المفاوضات والتسوية تكتيكات حربية صهيونية
رأي
المفاوضات والتسوية تكتيكات حربية صهيونية
سري سمّور
في ظل الأوضاع الراهنة لربما يبدو أن الأولى هو الحديث عن الواقع لا العودة إلى الوراء عبر سلسلة المقالات السابقة خلال الشهور والأسابيع الماضية؛ ولكن النتائج هي بنت المقدمات، والحاضر كان مستقبلاً وسيغدو ماضيًا، ودون نظرة عميقة إلى ما جرى في الماضي، سنعجز عن التعامل مع الحاضر، أو استشراف المستقبل.
ومع ذلك سيكون لي حديث، بعون الله ومشيئته، عن الحاضر ولربما المستقبل، بعد اكتمال رسم خريطة الماضي وعوامل وتأثيرات ومفاعيل ما جرى على الأوضاع والسياسات.
سنغافورة والكونفدرالية
لا زلت أتذكر مقالاً في صحيفة محلية نسيت عنوانه ونسيت اسم كاتبه، إبان التوتر بين السلطة وبنيامين نتنياهو، يتحدث عن العنصرية والتوسع وما كان من هجوم (سبق وأن تحدثت عنه) على شخص نتنياهو، ويختمه بما يشبه الدعوة إلى التعاون والسلام والعيش المشترك...إلخ تلك الأوهام، والاستشهاد بسنغافورة بأنها بلد قليل الموارد ولكن لما ركزت حكومته على التنمية والتطوير والتعليم صارت في خانة الدول المتقدمة المرفهة، وأننا في فلسطين (خلاصة فكرة الكاتب) يمكننا أن نكون مثلها، أيضًا عبر الفكرة إياها، أي تقاسم الأرض، التي تتمتع بما ليس لدى سنغافورة من موارد ومساحات.
المقال يمثل نمط تفكير طفا على السطح في المنطقة والعالم، ولكن الكارثة أن تجد أوساطًا سياسية وثقافية تؤمن بهذه الأفكار وتتبناها.
قبل سنين من ذلك وغداة توقيع اتفاق إعلان المبادئ (أوسلو1) دعا القيادي الراحل فيصل الحسيني إلى إقامة كونفدرالية إسرائيلية- فلسطينية- أردنية، وهو الخبر الذي سيكون على الصفحة الأولى في الصحف المحلية، وتتناقله الإذاعات ومحطات التلفزة.
التفكير يقوم على أن لا بأس من قبول "إسرائيل" باعتبارها دولة طبيعية في المنطقة ما دامت تقبل الانسحاب من بعض الأراضي، ويمكن الإفادة مما تمتلكه "إسرائيل" من قدرات تقنية واقتصادية وخبرة ونجاح في حقول الطب والزراعة وغيرها.
وأن أوروبا نهضت وبدأت بالانتقال إلى مرحلة الوحدة بين دولها وشعوبها، وهي التي كانت مركز حربين عالميتين راح ضحيتها ملايين من الناس، وخلفت دمارًا هائلاً، فلم تجد الأجيال الجديدة بدًّا من نسيان الماضي وتدشين أسس التعاون والوحدة، ونحن في المنطقة مثلهم!
طبيعة الحركة الصهيونية
حين كان يرد على هذه الفكرة بأن الصهيونية حركة عدوانية توسعية، لا تقبل إلا السعي لتحقيق أوهام تلمودية والعمل على حلم دولة "إسرائيل" من الفرات إلى النيل، أو على الأقل بقاء الاحتلال لكل فلسطين وما يمكن من أراضي الدول المجاورة وإبقاء الدول العربية ضعيفة أو فقيرة أو متنازعة.
كان الرد من حملة الفكرة والمبشرين بها وكأنها صارت أمرًا واقعًا، وكأن "إسرائيل" قد قبلت بأن تتنازل عن أراض و(وتغدق) على العرب علومًا ومهارات وخبرات طبية وزراعية!
