القنوات الفضائية تدخل بقوة على خط انتفاضة الأقصى

سري سمور
31-08-2022
تحميل المادة بصيغة PDF

رأي

القنوات الفضائية تدخل بقوة على خط انتفاضة الأقصى

سري سمّور

 

تحدثت في المقال السابق عن أثر الإجرام والدموية الصهيونية، والتي عادة يطلقون عليها اسمًا أو وصفًا مخففًا (الاستخدام المفرط للقوة)، وكذلك عن هبة أكتوبر 2000 ، في تصاعد الانتفاضة وتأججها وتطور المواجهات، وأواصل في هذه المقالة الحديث عن عوامل أخرى.

 

ثالثًا: الإعلام والقنوات الفضائية

في مقال سابق تحدثت عن دخول الإنترنت إلى المجتمع الفلسطيني، وكذلك القنوات الفضائية ومحطات التلفزة المحلية، وكيف كان لها أثر في موضوع تكوين الرأي عند الفلسطينيين.

ومع اندلاع انتفاضة الأقصى، شهد الفلسطينيون الذين عاشوا أجواء انتفاضة الحجارة، نوعًا جديدًا تمامًا من التغطية الإعلامية، قوامه الاعتماد على التقارير المصورة عبر الفضائيات، والتواصل مع مراسلين من قلب الحدث، وتحديث مستمر للأحداث عبر ما صار لازمة أحداث انتفاضة الأقصى، خاصة في ذروتها أي عبارة "خبر عاجل".

وأيضًا وتلقائيًّا، انتهى فعليًّا اعتماد الفلسطينيين على الإعلام الإسرائيلي، مع بقاء شريحة تتابعه من الجمهور، إضافة إلى صحافيين فلسطينيين وعرب، لأغراض الرصد والتحليل والتعليق. تحرر المواطن الفلسطيني من (أسر) الإعلام الإسرائيلي الموجه من المخابرات بمكر وخبث هو إنجاز كبير، وأتوقع أن يسجله التاريخ كمرحلة من مراحل التحرر.

وكان هناك تلفزيون وفضائية فلسطينية رسمية بدأت منذ بضع سنوات بعد تطبيق أوسلو، ولكنها تأخرت نسبيًّا في مواكبة الحدث والتفاعل معه، لدرجة مرت فترة بعيد اندلاع الانتفاضة (حتى لو كانت قصيرة) والنشرة الإخبارية تبدأ بصورة الرئيس عرفات وحوله صورة مدبلجة لحمام أبيض وهو يتجه إلى طاولة. لاحقًا بالطبع تم تغيير هذه الشارة، لصورة الشهداء والجرحى وعمليات القصف الإسرائيلي.

ومع أنه لاحقًا كان هناك تغطية مفصلة من كل مراسل لتلفزيون فلسطين في كل محافظة من رفح حتى جنين، يتناول الأحداث بما لا يمكن لأي قناة تلفزيونية أخرى تناوله، ولكن المواطن الفلسطيني، كان قد توجه لمتابعة قنوات فضائية عربية.

هذا وقد بدأ تلفزيون فلسطين وقتها يوسع دائرة الضيوف والرأي؛ وشهدت شاشته بعد تصاعد الانتفاضة لقاء مملوء بالمجاملات، وتحدي الاحتلال، جمع أمين سر حركة فتح في قطاع غزة أحمد حلس (أبو ماهر) ورئيس حركة حماس حاليًّا إسماعيل هنية (أو العبد) والقيادي في حركة الجهاد الإسلامي نافذ عزام (أبو رشاد) الذي شارك عبر الهاتف نظرًا لوجوده في رفح وعدم تمكنه وصول مدينة غزة حيث الاستوديو، فقد كان الاحتلال يقسم بحواجزه قطاع غزة إلى ثلاثة أقسام حتى 2005 حين خرج من داخله تمامًا بجنوده ومستوطنيه.

ولا ريب أن مثل هذه اللقاءات والتي كان فيها عتب عابر على المرحلة السابقة من حماس والجهاد الإسلامي، وتأكيد على الوحدة في إطار التحدي والصمود والمواجهة كان لها في المقابل أثر طيب على الشارع الفلسطيني، الذي لا ينقصه رؤية أي نوع من المناكفات في تلك المرحلة الحساسة التي تصبغ فيها دماء الشهداء أرجاء فلسطين المحتلة.

