المشهد الإسرائيلي .... اذار 23
بدى المشهد في الكيان الصهيوني متوترا حد الانفجار على صعيد المواجهة بين ائتلاف نتنياهو الحاكم وبين تجمع المعارضة من ناحية، وعلى صعيد المواجهة مع الفلسطينيين من ناحية أخرى، وقد القت تلك التوترات بظلالها على العلاقة مع الولايات المتحدة التي أبدت استيائها من تصرفات حكومة نتنياهو، التي أصرت على السير في انقلابها القضائي، كما وصفته المعارضة، حتى وصلت بالأوضاع الى حافة الهاوية، كما ان جهود الولايات المتحدة في لجم وحشية اليمين الصهيوني المتطرف وعدوانه على الشعب الفلسطيني، لم تنجح من خلال قمتين في العقبة بمشاركة السلطة الفلسطينية.
يبرز الخلاف جليا بين حكومة نتنياهو وتكتل المعارضة في قضيتين مركزيتين، الأولى هي حسم الصراع مع الفلسطينيين ومستقبل الأراضي المحتلة عام 1967، كما يرى اليمين الفاشي او "إدارة الصراع" كما ترى المعارضة. والثانية هي حسم هوية الدولة وطابعها كدولة "قومية يهودية"، او "يهودية ديمقراطية" كما تريدها المعارضة.
إصلاحات قضائية ... ام انقلاب باسم القانون
يشهد الكيان الصهيوني حالة انقسام داخلي وصلت حد الشرخ بين تجمعين رئيسيين، يبدو جسر الهوة بينهما غير ممكن في المدى المنظور، تقف الفئة الأولى، والتي تضم أحزاب اليمين العلماني والديني القومي إضافة الى حزبي الحريديم، خلف بنيامين نتنياهو الذي يتزعم الائتلاف الحاكم بعد الانتخابات الأخيرة. بينما يضم التجمع المقابل أحزاب الوسط العلماني واليسار وأحزاب اليمين المناهض لنتنياهو، هذا الانقسام وصل حد الصدام المباشر بين المعسكرين في شوارع الكيان عبر سلسلة من الاحتجاجات سواء المعارضة او المؤيدة لمشروع الإصلاحات القضائية المزمعة، والأخطر من ذلك كله وصول الشرخ الى صفوف المؤسسة الأمنية والعسكرية في سابقة خطيرة لم تعهدها " إسرائيل" من قبل .
ففور وصولها إلى سدّة الحكم، سعت حكومة نتنياهو إلى إجراء تغييرات جذرية في المؤسّسة القضائية، وإزالة جميع الكوابح والتوازنات القائمة في المنظومة القانونية الإسرائيلية كي تتمكّن من الحكم وفق رؤيتها، سيما فيما يخص طبيعة الدولة اليهودية وهويتها ونظام الحكم فيها. حيث أعلن وزير القضاء ياريف ليفين عن تفاصيل المرحلة الأولى من خطّته الشاملة لإجراء تغييرات جذرية في المؤسسة القضائية، الامر الذي قاد مباشرة الى اندلاع الاحتجاجات.
هذ الاحتجاجات كان محورها الأساسي محاولات رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إجراء تغييرات واسعة تشمل المؤسسة القضائية ومنظومة القوانين الإسرائيلية، وترتبط بمساعيه لتحصين نفسه من أي إجراءاتٍ قانونيةٍ في قضايا فساد واحتيال يواجهها، وكذلك بسنّ قوانين جديدة تتلاءم مع قيم اليمين المتطرّف والفاشي الذي صار حجر الزاوية في حكومته بعدالانتخابات.
لكن الامر اعمق من ذلك بكثير، فالائتلاف الحاكم غالبية ناخبيه من اليهود الشرقيين او من هم من أصول شرقيه وهم من قدموا الى "إسرائيل" بعد تأسيسها، بينما غالبية مصوتي المعارضة هم من اليهود الغربيين ونسلهم، وهم من قام الكيان على اكتافهم في سنوات العشرينات والثلاثينات والعقود الأولى من عمر الكيان الصهيوني، وهم من صاغوا مبادئه ورؤيته وطبيعته ونمط حياته وبنية نظامه السياسي . وفي حين يعتبر اليمين أن المعارضة تراخت في تحقيق مبادئ الصهيونية في صيغتها الاساسية واستبدت بالسلطة من خلال تقديم النخب الاشكنازية اليسارية الى المناصب الأساسية في الدولة، ترى المعارضة أن اليمين يدمر الصهيونية ويأخذ الدولة التي بذلت في سبيلها الغالي والرخيص إلى الهاوية من خلال تحويلها من يهودية ديمقراطية إلى دكتاتورية دينيه تحتكم بأوامر المتدينين والمتطرفين .
