المشهدية الكفاحية في الضفة الغربية.. الطريق والمعنى

ساري عرابي
14-04-2022
تحميل المادة بصيغة PDF

في العمق

المشهدية الكفاحية في الضفة الغربية.. الطريق والمعنى

ساري عرابي

الطريق

يبدو ما يجري في الضفّة الغربيّة، لغير الناظر في عمق الأحداث ومسارها، وكأنّه تحوّل مثير ينطوي على قدر ظاهر من التصعيد الدرامي. لكنه في جوهره تمدّد في سلسلة انبنت على حلقاتها الممتدة في واقع الضفّة الغربية، وكانت بعض تلك الحلقات محوريّة للغاية في خلق التحوّلات الاجتماعية الباعثة على تمدّد السلسلة الكفاحية، ويمكن هنا التأريخ، كما اعتدتُ القول، بحرب العام 2014، و"معركة سيف القدس" 2021، وقد ساهمت الأولى في نقل الوعي في الضفة الغربية من مرحلة "ما بعد الانقسام" إلى مرحلة تلمّس الطريق، وهو ما انعكس في "هبّة القدس" في تشرين الثاني/ أكتوبر 2015، بينما ساهمت الثانية في تكريس التحولات وصولاً للمشهدية التي تتصدّرها منطقة جنين الآن، ولاسيما مخيّمها.

لا يمكن القول إنّ الفعل النوعي المؤثّر طرأ فجأة الآن، فقد شهدت ساحة الضفّة الغربية عددا من الأعمال النوعية من بعد العام 2014، سواء بدافع ذاتي خالص أم بدافع مشوب بالانتماء التنظيمي، لكن يمكن وسم ما يجري، بسمتين أساسيتين، أولاً كثافة العمل النوعي في وقت قياسي، فقد سقط في آذار/ مارس 11 قتيلاً إسرائيليّا وأصيب 27 آخرون، في عشر عمليات متتابعة، واحدة منهما عملية طعن ودعس مزدوجة، واثنتان منها نفذهما فلسطينيون من الداخل المحتل عام 1948، وأربع منها وقعت في القدس، واثنتان في بلدة حزما في ضواحي القدس (أهلها يحملون بطاقات الضفة الغربية)، وواحدة في بلدة السيلة الحارثية بجنين، وأبرزها وقعت في قلب "تل أبيب" وانطلقت من بلدة يعبد بالضفة الغربية، وذلك من بين 190 عملاً (لا تشمل رشق الحجارة)، سجّلها جهاز الشاباك الإسرائيلي، في حين شهد نيسان/ إبريل الجاري تنفيذ عملية في قلب "تل أبيب" وانطلق منفّذها من مخيم جنين، وأودت بثلاثة إسرائيليين، وإصابة 12 آخرين.

بالمقارنة تتضح الكثافة، فالعام المركزي، في الدفع نحو الوصول إلى هذه الذورة، أي العام 2021، قُتل فيه إسرائيليان فقط، من بين أكثر من 6000 عمل مقاوم (تشمل الرشق بالحجارة)، وذلك بحسب إحصائية للجيش الإسرائيلي.

السمة الثانية المركزية لما يجري، بعد سمة الكثافة، هي تطوّر نمط من العمل المنظّم، المنتسب للتنظيمات الفلسطينية، في جنين بالدرجة الأولى، ثم في نابلس، وذلك بعدما تمكّن الاحتلال من تفكيك خلايا عسكرية لتنظيمات المقاومة في عموم الضفة، في السنة المنصرمة، وعلى طول السنوات الأخيرة. هذا العمل المنظّم، انتقل بالمشهد إلى الأمام، بتكثيف عمليات إطلاق النار، والأهم بالتصدّي المسلح لاقتحامات الاحتلال لعدد من المناطق (مخيم جنين، وبعض البلدات في محيط جنين، ومدينة نابلس)، وتميّز هذا التطوّر التنظيمي بنوع من الوحدة الميدانية المتجاوزة فعليّا للانتماءات التنظيمية الضيقة، وهو الأمر الذي تشهد به الأوساط الإسرائيلية الاستخباراتية والإعلامية، وهو ما يبدو أنه قد أفاد في توسيع دائرة العمل على النحو الذي يبطّئ من قدرة الاحتلال على تفكيكها.