وكان هناك تغطية شاملة نشطة من قنوات فضائية عربية، يشاهدها ليس فقط فلسطينيون بل عرب في العالم العربي وخارجه؛ مما جعل الحدث الفلسطيني بتفصيلاته حاضرًا بنشاط وتفاعل واسع، وتأججت عواطف الجمهور العربي، وكالعادة خرجت مطالبات بفتح الحدود وإعلان الجهاد ضد الصهاينة، ونظمت حملات لدعم الشعب الفلسطيني.

ومن أبرز تلك القنوات ومحطات التلفزة: قناة الجزيرة التي تبث من قطر، والتي ليس لها بث أرضي عادي، وقناة وتلفزيون المنار، الذي تحدث عنه مرشد الثورة الإيرانية علي خامنئي صراحة (يوجد تلفزيون المنار التابع لحزب الله والذي يتابعه مئات الآلاف من الفلسطينيين) وتصريح أمين عام حزب الله حسن نصر الله بأن من وسائل وأدوات وقوف الحزب مع الفلسطينيين تخصيص مساحة واسعة من (المنار) للانتفاضة واستضافة قادة كل الفصائل بلا استثناء، وكذلك قناة أبو ظبي الفضائية (سبحان مغير الأحوال) والتي كانت تغطيتها جيدة، بل أصيبت مراسلة القناة (ليلى عودة) برصاصة إسرائيلية في ساقها أمام الكاميرات في رفح (نيسان/ أبريل 2001).

ولكل قناة من هذه القنوات وغيرها سياستها ومرجعيتها وأسلوبها، ولكن الشيء المؤكد أنها ساهمت في تصاعد الأحداث؛ ولم تكن مجرد وسائل نقل للأحداث والتعليق عليها، بل بالإيحاءات الكامنة حرضت الفلسطينيين على السعي لإيصال صوتهم إلى العالم فيما يتعلق بمعاناتهم من بطش الاحتلال وتحديهم له بالمقاومة، وحرص الفصائل على إيصال رسائلها ومواقفها إلى الداخل والخارج عبر القنوات الفضائية.

وحازت قناة الجزيرة على قصب السبق في تغطية الأحداث، نظرًا لإمكانياتها وقدرتها على توزيع مراسلين في كل بقعة من فلسطين من رفح حتى الناقورة، وحرصها الشديد على التأكد من صدق الأخبار التي تبثها، حتى صارت هي الفيصل حول أي خبر يتم تداوله، وتخصيص برامجها (غير الأخبار) لمتابعة الانتفاضة وتداعياتها وتطوراتها الميدانية والسياسية.

ولكن الشيء المؤكد أن القنوات الفضائية العربية بلا استثناء بالغت كثيرًا في صياغة الأخبار والتقارير، وأظهرت وكأنما لدى الفلسطينيين جيشًا أو ميليشيات منظمة مسلحة جيدًا، تقاوم الاحتلال، ولو باستخدام ألفاظ من قبيل (هدوء يسود كافة المحاور حاليًّا) وكأن هناك جبهات قتال في حرب بين دولتين أو مجموعتين بينهما نوع من تناسب القوة. وهذا النوع من التغطية كان له دور في تصعيد الأحداث.

وبالعودة إلى قناة الجزيرة فقد ركزت كثيرًا في بواكير انتفاضة الأقصى على دور حركة فتح في انتفاضة الأقصى (ومثلها المنار من هذه الناحية) ولا أتحدث فقط عن التغطية الميدانية والضيوف وما شابه، بل إن فيصل القاسم  الذي يعد ويقدم برنامج "الاتجاه المعاكس" الذي كان له آنذاك شعبية ومتابعة واسعة، نظرًا لما كان عليه حال الإعلام العربي المحتكر رسميًّا، والذي يتبنى وجهة نظر واحدة بطريقة مقززة، ويحظر فتح ملفات هي التي حقيقة تشغل بال المواطن العربي، فيصل قال في حلقتين على الأقل: "من يقود الانتفاضة هي فتح" من باب الغمز من قناة الفصائل الأخرى خاصة حركة حماس، وهذا القول لم يقله حتى قادة فتح أنفسهم، بل ظل مروان البرغوثي (الأسير حاليًّا) أحد أبرز قادة فتح الناشطين في الانتفاضة يؤكد على أن الشعب الفلسطيني بكل قواه موحد، وأيضًا فيصل هنا يتجاوز دوره الإعلامي.

