القضاء.. القشة التي كشفت وجه "إسرائيل"
تعديلات نتنياهو القضائية وما تبعها من ردود فعل في الشارع الإسرائيلي، كشفت عن عُمق الأزمة الإسرائيلية، عن صراع محتدمٍ على شكل الدولة وصيرورتها، وعن الصورة النمطية التي لا يجب أن تبقى عليها فحسب، بل يجب أن تظهر بها تحديداً أمام القوى الغربية وعلى وجه الخصوص الولايات المتحدة الأمريكية.
وبنظرة معّمقة إلى ما حدث خلال الشهور الأخيرة فإنّه تتويج لذلك الصراع المستمر منذ سنوات، لا بل عقود ولكن بشكل مختلف. فمن ناحية ديموقراطية صرفة قد يكون سلوك نتنياهو صحيحاً ما دام يمر من خلال أغلبية واضحة في البرلمان التشريعي، خاصة أنّ "إسرائيل" لا تستند إلى دستور واضح المعالم يرتب بيتها، وردّ الفعل في الشارع هو الآخر طبيعي جدّاً، في محاولة تعبيرية من قبل شريحة من الجمهور عن رفضه لمسارات معينة داخل الدولة.
لكن هذا المشهد لم يكن هو المسيطر على المشهد الإسرائيلي خلال الشهور الأخيرة، فأمام ائتلاف نتنياهو لم يقف الشارع، ولم يكن نتنياهو سيتراجع بفعل وجود مئات آلاف الإسرائيليين المعارضين في الشوارع، لولا أنّ الدولة العميقة أطلت برأسها، وشحنت قواها للتصدي لهذا التحول، بدأت الأمور بمؤسسة الجيش، ثم لحقتها النقابات وصولاً إلى شبه شلل في الدولة، دفع نتنياهو إلى التيقنّ أنّ مواجهته ستكون خاسرة، وأنّ ارتدادات الأحداث لن توقف فقط تعديلاته، بل ربما تدفع به خارج كرسي رئاسة الوزراء.
لو استمرت الاحتجاجات واقتصرت على الشارع الإسرائيلي لأخرج اليمين هو الآخر اتباعه إلى الشارع، ولاستطاعت الحكومة كمؤسسة منع الحراكات من كلا الطرفين أو ربما استخدام الكثير من التقييدات للحد منها، لكن بداية الشلل في المؤسسة كان مرعبا، وهو ذات السياق الذي يكشف طبيعة الدولة العبرية، ما بين دولة عميقة أُسست في سياق لا يُمكن تغييره، وما بين تغييرات ديموغرافية يبدو أنّ تأثيرها في الداخل الإسرائيلي سيحتاج إلى سنوات طويلة.
بالنظر إلى "إسرائيل" التي يُمكن تسميتها بالثلاث دول، فإنّ الصراع اليوم بات بوضوح بين غربي وبقية المكونات، بين سيد وعامل، بين من يمتلك المؤسسة ومن يعيش على ضفافها، من يستفيد من هذا الشكل للدولة وبين من يحاول تغييره سواءً كان محقاً أم لا. فبالنظر إلى من تظاهر ومن كان يريد الإصلاحات، فإنّ 90% ممن تظاهروا ضدها كانوا غربيين، ومن دعمها ووقف بجانبها كانوا بالأغلب من المتدينين والشرقيين، في انقسام واضح حول الهوية التي يجب ان تكون لهذه الدولة.
من هنا كان لسيطرة الغربيين على مفاصل الدولة والمؤسسة ورقة الحسم في اتجاه إيقاف التعديلات القضائية ولو مرحلياً، حيث استطاعوا البدء بالممل على شلّ الدولة من خلال العصيان المدني، الإضرابات وبث روح الفرقة والعصيان داخل الجيش الإسرائيلي، الأمر الذي ألزم نتنياهو الخروج في النهاية وإعلان تأجيل طرح التعديلات القضائية على الكنيست من أجل فتح باب الحوار.
بالعودة إلى ما رافق هذه الفترة من احتجاجات واتهامات متبادلة، فقد انصبت جلّها بخطاب بين سيّد وعبد، دودي امسالم وزير من قبل الليكود تحدث ببعد طائفي واضح حول الأزمة، فبعد حديثه عن المظاهرات وطبيعة التظاهرين الذين ينتمون وفق قوله للطبقة الغربية الغنية، فقد عاد وأشار أنّ الشرقيين يعملون في المناصب المنحطة في الدولة، ويعملون كأجراء عند الغربيين الذين يمسكون عصب الاقتصاد، وتبع امسالم غيره الكثيرين ممن تحدثوا بهذه اللهجة والطريقة.
"نحن لسنا مواطنون من الدرجة الثانية" هو جوهر الخطاب الذي يرفعه الشرقيون والمتدينون، في إشارة لحجم الظلم الواقع عليهم، في المقابل فإنّ الغربيين لم ولن يكونوا مستعدين للعيش في دولة تغير لونها وجلدتها، هذه الدولة التي هم بنوها وأسسوها من وجهة نظرهم، وبسبب هذا اللون الليبرالي الصهيوني العلماني، استطاعت بناء علاقات استراتيجية مع الغرب الداعم لها، وهذا ا يُفسر سرعة وقوف الولايات المتحدة إلى جانب المحتجين، الذين يرون بأنفسهم جسر العلاقات القوي مع البيت الأبيض، خاصة أنّهم مدعومون من غالبية يهود الولايات المتحدة، الذين يرون بيمين نتنياهو وطبيعة تحالفاته، ضربة في عمق الفكر الصهيوني التقليدي.
هدف اليمين القومي والديني التغلب على المحكمة العليا لأهدافهم الخاصة التي تتقاطع مع هدف نتنياهو الخلاص من المحاكمات، يصطدم مع حقيقة أنّ المحكمة العليا في "إسرائيل" تُمثل بالنسبة لمن أسس الدولة من الغربيين الحصن المنيع في وجه من يريد تغيير لونها، فرغم تبدل الحكومات وتعاقبها، ورغم ارتفاع منسوب المتدينين في السيطرة على رأس الكثير من الوزارات، لكن يصطدمون مع حقيقة أنّ عصب المؤسسة هم من الغربيون، وبأنّ التغيير ليس سهلاً بالطريقة التي يتمنونها.
بالمجمل يُسيطر الغربيون على المؤسسة، وهم الأكثر غنىً في الدولة، يُمسكون بالاقتصاد وبقيادة الجيش، يسيطرون على محكمة العدل العليا، الموساد وكذلك رئاسة الوزراء منذ أن تأسست "إسرائيل"، والحرب اليوم على القضاء هو جزء من حرب داخلية هادئة بين سيد من الدرجة الأولى، ومكونات ؟أخرى من درجات أقل، لن يُسمح لها بالسيطرة حتى وإن حاولت ووصلت بطريقة ديموقراطية للحكم، إيذانا بمرحلة قادمة بعد سنوات ستكون ربما أكثر شدّاً في ظل ارتفاع نسبة الشرقيين والمتدينين وتراجع نسبة الغربيين، الأمر الذي سيجعل الصراع أكثر سخونة مستقبلاً.