تفكيك ذكرى النكبة- إقرارُ بالهزيمة
أحمد أشقر
11-06-2020
أحمد أشقر
(1)
"أَنَا يُوسُفٌ يَا أَبِي. يَا أَبِي، إِخْوَتِي لَا يُحِبُّونَنِي، لاَ يُريدُونَنِي بَيْنَهُم أَبِي. يَعتدُونَ عَلَيَّ وَيرْمُونَنِي بِالحَصَى وَالكَلَامِ يُرِيدُونَنِي أَنْ أَمُوتَ لِكَيْ يَمْدَحُونِي. وَهُمْ أَوْصَدُوا بَابَ بَيْتِك دُونِي. وَهُمْ طرَدُونِي مِنَ الحَقْلِ".
و:
"علّق سلاحك فوق نخلتنا يا غريب، لأزرع حنطتي/ في حقل كنعان المقدس.. خذ نبيذًاً من جراري.. وقسطًاً من طعام.. خذ/ صلوات كنعانيّة في عيد كرمتها...[...]/ الشعر سلّمنا إلى قمر تعلقه أنات [عنات]/ على حديقتها، كإمرأة لعشاق بلا أمل،[...].
(محمد درويش).
(2)
تسعى الجماعات المختلفة، من طبقات وشعوب وأمم، للاحتفاظ بذاكرة جمعيّة تخصّها. فنشوؤها محصلة للوجود، وتطورها والاحتفاظ بها ليس بالأمر السهل أو الهيّن، كما أنه ليس بالمستحيل، ومع ذلك فهو بالغ التعقيد، لأن هذه العمليّة رهن الأوضاع السياسيّة التي تعايشها هذه المجموعات؛ لذا تصبح الذاكرة الجمعيّة رهينة أو أسيرة ومحصلة صراعات وخلافات الممارسات السياسية العدوة منها والوطنيّة. كما أن الوعي الذي تتحرك فيه محكوم بوعي قيادة هذا العمل ومعارضيه والنخب التي تسبح في فضائها وتنتجها. وهنا تكمن الأهمية والخطورة في آن واحد، لأن بإمكان القيادة أن تعمل واعية على بنائها واستنهاضها في مشروع وطني أو قومي وحدوي، كما يمكن للقيادة أن تعبث بها وتشتتها لتتحوّل إلى شظايا ومطية لمصالحها في الداخل المحليّ والسياسة الإقليمية والدولية. والذاكرة التي تحتوي على كل معطيات الماضي تُعبّر عن نفسها بواسطة الجماعة التي تحملها من خلال الطقوس والاحتفالات والممارسات الجمعيّة الأخرى، والحفاظ على لغة قومية سليمة وآداب وفنون بصرية راقية، لا يمكنها أن تنتمي إلى الماضي وحده، بل يمكن اعتبارها المحطة الراهنة والمحرك الذي هو الهوية التي تقوم بتحويل كل المعطيات الماضية والراهنة إلى فعل وممارسة نحو المُستقبل.
تنشغل المجموعات التي تعيش واقعاً مأساويّاً بالذاكرة الجمعية (كحال الشعب العربي في فلسطين)، أكثر من بقية المجموعات التي حققت أهدافها أو تلك التي تسير بثبات نحو تحقيقها بالتعبير عنها. لذا تحتل الذاكرة الجمعيّة حيّزاً كبيراً في خطابها. وعندما يزداد واقعها مأساوية فإنها تبالغ في الحديث عن الذاكرة إلى أن تنفجر تحت ضغط الهزائم المتكررة وقصف الأعداء الخارجيين والداخليين. وتتحول إلى مجموعة من ذكريات تبدو متواصلة ومتماسكة لكنها في الواقع تعاني من القطع والتقطيع والتضخيم والتقزيم، وتتجمد بوصلتها في مكانها ولا يمكنها الإشارة والسير قدماً في مشروعها خاصة عندما يضع العدو فكفكتها هدفاً مركزيّاً له.
(3)
مثل الهوية، بدأت تتحدد معالم الذاكرة الفلسطينية الجمعيّة في مواجهة المشروع اليهودي تحديداً. وعلية أصبحت رهينة محددات وحدود ونتائج هذا الصراع. فارتهنت إلى قوانين وقواعد وألاعيب العمل السياسي- مقتلها الفعلي. وخضعت لعملية التفكيك وإعادة البناء بناءً على رغبات القوى السياسية الفاعلة فيها وعليها.