كان الرد يتمثل في شقين، الأول: "إسرائيل" مجبرة على تغيير قناعاتها وطبيعتها لأن هناك توجهًا غربيًا جديدًا بقيادة الولايات المتحدة معني وبجدية بتبريد كل بؤر التوتر والصراع، بل ذهب بعضهم إلى القول بأنه يمكن أن تفرض الولايات المتحدة عقوبات أو تتخذ إجراءات ضد "إسرائيل" أشبه بتلك التي طالت الصرب، في حال لم تلتزم بعملية السلام!
مما يعبر عن هذا التفكير كان بعض الحوارات والنقاشات التي كانت تملأ الساحة الفلسطينية؛ وقد قال لي أحد الضباط العائدين من الخارج في حمأة تلك النقاشات والحوارات آنذاك: "أتظن بأننا لا نعرف ما جاء في القرآن الكريم عن اليهود وأنهم لا يلتزمون بأي عهد ولا يوفون بأي وعد؟ أتحسب أننا لا نعرف عنصريتهم وأطماعهم؟ أترانا نصدق حديثهم عن السلام والتعايش وهم يخططون للغدر والإجرام على مدار الساعة؟ نحن نعرف كل شيء عن القوم منذ عهد موسى حتى الآن، ولكن لا علاقة لنا بكيف وبماذا يفكرون، لأن هذه الاتفاقيات بضمانات دول كبرى وعظمى وأهمها الولايات المتحدة وهي بمثابة الأم لإسرائيل وهي الضامن والراعي لهذه الاتفاقيات، ولن تسمح لإسرائيل بالعبث وممارسة ألاعيبها"، واستطرد: "ليس حبًا بنا ولا لأن الولايات المتحدة صارت دولة حق وعدالة، ولكن لأن مصلحتها تقتضي ذلك!"
لست أدري كيف تسلل إلى وعي شريحة منا أن الولايات المتحدة ستضغط على "إسرائيل" وتجبرها على تنفيذ استحقاقات عملية التسوية والالتزام بما وقعت عليه، ألا يعلم هؤلاء مدى تغلغل ونفوذ الصهاينة في مؤسسات الحكم وصناعة القرار في واشنطن؟ بلى، ولقد تحدثوا عنه مرارًا في وسائل الإعلام، ويكفيك أن من اختاروه منسقًا (دينيس روس) لعملية التسوية، ومبعوثًا لاستمرارها يهودي.
الثاني: افتراض أن "إسرائيل" فيها (معسكر سلام) يمثله تيار وشخصيات من أمثال (يوسي بيلين) إضافة إلى زعيم حزب العمل والسياسي المخضرم الماكر (شمعون بيريز) وأن هذا التيار أدرك أن مصلحة "إسرائيل" تكمن في الدخول في شراكة اقتصادية تنموية.
وفي حقيقة الأمر لا يوجد في "إسرائيل" معسكر سلام، وأصلاً كلمة معسكر مضافة إلى كلمة سلام تثير الاستغراب، وأتذكر تقريع المفكر الراحل (إدوارد سعيد) لمجموعة ضمت إلى جانب الصهاينة عربًا وفلسطينيين اجتمعوا في العاصمة الدنماركية أواخر 1997، وأصدروا إعلانًا يضاف ويسبق تلك الإعلانات الخادعة التي تريد أن تقنعنا أن (الدبور) يجمع الرحيق لينتج عسلاً، أو أن الظلام الحالك هو نور أبيض ساطع، فعلق الراحل على إعجابهم بخطاب وشخصية بيلين، بأن بيلين دافع عن مجزرة قانا التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية بحق مدنيين لبنانيين في نيسان-أبريل 1996. يكفي هذا لتبيان طبيعة القائمين على معسكر السلام المزعوم في الكيان.