فعلى خلاف الصهيونية المؤسسة التي تحولت من سلوك استعماري عنيف قبل 48 إلى سلوك دولاني استعماري بعد إقامة إسرائيل يقوم على المؤسساتية والبيروقراطية القانونية والديمقراطية الليبرالية، فإن الصهيونية المستجدة تمارس دورًا يقوم على خليط بين ممارسة المستعمر النشط والطلائعي المتدين والمتزمت قوميًا ليهوديته ويمثله نموذج "شبيبة التلال" التي تقود عمليات الاستعمار في الجبال والهضاب في الضفة الغربية والعربدة العنيفة مقابل الفلسطينيين وبين المستعمر الدولاني الذي يتخذ من أدوات الدولة المؤسساتية والقانونية روافع لتحقيق مشروعه .
يجري الصراع بين هاتين المجموعتين، "المستوطنون الأوائل والمستوطنون الجدد"، على السيطرة على مؤسسات الدولة، حيث يعتقد اليمين والذي يحظى بأغلبية انتخابيه في العقدين الأخيرين، بان النخب العلمانية واليسارية ما زالت تفرض سيطرتها في الاعلام والقضاء ومفاصل الدولة الهامة الأخرى، وانها الى جانب ذلك تتسلح بجملة من القوانين الأساسية التي صيغت في عقود سيطرة حزب العمل وحلفاؤه، الى جانب الدور الكبير الذي تلعبه محكمة العدل العليا لصالح هذه النخب كما يعتقد اليمين. لذا فان تراجع نتنياهو مؤخرا عن الإصلاحات القضائية تحت ضغط الشارع والمؤسسة الأمنية والعسكرية، لا يعني انتهاء الازمة بين الطرفين، بل على العكس ربما ستتجدد المواجهة بين الطرفين لاحقا بوتيرة اعلى، لان اليمين الحاكم بزعامة نتنياهو سيجد نفسه عاجزا عن تجسيد رؤيته وافكاره وتطبيقها كسياسات على ارض الواقع بفعل القوانين المقيدة لرؤيته، وبفعل احتكام التشريعات والقوانين الجديدة لسلطة محكمة العدل العليا التي تلعب دور محكمة دستورية في دولة الكيان[1].
وقد أظهرت حركة الاحتجاج المعطيات التالية:
- تعاظم الاستقطاب في المجتمع الإسرائيلي سياسيًا واجتماعيًا وإثنيًا، خصوصًا بين العلمانيين الذين ينتمون إلى الطبقتين الوسطى والعليا في المجتمع الإسرائيلي من جهة، واليهود المتدينين والصهيونيين والحريدية (المتدينين المتزمّتين) والمستوطنين، مع تمثيل أعلى بكثير لليهود الشرقيين في المعسكر الثاني.
- اتّسمت حركة الاحتجاج باستمراريتها وشمولها فئات واسعة من المجتمع الإسرائيلي.
- رغم ادّعاء حركة الاحتجاج أنها تدافع عن الديمقراطية، فإنها، في حقيقة الأمر، تدافع عن آخر حصون الليبرالية في إسرائيل، وهو جهاز القضاء، من دون إيلاء أهمية لعدم تطبيق هذه الليبرالية على المناطق المحتلة، وأن اليهود وحدهم يتمتعون بحقوق مواطنة كاملة.
- بروز دور المؤسستين العسكرية والأمنية في معارضة التشريعات الهادفة إلى الحد من استقلالية القضاء[2].
يتمثل الهدف الأساس لنتنياهو حاليًا في الحفاظ على ائتلافه الحكومي، وهو لن يُقدم على الأرجح على أي حلّ يقود إلى تفكّكه إلا إذا ضمن اتفاقًا مع زعيم المعارضة بيني غانتس لدخول ائتلافه الحكومي أو لدعمه من الخارج، ولكنه لا يستطيع أن يتنازل عن جميع التشريعات من دون تسويةٍ تضمن له بعض المكتسبات. والتسوية ليست سهلة المنال، والعودة منها بخُفَّي حُنَين تعني العودة إلى التشريع أو مكافأة الأحزاب الصهيونية الدينية المتطرّفة بامتيازات إضافية. وإذا قرّر نتنياهو الاستمرار في عملية التشريع، فإنه يخاطر بتعميق الانقسام داخل المجتمع الإسرائيلي وفي مؤسسات الدولة .
حسم الصراع مع الفلسطينيين
تجري عملية حسم الصراع أمام الفلسطينيين في الأراضي المحتلة منذ 67 تدريجيا، من خلال فرض الامر الواقع على الأرض عبر سياسات استعمارية استيطانية عنيفة تجاه المكان والانسان الفلسطيني بهدف محاصرة واقتلاع الفلسطينيين من ارضهم واستبدالهم بالمستوطن الصهيوني
قد لا تكون هذه السياسات جديدة بل هي تعبير عن روح الدولة اليهودية الاستعمارية، التي سعت الحركة الصهيونية إلى تأسيسها منذ البداية. لكن جديدها يكمن في هيمنة تيار فاشي شعبوي لا يلتفت كثيرا للضوابط أو الحسابات المرتبطة بالشرعية الدولية في سعيه لإخضاع الفلسطينيين وتحطيم مشروعهم الوطني وفرض رؤيته عليهم، وتقاطع هذا مع لحظة فلسطينية مؤلمة يعاني فيها الفلسطينيون من حالة هشاشة سياسية ومن تشرذم وضعف قيادة وفقدان للحاضنة العربية الإقليمية، مما يشكل فرصة مواتية لإسرائيل لتحقيق هدفها ويضع الجميع أمام مسؤولية تاريخية كبرى.
