارس الفكرية ومحاوله المُستعمر تغييب دورها، وأن المُستعمر "يحول بين الفكر والعمل السياسي حتى يبقى الأول غير مُثمر والثاني أعمى؛ فتصبح عمليات الرقابة والتصحيح والنقد الذاتي، التي من شأنها أن تكشف نواياه وتعطل مشروعاته غير ممكنة في البلاد المُستعمرة." [10] ولا يعني هذا أن الإعلام المعتاد أو الإعلام الجماهيري لا موضع له، إنما يأتي موضعه في لحظة لاحقة متأخرة، عندما يكتمل التصور والإدراك الفكري الفردي والجماعي.
فعندما نتعامل مثلاً مع تيار المؤرخين الصهيونيين الجُدد والذي امتدّ وطال الأدب الصهيوني، الذي ينتقد ظاهراً الرواية الصهيونية الرسمية ويشكك بها، كما في رواية مزرعة دجاني (2008) للصهيوني آلون حيلو، يلزمنا النظر والتروي، فلا يمكن أن نتعامل معها بسطحية الإعلام الجماهيري. فإن هدف حيلو وتيار المؤرخين الإسرائيليين الجدد هو "الرغبة في إعادة ترميم الصدع الحاصل في بنية الصهيونية، وتجديدها لتنقية الضمير الإسرائيلي من عقدة الإحساس بالذنب؛ من خلال الاعتراف بأخطاء الماضي وزيف الأساطير الصهيونية والإقرار بصحة الرواية الفلسطينية للحصول على صك الغفران."[11] فنلحظ أن هذا التيار ليس إلّا استراتيجية تجديدية تقصد تسوية الصراع العربي الإسرائيلي المتأزم. فتكون مواجهتها نظريّة فكريّة ابتداءً، فتصدُّرُ الإعلام أولاً للتعامل مع هذا التيار، قد يؤول لتناوله بظاهر كونه مناهضاً، وإغفال أنه بخلاف ذلك تماماً؛ تيار صهيونيّ تجديديّ أصيل.
فالتصدي الفكري - بالعودة للنص الربيعي- يكون أولاً، أما دور الإعلام فيأتي لاحقاً عندما يصبح ذلك الإدراك مهيئاً ومعدّاً ليتلقاه العامّة، فمنطق التعامل كما عبّر عنه ربيع، "يجب أن يتكامل أولاً في صومعة المفكر، فلا يوجد إعلام ناجح إن لم يكن امتداداً لإيناع فكري؛ والإيناع الفكري بمختلف مستوياته ليس موضعه الإعلام اليومي الذي تعود أن يلهث وراء الخبر."[12]
فرؤية كهذه ترى التكامل بين الفكر النظريّ والواقع الحركيّ، وقد تميل للقول بضرورية الأول على الثاني، وأسبقيّته عند التعامل مع ظاهرة الغزو الثقافي وغيرها من التحديات الفكريّة. وفي نهاية عرض المقدمات، يذكر ربيع فقه الاتصال السياسي، الذي يميز بين خمسة مستويات للتعامل: "الإعلام العلمي، ثم إعلام النخبة المثقفة، ويعقبه إعلام صانع القرار، ثم يأتي ما يُسمى بإعلام قائد الرأي، قبل أن نصل إلى الإعلام الجماهيري."[13] والشاهد هنا أننا في تعاملنا المُجتزأ درجنا على أن نُلغي بعض هذه المستويات أو أن نخلط بينها، فوجب التنبه لهذا الخلط وإعادة مركزة هذه المراحل في موضعها الصحيح.
خاتمة
الغزو الثقافي هو في حقيقته حرب فكرية، وتشكل هذه المقدمات النظرية الثلاث في النص الربيعي أدوات لمواجهته والحد منه، فالتعامل مع الظواهر لا بد وأن ينبع بدايةً من إطار استراتيجيّ نظري، وقصور معظم أطروحاتنا الفكرية سببه تجاوز هذا المستوى أو سطحيّة حضوره، والاكتفاء بالتعاطي مع المعلومات والأحداث وتحليلها، وعدم إدراك أن الانفصال بين الفكر والحركة محال. وهذا ما دأب عليه المفكر حامد ربيع في كتاباته؛ فقد حرر نفسه من التقيد بقوالب نظرية مُسبقة. وما قدمه ربيع في نصه يمكن اعتباره كما قال تلميذه د. سيف الدين إسماعيل، "مشروعاً فكرياً تجديدياً." وما قدّمه يصلح أن يكون نصاً تأسيسياً، داعياً لإنتاج النص الحرّ، معبراً عن ولائه وانتمائه الأصيل لأمته الإسلامية والعربية وقضاياها.
References
Haikal, Ahmad. “Collapse of Founding Myths of the Zionist Settlement: Alon Hilu's House of Dajani”. Department of English and Comparative Literature, American University in Cairo, 2012.
Zamora, Lois, and Wendy B. Faris. Magical Realism: Theory, History, Community. Durham, NC and London: Duke University Press, 1995.
المراجع
بن نبي، مالك. الصراع الفكري في البلاد المُستعمرة، دار الفكر - دمشق، 1981، ص 24-29.
ثابت، أحمد. "من أعلام الفكر القومي: حامد ربيع ونموذجه التركيبي التفسيري للصهيونية وبنيتها العصرية". مركز دراسات الوحدة العربية، (2012).
ربيع، حامد. مدخل في دراسة التراث السياسي الإسلامي، ج2، مكتبة الشروق الدولية، القاهرة، 2007، ص 286 - 288.
[1] الدكتور حامد عبد الله ربيع (1924م - 1989): ولد في القاهرة، وهو مؤلف ومفكر عربي ومن أعلام الفكر السياسي العربي المعاصر. عمل أستاذًا ورئيس قسم العلوم السياسية في جامعة القاهرة، وأستاذًا للنظرية السياسية. لهُ أكثر من 45 كتابًا، وكتب أكثر من 350 دراسة منشورة باللغات العربية والإنجليزية والفرنسية والإيطالية واللاتينية، إضافةً إلى آلاف المقالات في الدوريات العلمية العربية والأجنبية والصحف.
[2] أحمد ثابت، "من أعلام الفكر القومي: حامد ربيع ونموذجه التركيبي التفسيري للصهيونية وبنيتها العصرية"، ص2.
[3] حامد عبد الله ربيع، مدخل في دراسة التراث السياسي الإسلامي، ج2 (مكتبة الشروق الدولية، القاهرة، 2007) ص 286.
[4] Lois Zamora and Wendy B. Faris, Magical Realism: Theory, History, Community, (Durham, NC and London: Duke University Press, 1995).
[5] ربيع، مدخل في دراسة التراث السياسي الإسلامي، ص 286.
[6] ربيع، مدخل في دراسة التراث السياسي الإسلامي، ص 286.
[9] ربيع، مدخل في دراسة التراث السياسي الإسلامي، ص 288.
[10] مالك بن نبي، الصراع الفكري في البلاد المُستعمرة، ص 24-29.
[11] Ahmad Haikal, “Collapse of Founding Myths of the Zionist Settlement”, p.2.
[12] ربيع، مدخل في دراسة التراث السياسي الإسلامي، ص 288.
[13] ربيع، مدخل في دراسة التراث السياسي الإسلامي، ص 288.