ومثل آخر عند وقوع عملية استشهادية باستخدام سيارة في "نتانيا" وفي اتصال مكتب الجزيرة في قطر مع مراسل الجزيرة وليد العمري وفي معرض حديثه عن العملية قال بأن المسؤول عنها قد تكون (حركة فتح ربما) طبعًا علل توقعه بكون العملية وقعت في مطلع عام 2001 تزامنًا مع ذكرى انطلاقة فتح. بعد أسبوع تبين أن المنفذ هو (حامد أبو حجلة) من كتائب القسام الذراع المسلح لحركة حماس وهو ناشط بارز في الكتلة الإسلامية  في جامعة النجاح.

ومرة أيضًا بعيد اندلاع انتفاضة الأقصى، استضاف سامي حداد في أحد برامج الجزيرة آنذاك "أكثر من رأي" عبر الأقمار الصناعية أمين عام الجبهة الشعبية أبو علي مصطفى (اغتيل في أواخر آب/ أغسطس 2001 بطائرات مروحية صهيونية) فأخذ سامي يذكره بأنه دخل من بوابة الاحتلال وعاد تحت سقف أوسلو، وهنا انفعل أبو علي وذكّر سامي بأنه في العام الماضي سأله نفس السؤال وأجاب، ولا داعي لتكرار الحديث في هذا الموضوع وقال لسامي: "هو فش حد رجع غير أبو علي؟! هناك أشياء مؤلمة إجبارية"... إلخ.

بالطبع ولاحقًا لتلك المرحلة وبعد أسابيع وشهور، وعند قيام حماس بتنفيذ عملياتها النوعية القوية، اختفى هذا النوع من الخطاب في قناة الجزيرة.

وكانت الجزيرة قبل ذلك حين تستضيف قادة حركة حماس على شاشتها علنًا تسألهم عما سيفعلون في تلميح يكاد يكون تصريحًا مبطنًا يصاغ بطريقة: "متى ستنفذون عمليات استشهادية، ولماذا لم تنفذوها حتى الآن؟"، وغني عن القول ما أثر ذلك السؤال في زيادة الغليان والتحفز وغيره.

ومن أبرز ما قامت به قناة الجزيرة وقتها تخصيص حلقة من "الاتجاه المعاكس" بطريقة خاصة غير مسبوقة؛ فالبرنامج عادة يستضيف اثنين حول مسألة معينة يطرح كل منهما وجهة نظره (بغض النظر عن الصخب المعروف) ولكن استضاف فيصل القاسم عبر الأقمار الصناعية العقيد معمر القذافي وحده، والذي كعادته في ابتكار (الآكشن) وحركات لفت النظر المميزة، فجر قنبلة بقراءة مخرجات وقرارات القمة العربية المزمع عقدها، والتي تصنف كقمة طارئة مستخدمًا أسلوبه التهكمي الساخر المعروف على تلك القرارات، مع استدراك بأنه يمكن أن يستوعب هذه القرارات لو كانت لقمة عربية عادية لا طارئة.

أثار هذا الفعل من القذافي زوبعة سياسية وشعبية كبيرة؛ خاصة أن الجزيرة ليست فضائية ليبية أو غيرها، وبالتالي شاهد ملايين العرب كيف أن القرارات التي تتخذها قمة عربية (طارئة) ليست فقط دون المستوى المطلوب، بل تصاغ سلفًا قبل مداولات وحوار ونقاش مفترض بين الزعماء العرب الذين دعوا إليها. وهذا أجج حالة السخط الشعبي خاصة الفلسطيني على النظام العربي الرسمي، الذي رأوه لا يكترث ولا يبالي بالقتل والدمار الذي تقوم به "إسرائيل". ولم يكن ممكنًا نفي ما جاء به القذافي فهو مثل غيره من الزعماء وزعت عليه مقررات القمة، ولكنه تفرّد بنشرها على الملأ، وفقط أعربت الجامعة العربية عن (أسفها) من فعل القذافي!