هل يعتقد المؤمنون بهذه الأوهام أن جيش "إسرائيل" العرمرم وأجهزتها الأمنية التي أنشئت قبل قيامها ستتحول إلى التقاعد إكرامًا للتعاون السلمي المزعوم؟ أم لعل الجيش سيتحول إلى مقاول للمواد الغذائية ومحتكر لقطاعات الاتصالات والسياحة، مثله مثل جيوش عالمثالثية في مقدمتها جيوش عربية؟
الجيش الإسرائيلي (تساهال) هو المالك الحقيقي للكيان العبري، وأجهزة الأمن والاستخبارات يمكن أن نطلق عليها (الدولة العميقة) في هذا الكيان ومهمتهم تفريغ الأرض من سكانها والتضييق عليهم، وليس تحويلها إلى سنغافورة كي يصمد فيها أهلها ويأتيها من اضطروا إلى الغربة.
وهؤلاء ينظرون إلى كل شيء من منظور حربي-أمني بحت بما في ذلك المفاوضات، التي يرونها تكتيكًا حربيًا لإنجاز مخططات على الأرض، وليست تعبيرًا عن تغير في طبيعة وجوهر الكيان العدوانية التوسعية، مثلما نظّر بعضنا.
بل إن بعض العرب روجوا لفكرة مضحكة وهي أن تطبيع العلاقات وإبرام الاتفاقيات مع الكيان، يقتل حلمه بإقامة (إسرائيل الكبرى). وكأن الحركة الصهيونية تقيم وزنا للاتفاقيات والمعاهدات.
التطرف في الجانبين
ومما يثير الحنق أن هؤلاء صاروا يتحدثون عن ضرورة كبح (المتطرفين) من الجانبين، وقد زادت هذه الدعوات خاصة بعد اغتيال رابين، حيث ازدادت أوهام وقناعات القوم بأن التيار الغالب في الكيان أو المحتاج إلى الدعم والإسناد يريد (السلام والتعاون والتعايش) ولكنه يحارب ومستهدف من متطرفين في داخله، وهؤلاء في حالة (تفاهم ضمني) مع المتطرفين في الجانب الآخر(حماس والجهاد الإسلامي) لأن كليهما مقتنعان بضرورة تدمير عملية التسوية!
هذا الوهم الذي تسلح بآلة إعلامية كبيرة مزعجة، صورت (حزب العمل) وحلفاءه حمائم سلام وقد حملوا أوراق التنازل عن الأراضي المحتلة في 1967 وهرعوا بها إلينا ولكن علينا أن نستقبلهم بعد قمع وسحق (المتطرفين) لدينا، وأن القوم في حرب ضروس مع أشباههم في المعسكر الآخر.
بل إن قناعات هؤلاء أن قطار التسوية وإنهاء الصراع كان قد انطلق، وأن السبب في توقفه و تحوّل المجتمع الإسرائيلي نحو اليمين هو العمليات التي نفذتها حماس والجهاد الإسلامي، وإلا لكان بيريز قد انسحب من الضفة الغربية وفكك المستوطنات وأعطانا شرقي القدس لتكون عاصمة الدولة الفلسطينية العتيدة!
مثل هذه الأفكار تدل على مدى التهتك والتمزق الذي وصلت إليه الأمور، حيث صار هناك من ينظر إلى الصراع وكأنه بين دولتين عريقتين جارتين تختلفان على منطقة حدودية أو حقل نفط، وصار التفكير بكيفية الخلاص من (متطرفينا) وليس تحرير الأرض والإنسان، ولم يعد اغتصاب فلسطين هو لبّ المشكلات والأزمات المتوالدة في وعي وتفكير هذا التيار. وعلى ذكر بيريز فلا بد من وقفة مع مشروعه الذي ربما ساهم في إيهام نخب عربية واسعة بأن "إسرائيل" تريد استبدال الهيمنة الاقتصادية بالعسكرية، وحتى أوساط واسعة في المعارضة انطلت عليها هذه الفكرة. وهذا ما سأتحدث عنه في المقال القادم إن شاء الله.
- المواد المنشورة في موقع مركز القدس تعبّر عن آراء أصحابها، وقد لا تعبّر بالضرورة عن رأي المركز.