بالتأكيد يمكن الوقوف عند سمات أخرى أقل جوهرانية من السمتين المذكورتين، كتنفيذ بعض العمليات من فلسطينيين في الداخل المحتل، على أهمية دلالات ذلك، وكون هذه العمليات تأتي بين يدي رمضان وفي مطلعه، وهو الشهر الذي حذّرت الأوساط الإسرائيلية، لاسيما الأوساط العسكرية، من أنه قد يشهد انفجارا غير مسبوق لتزامنه مع الأعياد اليهودية، واحتمالات اقتحام المستوطنين للمسجد في مشهد ضخم.

هذا الانفجار المحتمل عملت الأوساط السياسية الإسرائيلية والأمنية على تجنبه في حركة دبلوماسية واسعة وإجراءات متعددة، بيد أنّ التحفز الفلسطيني كان أسبق، وبما ينطوي على دلالات بالغة العمق، فالعمليات المؤثّرة بدت أقرب للعمليات ذاتية الدافع، ولا يبدو أن الانتماءات التنظيمية لمنفّذيها، لاسيما المنطلقة من الضفة، صلبة كفاية، بل هي أقرب للتأثر بالأجواء الاجتماعية المحيطة، وذلك في حين، تبدو عمليات التصدي والاشتباك من منطقة جنين تنحو إلى التنظيم أكثر، مما يعني أننا إزاء تعبير عن عمق اجتماعي، ينحاز نحو خيار المواجهة، متصل بالآثار التعبوية لمعركة سيف القدس، وما تلاها من أحداث، ويسبق في تحفّزه بين يدي رمضان استعدادات الاحتلال.

المعنى

تدرك المؤسسة الإسرائيلية بمستوياتها الأمنية والعسكرية والسياسية، دلالات السمات المذكورة لهذه المشهدية، فقد ظلّت ترصد باستمرار التصاعد الواضح، كمّا ونوعا، منذ مطلع هذا العام ومقارنته بالعام المنفصل، مما جعلها أكثر خشية من انفجار أكبر في رمضان الجاري، بيد أن القلق الإسرائيلي، أكثر عمقا، من أن يرتبط بالتوقيت، وهو ما تشي به التعبرات الإعلامية التي عكست قلقا أضخم من الحدث نفسه بالقياس إلى مراحل سابقة كانت فيه مقاومة الفلسطينيين أكثر نكاية وأثرا، إلا أن العمق مرتبط عضويا بجوهر الحدث ومعانيه واحتمالات مآلاته، أكثر مما هو مرتبط بالجهد الاستخباراتي من حيث صعوبة التنبؤ بالعمليات الفردية.

إنّ مصادر القلق الإسرائيلي الجوهرية، يمكن تلخيصها في:

أولا ـ إن الحالة الكفاحية الجارية المتصلة خصوصا بمعركة سيف القدس، وعموما بسلسلة الهبّات منذ العام 2014، تمتعت بقدر من الثبات، يجعلها في أقلّ أحوالها أكثر استعصاء على الرجوع إلى الخلف، وهو ما مهّد لهذه لقفزة بالتأسيس على معركة سيف القدس.

ثانيا ـ هذه الحالة لا تنمّ عن طفرة ناجمة عن دفع منظّم، وإن كانت متأثّرة بشدّة بحروب المقاومة في غزة، وإنما تملك قدرة من التعبير عن عمق التحوّلات الاجتماعية والسياسية في الضفة الغربية، مما يعني تجاوزا نسبيّا لسياسات الهندسة الاجتماعية وتقليص الصراع والرشى الاقتصادية وهيمنة سياسات السلطة الفلسطينية.