وبالمناسبة لا بد أن نشير إلى ما قامت به الدول العربية بعد اندلاع الانتفاضة؛ فقد أغلقت قطر مكتب التمثيل التجاري في الدوحة، وغطت الجزيرة ذلك باهتمام كثيف، واستدعت كل من الأردن ومصر سفيريهما في الكيان؛ وهنا كان أحد ضيوف الجزيرة البارزين عبد الباري عطوان بصفته رئيس تحرير صحيفة القدس العربي الصادرة في لندن، يتهكم على هذه القرارات: "شو بساوي السفير الإسرائيلي بمصر بشَّمس؟!"

وكانت الجزيرة تستضيف صحافيين إسرائيليين، وكذلك مسؤولين بعضهم يقطر حقدًا وسمًّا مثل جدعون عيزرا، مع أن مذيعيها كانوا أحيانًا يقرعون ويؤنبون هؤلاء؛ فمثلاً قال أحد أبرز مذيعي الأخبار في الجزيرة جمال ريان لشمعون بيريز بأن معه وثائق تثبت أن بيريز يحتل بيته ويسكنه، ومرة قال أحدهم بعد وقوع عملية استشهادية (أظنه جدعون عيزرا): "إن من يقوم بهذه الأعمال هم حيوانات". فرد عليه مذيع الجزيرة عبد الصمد ناصر: "إن الحيوانات من يقتلون الأطفال ويفعلون كذا وكذا". أي أن الجزيرة لم تتخذ سياسة عدم استضافة الصهاينة على شاشتها وفي نفس الوقت سمحت لمقدمي الأخبار فيها بمهاجمتهم، ومراسلوها على الأرض ومقدمو الأخبار كانوا -وما زالوا- يصفون من تقتله القوات الإسرائيلية بالشهيد بلا تردد، والعمليات الاستشهادية كانت توصف بـ (الفدائية).

وتوجت الجزيرة سياسة فتح بثها أمام المسؤولين الإسرائيليين بإجرائها مقابلة مع إيهود باراك رئيس الوزراء الإسرائيلي في مطلع 2001 وهو الحدث الذي صنف بأنه "لأول مرة محطة تلفزيونية عربية تجري لقاء مع رئيس وزراء إسرائيلي".

بالطبع فإن الجزيرة لم تكترث للانتقادات الموجهة إليها بسبب هذه السياسة (استضافة صهاينة) بل وظلت الخريطة التي على شاشتها تشير إلى كلمة "إسرائيل" صراحة مع وجود اقتطاعات في الخريطة هي الضفة والقطاع.

ولم تؤدِّ هذه الانتقادات إلى تراجع شعبية الجزيرة وأعداد المتابعين لها؛ ذلك أن عددًا كبيرًا من الانتقادات موجه من أطراف داعمة للنظام العربي الرسمي، وهؤلاء صنفوا كمن يقول كلمة حق يريد بها باطلاً؛ فمشكلتهم مع الجزيرة ليست استضافة الإسرائيليين، بل ما يوجه عبر الجزيرة من نقد أو فضح لأنظمتهم وسياساتها.

وبتقديري فإن قناة المنار تعمدت ألا يكون (حصادها الإخباري) متزامنًا مع حصاد الجزيرة لأنها أدركت أن الجزيرة تأتي كأولوية في المتابعة عند المشاهد، خاصة الفلسطيني.

أما عن استضافة الجزيرة لقادة الفصائل الفلسطينية فحدث ولا حرج، بما في ذلك فصائل صغيرة أو كانت شبه منسية مقرها دمشق، وإعطاء المجال كاملاً لكل قادة الفصائل للإشادة بالانتفاضة وشهدائها وعملياتها والتحريض على استمرارها. وبالطبع هذا لا يروق للإسرائيليين.

وما دمنا لم نتحدث كفاية عن قناة المنار فإنني سأدمج الحديث عنها بأثر حزب الله على انتفاضة الأقصى ولهذا مقال خاص بعون الله ومشيئته.

  • المواد المنشورة في موقع مركز القدس للدراسات تعبّر عن آراء كتابها وقد لا تعبّر بالضرورة عن رأي المركز.