تفترش الذاكرة الجمعية أرض فلسطين من الميّ للميّ، ومن رفح للناقورة، ميداناً لها. وتشكل محاولة استعادة الوطن من ركام المدن والقرى المُحتلة- المهدومة، وشخيب دماء المقتولين، ونحيب المطرودين من هذه الأرض على أيدي اليهود. إنها المفارقة الجدلية الأبدية المُتمثلة بالنهوض من بين الأنقاض. لذا استعار السياسيون الفلسطينيون طائر أجدادهم الأسطوري: عنقاء الرماد، واستبطن كثيرون حكاية طائر الفينيق. وبما أن استبناء الذاكرة الجمعية واستنهاضها هو في حدود المشاريع السياسية التي تزداد هزالة وغموضاً كلما ابتعدنا عن نقطة الأساس- الذروة سنة 1948- باتت هذه الذاكرة هزيلة مثل كلّ الأحياء التي تضعف مع الزمن.
يمكن القول إن تحديد الذاكرة القوميّة لعرب فلسطين في المواجهة مع الاستعمار اليهودي ونأيها عن التحول إلى جزء من وحدة الذاكرة الجمعية للأمة العربيّة ("أنا يوسف يا أبي")، وعدم ربطها بعمقها التاريخي الطويل الكنعاني- الفرعوني- السومري.. والبابلي ("كإمرأة لعشاق بلا أمل")؛ حكم عليها بالضعف البنيوي، مثلاً حتى الآن لا يزال غالبية الفلسطينيين لا يربطون بين اليهود الذين احتلوا أرض كنعان قبل أكثر من ثلاثة آلاف سنة بيهود اليوم علماً أنهم هم من يؤكدون على وحدة الاحتلاليْن، كما أنهم يرفضون النظر للاحتلاليْن، كاحتلال واحد استملاكي- استعماري. كما أن هذه الذاكرة نشأت ضمن البنية الكولونيالية وتماشت مع استحقاقات البرجوزاية العربية، تحديداً الفلسطينية، التي كانت ولا تزال تابعاً، كما سنرى لاحقاً.
(4)
حطمت النكبة الشعب الفلسطيني ورمته في صحارى المجاهيل همّه أن يجد ما يسّد رمق جوعه ويجد مأوى يقيه حرّ الصيف وبرد الشتاء له ولأفراد عائلته. مع ذلك استمر يمارس ذاكرته وهويته من خلال أحلامه التي عمل اليهود والمتواطئون معهم من العربان على تشظيها قبل النكبة. وبات مشدوداً إلى الماضي في الطقوس والممارسات المختلفة التي ورثها من جثث المقتولين من قراه ومدنه أثناء عدوان النكبة، لأن المكان- فلسطين وروحها تتجسد بهم كافةً. في هذه الفترة بدأ الفلسطينيون نضالاً هشّاً ضعيفاَ غير مدروس لذا ازدادت فظائع نتائج النكبة، نتائج هذا النضال بتقديم آلاف الشهداء والجري في محاولات غير مدروسة للعودة إلى الوطن أو في معارك محدودة يفتعلها اليهود لوأد أية محاولة عسكرية للعودة. عندها بات الفلسطينيون أسرى البكاء على الأطلال، إعداد الشهداء وزيارة مقابرهم إنها حالة "نيكروفيلية (حبّ الموتى)" كما وصفها الأديب الأردني غالب هلسا (1932- 1989). وإذا اسمترينا باستعارة "النيكورفيلية" لقلنا إن الشعب الفلسطيني "نيكروفيلي" لأنه لا يزال يمنح الشرعية لمؤسسات تمثيلية مثل (م. ت. ف) والسلطة الفلسطينية، والكنيست، ووجهاء ووجيهات الجمعيات المختلفة ومئات أخرى من الأطر التمثيلية، ليس لأنه لم ينتخبها، بل لأنها يجب أن تكون في عداد الموتى في وعيه نحو الاستقلال والحريّة.
