اليمين الإسرائيلي يحفر قبر دولته (1)

عماد أبو عواد
02-06-2019



عماد أبو عوّاد\ مدير مركز القدس لدراسات الشأن الإسرائيلي والفلسطيني

بالنظر إلى الواقع الذي تحيياه الدولة العبرية اقليمياً، وقدرتها على نسج خيوط قويّة من العلاقات المميزة، هذا إلى جانب بناءها علاقات استراتيجية مع بعض الدول العظمى، وقُدرتها على اللعب على كافة الحبال فيما يتعلق بأزمات المنطقة، وظهورها بمظهر الدولة الأقل تأزماً من بين الدول واللاعبين في المنطقة، لكنّ التعمّق بشكل كبير في واقعها، وسبر غور الأحداث الداخلية، إلى جانب التغييرات الإقليمية يشي، بأنّ الكيان في أضعف حالاته، كالبالون الذي حينما يصل إلى قمة استيعابه للهواء، يكون أقرب من أي وقت مضى للانفجار.

"سيكون لنا بعد عقدين من الآن، حالة من الهدوء والقبول الإقليمي الكبير"، كان هذا الكلام لأول رئيس للوزراء في دولة الكيان، في خمسينيات القرن الماضي، في إطار حديثه عن مستقبل الكيان، والاستراتيجية الواجب اتباعها وتوقعاته لما ستؤول عليه الأمور. صدق بن جوريون من جانب، وخانه جانبٌ أهم، فقد تحقق أمن الدولة العبرية بأنّ حيّدت الجيوش العربية، التي بالأصل هناك شكوكٌ حول محاربتها ل"إسرائيل"، وفشل في استقراء وجود مقاومة على شكل عصابات لا زالت تتمدد، وباتت أكثر قدرة على استنزاف "إسرائيل"، والأهم من ذلك، بأنّ الدولة العبرية لا تُخفي عجزها عن مواجهة هذا النوع من التحديات الأمنية.

هُنا يتبدى دور اليمين الإسرائيلي، فمن الناحية الدعائية يرفع هذا التيار السقف عالياً في مواجهة تحدي المقاومة، لكن على الأرض كان الأكثر تأكيداً على عجز الدولة العبرية، فقد ترك فجوة كبيرة ما بين الشعار والتطبيق، فلا تجرأ على تجسيد وعوده، ولا هو من الناحية الأخرى أبدى تقليصاً لحجم شعاراته الرنانة. وهذا بحد ذاته يدفع إلى أمرين، الأول زيادة مساحة تراجع الثقة في المؤسسة الأمنية والسياسية، والأمر الآخر، حافز مهم لاستمرار بناء المقاومة لقدراتها، حيث أنّ المزيد من الضغط عليها، لم يكن إلا كحال ضغط الأرض على باطنها، لتخرج أثمن ما فيها.

وكان معهد دراسات الأمن القومي في مطلع العام 2018، أصدر كتاباً تحت عنوان "أزمة غزة، آلية التعامل مع التحدي"[1]، أشار على دولته بأنّ التعامل مع غزة، يقتضي أن يكون من خلال العمل على إعادة الاعمار بوساطات إقليمية ودولية، ومنح غزة أملاً للحياة، من خلال تخفيف حجم الضغط الممارس ضدها. هذا الذي لم يرق لليمين والذي مارس مزيداً من الضغوط لينفجر القطاع في وجه حُكم حماس، فانفجرت كلّ غزة بوجه "إسرائيل"، حيث سجلت من وقت كتابة الكتاب، إلى يومنا هذا انتصاراً في ثلاث جولات تصعيدية، إلى جانب البدء في مسيرات العودة، فبدأ اليمين من خلال أطراف إقليمية ودولية العمل على الوصول إلى تفاهمات مع غزة!، لكن بعد أن اهتزت صورته أمام جمهوره، الذي يرى فيه الأمل والعجز في آن معاً.

حقيقة التراجع العسكري للاحتلال، ليست منوطةً فقط بتحدي المقاومة وإن كان الأهم، لكنّه أيضاً ذا صلة بسياسة بات اليمين الإسرائيلي منذ تسلمه للحكومة قبل عقد من الزمن وبشكل متواصل، حيث بات نتنياهو رغم علمانيته يخضع لابتزاز المتدينين، بشقيهم القومي وكذلك الحريديم.

فمن الناحية الأولى خضع للصهيونية الدينية فيما يتعلق بالكثير من الإجراءات، التي جعلت من الجيش أداة في يد الصهيونية الدينية، فبدأ يظهر على السطح تساؤلاً، هل الجيش الإسرائيلي هو جيش الشعب أم جيش الرب؟، قد يكون هذا التساؤل غريباً للقارئ غير اليهودي، لكنّ هذه المعاني لها كبير التأثير صهيونياً، خاصةً إذا ما فهمنا أنّ هنالك 4 تيارات دينية أساسية ينتمي إليها اليهود، وتُنكر غالبيتها بعضها البعض.

حيث أنّ الجيش الذي تأسس على أسس علمانية، وبنى قيمه وقوانينه على هذه القواعد، بات مؤخراً يواجه صراعاً داخلياً على الهوية، الأمر الذي دفع الكثيرين كيسرائيل كوهين[2]، الذي طالب وبشكل متذمرٍ جداً، حسم هوية الجيش، هل هو جيش الشعب أم جيش الرب، مستدركاً مجموعة من السلوكيات التي باتت تؤثر على صورة الجيش وقيمته في نظر الجمهور.

من الناحية الثانية، كانت الحقيقة الأصعب التي على دولة اليمين مواجهتها، ألا وهي ازدياد المطالب في الدولة العبرية، والتي باتت ترى أنّه في ظل وجود رغبة نزوح عن الخدمة في الجيش، فلا مانع من تحويل الجيش إلى جيش أجير وظيفي[3]، بمعنى أنّ الانضمام إليه اختياري. وهذا كان بعد ارتفاع نسبة الحريديم –الشق الثاني من المتدينين- في المجتمع، واللذين يرفضون المشاركة في الجيش، حيث وفق مفهومهم للتوراة، فإنّ واجبهم الأول يكمن في تعلّم التوراة وانتظار قدوم المخلص، ويواجهون الدولة اليوم لفرض قانون تجنيد جديد مشابه لذلك القديم، ليستمروا دون المشاركة في الجيش.

لذلك فإنّ سياسة اليمين المتشدد باتت تُجذر لانقسام حقيقي في المجتمع الصهيوني، حول الجيش وطبيعته، وتحمل الأعباء في الدولة، إلى جانب فقدان اليمين استراتيجية للتعامل مع التحديات الأمنية، في واقع تعاظمت فيه تلك التحديات وتراجعت فيه شهية القتال لدى الجندي الصهيوني.

يتبع (2)










[1]  http://din-online.info/pdf/in16.pdf

[2]  https://www.haaretz.co.il/opinions/.premium-1.6382699

[3]  https://www.inn.co.il/News/News.aspx/368528