ثالثا ـ علاقة التأثير الديالكتيكية بين عناصر الفعل في هذه الحالة، فالواضح تماما أنّ كلّ فعل يشكّل عامل دفع تعبويّ لفاعل محتمل، وهو ما يظهر من تتابع الأعمال النوعية التي تكشف عن تأثّر الفاعل اللاحق بفعل سابق، والحالة برمّتها تنبني فوق سلسلة أحداث تراكمت في الوعي، كان من أهمّها الهبّات المتتابعة ومعارك المقاومة في غزّة، مما يعمّق من الخشية الإسرائيلية، ولاسيما في حال ازدادت الحالة كثافة، فكثافتها لا ترهق الجهد الاستخباراتي فحسب، بل توفّر بيئة معنوية وعملية للمزيد من الفعل.

رابعا ـ تنوّع أنماط الحالة، (نقاط مقاومة شعبية شاملة ضدّ الاستيطان، عمليات ذاتية الدافع، مستوى متطور نسبيّا من العمل التنظيمي قياسا لمراحل سابقة، دافعية متنامية للتصدي الشعبي للاحتلال)، مما يوفّر عناصر دفع تعبوية أكثر؛ تعوّض عن قصور بعضها، أو تتكاثف مع بعضها، كما من شأن التنوّع الزيادة في حجم الزخم، وتشتيت الجهد الاستخباراتي.

خامسا ـ الدلالات السياسية والاجتماعية للحالة، بوجود بؤر مقاومة تحظى بقدر معقول من الغطاء الشعبي، وتكشف عن مستوى من التمرّد على الظرف السياسي في الضفة ببعديه المحلّي والاستعماري، وهو ما يعني تحسين الظروف لتنامي الحالة في حال تمكّن المقاومون من توسيع دوائرهم بما يبطّئ من مفاعيل عمليات التفكيك التي ينفّذها الاحتلال، وإمكانية توسع الحالة جغرافيّا بما يخرجها عن السيطرة.

سادسا ـ تولّد هذه الدلالات إرباكا استخبارتيّا إسرائيليّا، فعمليات التفكيك الموضعي، لا تبدو سريعة كفاية، والدفع نحو إجراءات أوسع؛ قد يمنح الحالة زخما زائدا مما قد يدمج فيها شرائح اجتماعية أوسع، ويُضعف السلطة الفلسطينية أكثر، وهي التي تعاني من انحسار مطّرد في أغطيتها الشعبية ومصادر شرعيتها فضلا عن قصورها الوظيفي فلسطينيّا، سواء سياسيّا أم اقتصاديّا.

لا يعني ذلك أن الشروط الموضوعية قد توفّرت بما يكفي لاتساع الحالة، فالقدرة الاستخباراتية للاحتلال ما تزال كاسحة، وما يجري لا يكشف عن فشل أمني إسرائيلي بقدر ما يكشف عن تجدّد الشخصية الكفاحية للفلسطينيين وتنامي إرادة المواجهة في أوساطهم بما ينبثق عنه تآكل مشاريع الهندسة الاجتماعية، كما أنّ موقف السلطة الفلسطينية لم يتغيّر نحو تأييد الحالة ولو ضمنيّا، وما تزال الجهوزية التنظيمية قاصرة للغاية، والموقف الاجتماعي لم ينضج كفاية إلى درجة الاتساع القادر على احتضان الحالة، وإن كان قابلا للتطور بتطوّرها. هذا الاستدراك لا يُغفل عناصر التثوير المحتملة في رمضان (اقتحام الأقصى وتصدّي الجماهير له وتدخّل المقاومة من غزة)، ولكنها تبقى محتملة أكثر مما هي حتمية.

ونحن إذ نستدعي شيئا من التحفّظ في توقّع المآلات القريبة، فإنّنا لا نقلّل من أهمية الحالة بوصفها تحوّلا ثابتا ومتناميا، يقتضي قراءة تقدّره، دون التورّط في مقارنات تعجز عن قراءته في سياقه الموضوعي، كما أن هذا الثبات والتنامي يتناسب مع الظرف الاجتماعي والسياسي والأمني في الضفة، وإن كان ما يزال يحتاج تدبيرا تنظيميّا قادرا على التقاطه والحفاظ عليه في أقلّ أحواله، ومدّه أكثر في أحسن الأحوال.

المصدر: عربي21