المستوطنات.. "وضع اليد على أراضٍ لأغراض عسكريّة"

نجيب مفارجة
01-09-2023

في سنوات الاحتلال الأولى كانت الآليّة الأساسيّة التي استخدمتها إسرائيل للسيطرة على الأراضي الفلسطينية لأجل إقامة المستوطنات "وضع اليد على أراضٍ لأغراض عسكريّة". في تلك السنوات صدرت أوامر وضع يد عسكرية على نحو 31 ألف دونم معظمها كان لأجل بناء المستوطنات.

أجهزة الاستيطان في الضفة الغربية لها كلّها أهداف مماثلة ولكن أجهزة النهب في قلب مدينة الخليل وفي القدس الشرقية - حيث سلبت إسرائيل من السكّان بيوتًا ومبانٍ أيضًا - تختلف في تفاصيلها.

في حزيران 1979 وضع جيش الاحتلال يده على أراضٍ بملكيّة خاصّة "لأغراض عسكرية" في منطقة نابلس لأجل إقامة مستوطنة "ألون موريه". قدّم عدد من السكّان التماسًا إلى محكمة الاحتلال العليا مؤكّدين أنّ وضع اليد على أراضيهم مخالف للقانون الدولي لأنّ الغاية منه إقامة مستوطنة مدنيّة، ولم يكن لأغراض عسكرية. وكانت المحكمة قد رفضت هذا الادّعاء في التماسات سابقة وقبلت ادّعاء الدولة بخصوص مساهمة المستوطنات في تعزيز الأمن، ومن ثمّ صادقت على وضع اليد على الأراضي.

ولكن في الحالة المذكورة أعلاه ادّعى مسؤولون كبار في جهاز الأمن أنّ إقامة المستوطنة في ذلك الموقع ليس لها أيّة أهمّية عسكريّة. إضافة إلى ذلك انضم بعض المستوطنين للالتماس كمدّعى عليهم وأوضحوا أمام المحكمة أنهم يعتزمون الاستيطان في الموقع بشكل ثابت وذلك لأسباب دينيّة وسياسيّة لا لأسباب أمنيّة.

إنّ هذه الملابسات الخاصّة لم تمكّن قضاة الاحتلال من إصدار قرار كما في السابق وكأنّ إقامة المستوطنة جاءت لتلبية حاجات عسكرية، إلا أنهم امتنعوا عن رفض هذه الإمكانية بشكل شامل. جعل القضاة قرار حكمهم مقتصرًا على حالة "ألون موريه" فقط وأقروا بأنّ وضع اليد على الأرض لم يكن لأغراض عسكرية وإنّما لأغراض مدنيّة وبالتالي فهو مخالف للقانون الدولي. لم ترفض المحكمة رفضًا قطعيًا إمكانية وضع اليد على أراض خاصّة لأجل إقامة مستوطنات واكتفت بالقول إنّه عندما يكون الاعتبار المهيمن على وضع اليد إقامة مستوطنة مدنيّة لا لأغراض عسكرية - يكون أمر وضع اليد عندها غير قانونيّ.

صعّب هذا القرار على إسرائيل الاستمرار في السيطرة على الأراضي بالطريقة التي اتّبعتها حتى ذلك الحين: لقد دفعها القرار إلى السعي لتوافُق جميع المسؤولين الكبار في جهاز الأمن بشأن مساهمة المستوطنة الجديدة في تعزيز الأمن وكذا لتأمين صمت المستوطنين عن أهدافهم المستقبلية. ولكي تتجنّب الحكومة ذلك أعلنت أنّ المستوطنات ستُبنى من الآن فصاعدًا فقط على أراضٍ مصنّفة كأراضي دولة.

ولكن، عندما سعت لإقامة مستوطنات على مثل هذه الأراضي تبيّن لها أنّ حجم الأراضي المسجّلة كأراضي دولة في أنحاء الضفة الغربية صغير (نحو 527 ألف دونم) وأنّ جميعها تقريبًا يقع في منطقة الأغوار و"صحراء يهودا" ؛ وفق مزاعم الاحتلال- فيما هي تريد إقامة المستوطنات في قطاع ظهر الجبل "جاف ههار". لكي تزيد من احتياطي الأراضي التي يمكن إعدادها لإقامة مستوطنات عليها بلور الاحتلال آليّة جديدة لتصنيف مناطق جديدة كـ "أراضي دولة".