وتتمثل عملية حسم هذا الموضوع بمساعي حكومات بنيامين نتنياهو المتتالية، إلى فرض حل من جانب واحد على الأرض يفضي إلى ضم مساحات واسعة في الضفة الغربية من مناطق "ج" والمستوطنات، ويتم التحضير له من خلال القيام بعمليات مباشرة وغير مباشرة لتوسيع السيادة الإسرائيلية على المستوطنات ودمجها التدريجي ببنى الدولة المؤسساتية والقانونية والتحتية في مقابل تثبيت مكانة السلطة الفلسطينية بوظيفتها الحالية ربما مع توسيع بعض صلاحياتها ومناطق نفوذها واعتبارها تحقيقا لفكرة الـ"دولة الناقصة"، التي يدعو لها نتنياهو، حيث يضمن وجودها بقاء الفلسطينيين تحت سيادة إسرائيلية أمنية كاملة وانسحاب إسرائيل من إدارة الحياة اليومية للتجمعات السكانية الفلسطينية، ما يعني فعليا تحويل السلطة إلى إدارة مدنية بديلة بمسمى "دولة مينوس"! وفي ذات الوقت يتيح هذا الأمر لإسرائيل استمرار السيطرة على المفاتيح الأساسية للأراضي المحتلة خاصة الأراضي في المناطق المحاذية للمستوطنات وتلك التي تعد إستراتيجية كمنطقتي الأغوار والقدس[3].
حيث واصلت قوات الاحتلال عدوانها في داخل المدن الفلسطينية خاصة في شمال الضفة الغربية التي تشهد حركة نشطة للمقاومة الفلسطينية فقد أوقع رصاص الجيش الصهيوني عشرات المدنيين الفلسطينيين العزل شهداء اثناء محاولاته وتنفيذه لعمليات اغتيال ضد من يدعي انهم مطلوبون لديه بحجة قيادتهم اعمال مقاومة ضد جنوده ومستوطنيه .
وكانت ذروة هذا العدوان خلال الأيام الاولى من شهر رمضان الذي تزامن هذا العام مع عيد الفصح اليهودي، والذي يمارس خلاله الصهاينة اقتحام المسجد الأقصى مستفزين بذلك مشاعر المسلمين في شهر الصيام، حيث سمحت حكومة اليمين المتطرف للمستوطنين باقتحام المسجد بعد قيام قوات امنها بإخلاء المسجد من المعتكفين بعد ان اعتدت عليهم ومارست ضدهم كل اشكال العنف والقمع، لكن رد المقاومة الفلسطينية لم يتأخر كثيرا وجاء مفاجئا في الزمان والمكان، حيث تم قصف شمال فلسطين المحتلة من الجنوب اللبناني في الوقت الذي كانت المؤسسة الأمنية والاستخبارية في الكيان توجه اعينها الى الجنوب نحو قطاع غزة كما واصلت المقاومة في الضفة عملياتها النوعية وهذه المرة في عمق الغور الفلسطيني
لكن الأهم والجديد في هذه الجولة هو اطلاق الصواريخ من الجنوب اللبناني، فما جرى من إطلاق صواريخ من لبنان تجاه إسرائيل يرسل رسائل متعددة، منها أن إسرائيل ليست محصنة عن المحاسبة على ما ترتكبه من جرائم، وأن الشعب الفلسطيني ليس معزولا، وأنه في حال أقدمت إسرائيل على رد تصعيدي آخر، سيكون لذلك التصعيد ردود أفعال أكبر بكثير، ستعاني منها إسرائيل بشدة.
كما ان الجولة سجلت بوضوح تأكل قوة الردع الصهيونية امام قوى المقاومة الفلسطينية وحلفائها، الى جانب ترسيخ مفهوم وحدة الساحات الذي اثبتته المقاومة في معركة سيف القدس 2021. وكل ذلك اتى على خلفية التصعيد في المسجد الأقصى ما زاد من كي الوعي لدى الاحتلال ان أي اقتراب من المكان الاقدس في فلسطين سيعني بالضرورة اشتعال شرارة المواجهة ضده مهما كان الثمن.
ختاما
لا تبدو الأمور متجهة نحو التهدئة في المستقبل القريب سواء على الصعيد الداخلي في الكيان الصهيوني او على صعيد المواجهة مع الفلسطينيين، ففي معركة "الإصلاح القضائي" يرى اليمين ان فرصته قد لا تتكرر لإحكام سيطرته على مؤسسات الدولة والتخلص من الدولة العميقة المناصرة للعلمانيين الأشكناز. اما في الضفة العربية فان حكومة نتنياهو لا ترى من الأساس ان الفلسطينيين لهم حق بدولة ما على هذه الأرض، وبالتالي فنها غير مستعدة لاي استحقاق سياسي تجاه السلطة الفلسطينية التي ترى فيها تابعا امنيا واقتصاديا ليس اكثر.