(5)
عبّر صدور موسوعة كي لا ننسى: قرى فلسطين التي دمرتها إسرائيل سنة 1948 وأسماء شهدائها سنة 1997 عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية، عن العناوين الدقيقة لبناء الذاكرة الجمعية الفلسطينية وأدوات وحوامل استنهاضها وتفعيلها. لكن مع أهميتها وأهمية ما تلاها وتبعها من موسوعات وكتب ودراسات لم تتمكن مجتمعة من السعي قدماً لبناء ذاكرة جمعية لسبب بسيط جداً: لأن الحركة الوطنية الفلسطينية ونخب الشعب الفلسطيني كافة التي كانت تحمل المشروع الوطني وتقوده قد انخرطت في النظام العالمي الرأسمالي الليبرالي وتبنت مفاهيمه وقيمه (التوازن الدولي، العقلانية، التسوية ومشتقاتها) وباتت على هامش هامشه متوهمة أنها تؤثر فيه على أمل أن يقبل اليهود بتسوية ما معها يَسمَح لها بإقامة كياناً سياسيّاً "على أيّ شِبْرٍ من فلسطين" ليس لإيجاد تسوية للصراع، بل من أجل التعبير عن نفسها كنظام وطبقة تابعة ليس أكثر. فالتفكير في تغيير وضع ما يتطلب من حوامله أن تغيّر تصورها عنه، إلا أن قيادة الحركة الوطنية والنخب الفلسطينية عجزت عن اجتراح تصور قومي مقاوم يخصّها وبقيت عند تصورها المنبثق من قرى فقيرة ومدن لم يكتمل تطورها قبل النكبة ومخيمات تعاني من كل أنواع البؤس الاجتماعي، والأهم من كل هذا- الهزيمة وعارها، الذي يخاف الفلسطيني إلى يومنا الراهن الحديث عما أحدثه هذا العار من إنكسار وشرخ في الذاكرة والنفسية الجمعية الفلسطينية.
(6)
شكلّت اتفاقية أوسلو لسنة 1994 وما تلاها من اتفاقيات إعلاناً عن هزيمة القيادة والنخب واستسلامها. ويمكن القول إن أقسى ما حدث على المُستوى المعنوي هو رفض اليهود منح قيام (م. ت. ف) "حقّ" توقيع وثيقة هزيمتهم واستسلامهم على أرض وطنهم بل جرّوهم إلى أمريكا التي أبادت السكان الأصليين وأقصتهم عن الأرض والتاريخ (هل يوجد أكثر بلاغة من هذه الرمزية؟) بعدها انتشرت بين الفلسطينيين في الوطن والشتات محاولات مكثفة من الانشغال- وليس الاشتغال أو العمل- بالذكرى والذاكرة. فقام أبناء قرى منكوبة بتشكيل لجان عودة- ليس من أجل العودة- كما أقاموا أطراً مختلفة من اتحادات عودة وذاكرة وذكرى والحفاظ على الذاكرة وما إلى ذلك من الانشغال في الماضي- مرّة أخرى، ليس الاشتغال أو العمل به. إنها حالات من الحنين إلى المفقودين تشبه حال العجوز الذي يشتهي امرأة فاتنة لكنه إضافة لإصابته بكل أمراض الشيخوخة نسي أنه وُلد بعاهة خلقيّة: عِنّين، مع هذا فإنه يجيد تصوير السيلفي واستخدام الواتس آب باحترافية متناهية! في تلك الأثناء تمكن اليهود من السيطرة على الأرض ومصادر الثروات الأخرى من مياه ووعي. وإلى جانبهم سيطر "المانحون والداعمون" من دول ومؤسسات ومصارف وأفراد على فضاء الحياة السياسية والثقافية الفلسطينية لضبطها بما يكفل أمن وسلامة دولة اليهود. فأغرقوا هذه الجمعيات والمؤسسات واستحوذوا عليها ليس بالمال فقط بل بالأجندات التي "شقفتها تشقيف" فحوّلوا التاريخ "الوقائع" عند (إريك هوبسباوم/ 1917- 2012) إلى سرديات شبيهة بوجهة النظر. كما أنهم خصخصوها إلى قطاعات جندرية وجنسانية ومِثْلية وبقية الصَرْعات التي تَحُول دون وحدة أي مشروع وطني أو قومي. تم وضع هذه الشظايا تحت مسمى: التمكين، الذي يحول حتماً ضدّ أية وحدة. وتحول التاريخ والتراث الفلسطينييّن إلى خردوات في سوق سلع الليبرالية الجديدة، فتحولت الأغاني التراثية إلى شيء مُبتذل (تحوّلت الدحيّة إلى تعواية كلاب محششة وسكرانة تطلق الرصاص من أسلحة الاحتلال)، كما تحولت الملابس والمطرزات الفلسطينية إلى اكسسوارات تباع وتلبسها كل من تشاء، لأنها انفلتت عن سياقها الأصلي (بعض المُطرزات التشيليّة تباع على أنها فلسطينية). كما ابتدعت بعض النسويات فكرة ضرورة تعويض اللاجئات من النساء مبالغ من المال أكثر من الرجال، لأن اضطهاد النساء "مضاعف"، بناء على قراءة التاريخ والنكبة على خلفيّة "نسوية". وابتدع المثليون خطة قراءة النكبة الفلسطينية على خلفية "مِثلية". وقامت بعض الجمعيات النسوية في المثلث تحديداً على تنظيم لقاءات مع نسويات يهوديات جمعت نساء ناجيات من المحرقة مع نساء من النكبة للحديث عن تجاربهن. كما قامت مجموعات أخرى بتنظيم لقاءات بين مجرمي نكبة 1948 اليهود والعرب المطرودين من مدنهم وقراهم للحديث عن "تلك الأحداث" لتطهير ضمائرهم الملطخة بدمائنا وعار الإنسانية. كل هذا يتم بواسطة أشخاص باتوا يعتاشون على النكبة وينّم الواحد على زميله في نفس "الدكانة". كما وفتحت لهن (هآرتس)، صحيفة النخب اليهودية، "ساحة" خاصّة بهن على ما يبدو لإعداد بعضهن كمرشحات وعضوات في الـ(كنيست) من مستوى رديء. والبعض منهم، رجالاً ونساءً، أصبح من أصحاب الملايين؛ هذا التواطؤ لم يكن ليحدث لولا "القابلية للاستعمار" عند الشعوب التي تدين بالإسلام كما يشرحها مالك بن نبي (1905- 1973).