ارتكزت الآلية الجديدة إلى إعادة كتابة القواعد القضائية وتبنّي تأويلاً جديدًا لقانون الأراضي العثماني (الذي نظّم مسألة مُلكيّة الأرض في الضفة الغربية) مغايرًا تمامًا لما كان متّبعًا حتى ذلك الحين. سهّل التأويل الجديد كثيرًا إمكانيّة تصنيف مناطق جديدة كأراضي دولة وإن كانت سابقًا بملكيّة فلسطينية خاصّة أو جماعية وفق تأويل سلطات الانتداب وحكومة الأردن لقانون الأراضي. من بين الوسائل لتحقيق ذلك: وضعت اسرائيل شرط الفلاحة المتواصلة للأرض كشرط لتملّكها على يد الفلسطينيين؛ وتجاهلت تعليمات القانون المحلّي الذي يمنح التجمّعات السكّانية الفلسطينية حقّ الاستخدام الجماعيّ للمراعي والأراضي العامّة الأخرى.

استنادًا إلى تطبيق القواعد الجديدة صنّف الاحتلال مئات آلاف الدونمات في الضفة كـ"أراضي دولة" وصادرتها من أيدي الفلسطينيين. بين السنوات 1979 و-2002 طبّقت الدولة ذلك على أكثر من 900 ألف دونم وهي زيادة بنسبة 170% إلى أراضي الدولة التي كانت في الضفة قبل الاحتلال. يوجد اليوم في مناطق C نحو 1,2 مليون دونم مصنّفة كـ "أراضي دولة"، وتشكّل 36,5 % من مناطق C و-22% من مجمل أراضي الضفة الغربية. إضافة إلى ذلك هناك نحو 200 ألف دونم مصنّفة كـ "أراضي دولة" تقع في مناطق A و-B حيث صلاحيات التنظيم والبناء بأيدي السلطة الفلسطينية.

أظهرت نتائج استطلاع مقارن أجرته "بتسيلم" في منطقة رام الله فروقًا هائلة في نسبة المساحات التي صنّفتها حكومة الأردن كمُلك حكومي في أراضٍ مسجّلة في سند الملكية (الطابو) قبل الاحتلال وبين نسبة المساحات التي صنّفتها إسرائيل كأراضي دولة في مناطق لم يمهل الوقت الأردنيين لتسجيلها. نتائج الاستطلاع تعزّز الاستنتاج بأنّ جزءًا كبيرًا من المساحات التي صنّفتها إسرائيل كأراضي دولة هي في الواقع ملك خاصّ لفلسطينيين، سلبته إسرائيل من أصحابه الشرعيين بواسطة مناورات قضائيّة منتهكة بذلك القانون المحلّي والقانون الدولي.

تعلّق بتسيلم على ذلك قائلة : "إجراءات السيطرة على الأراضي تنفّذ أيضًا خلافًا للقواعد الأساسية للإجراء العادل وأسُس العدل الطبيعي. في كثير من الأحيان لم يعرف السكّان الفلسطينيون أن أراضيهم قد سجّلتها الدولة ملكًا لها وعندما اكتشفوا ذلك كانت مهلة تقديم الاستئناف قد نفدت؛ عبء الإثبات يقع دائمًا على عاتق الفلسطيني الذي يدّعي أنّ الأرض ملك له؛ وحتى إذا تمكّن صاحب الأرض من إثبات ملكيّته يحدث أن تسجّلها الدولة ملكًا لها بحجّة أنّه تمّ تخصيصها لمستوطنة ما بحُسن نيّة".

تضيف بتسيلم : "على كلّ حال حتى لو كانت عمليّات تصنيف الأراضي كـ"أراضي دولة" جميعها قانونيّة فهذه الأراضي - وبضمنها تلك التي صُنّفت كذلك قبل احتلال 1967 - يفترض أنّها أراضٍ عامّة معدّة لخدمة الجمهور أي لخدمة الفلسطينيين سكّان الأراضي المحتلّة، وليس لخدمة إسرائيل أو مواطنيها. مع ذلك تمنع إسرائيل الفلسطينيين منعًا يكاد يكون قاطعًا من استخدام هذه الأراضي معتبرة إيّاها أملاكًا إسرائيلية".

 كجزء من هذا التصوّر خصّصت إسرائيل للمستوطنات مساحات شاسعة من "أراضي الدولة" هذه، تبلغ عشرات أضعاف مساحة المنطقة العمرانية. وقد عرّفت الأوامر العسكرية تلك الأراضي كـ"مناطق عسكرية مغلقة" يُمنع الفلسطينيون من الدخول إليها دون تصريح، في المقابل،  يُسمح لمواطني إسرائيل ويهود العالم والسيّاح دخولها بحرّية تامّة.