في المقابل، باتت "إسرائيل" في السنوات الأخيرة تسمح للاجئين الفلسطينيين الذي يعيشون في أوروبا من زيارة فلسطين وقراهم المنكوبة. وفعلاُ زارها الآلاف لكن بعضهم بدل أن يزور قريته، طيرة حيفا، حطت به السيارة في طيرة المثلث. وبعضهم اعتقد أن حيفا بجوار رام الله. هؤلاء كانوا يعيشون في سوريا على بعد ضربة حجر من فلسطين (...) لكن عندما حققوا حلمهم بالتحوّل إلى لاجئين في أوروبا تكشف حلمهم الأوحد: زيارة "الأقصى الشريف" والصلاة فيه. فإسرائيل التي سطت على أملاك أهاليهم تواصل اليوم السطو على ما يدخرونه من مخصصات الإعاشة الأوروبية بالسماح لهم بزيارة مقابرهم وصرف مدخراتهم فيها. كما وتواصل دوائر المحفوظات والأرشيفات اليهودية عدوانها على وجدان الفلسطينيين والتنكيل بهم من خلال كشف ونشر وثائقها التي تؤكد على أن جريمتها ضدّ عرب فلسطين كانت مبيتة ومخططة سلفاً. والأمر المُفزع من الناحية النفسية هو احتفال قطاع واسع من المنشغلين بالتاريخ والذاكرة وإعلان سعادتهم بهذا الكشف ولسان حالهم يقول إن هذا إثبات أننا على حقّ علماً أن حقوق الشعوب والأمم لا تحفظها الوثائق والأوراق بل النضال والعمل الواعي نحو التحرير والاستقلال. وإذا عدنا إلى استعارة "النيكروفيلية" من غالب هلسا، هل نعتبر ما يقوم به قطاع واسع من الفلسطينيين هو تشييع النكبة إلى القبر، لكن قطعة، قطعة؟
بناءً على ما تقدم أعتقد أن سكران أحمد حسين (إبراهيم) في "تغييرات في الصلاة الإبراهيميّة" يظلّ أكثر وعياً من الحركة الوطنية الفلسطينية ومعظم نخبها.
(1)
"أَنَا يُوسُفٌ يَا أَبِي. يَا أَبِي، إِخْوَتِي لَا يُحِبُّونَنِي، لاَ يُريدُونَنِي بَيْنَهُم أَبِي. يَعتدُونَ عَلَيَّ وَيرْمُونَنِي بِالحَصَى وَالكَلَامِ يُرِيدُونَنِي أَنْ أَمُوتَ لِكَيْ يَمْدَحُونِي. وَهُمْ أَوْصَدُوا بَابَ بَيْتِك دُونِي. وَهُمْ طرَدُونِي مِنَ الحَقْلِ".
و:
"علّق سلاحك فوق نخلتنا يا غريب، لأزرع حنطتي/ في حقل كنعان المقدس.. خذ نبيذًاً من جراري.. وقسطًاً من طعام.. خذ/ صلوات كنعانيّة في عيد كرمتها...[...]/ الشعر سلّمنا إلى قمر تعلقه أنات [عنات]/ على حديقتها، كإمرأة لعشاق بلا أمل،[...].
(محمد درويش).
(2)
تسعى الجماعات المختلفة، من طبقات وشعوب وأمم، للاحتفاظ بذاكرة جمعيّة تخصّها. فنشوؤها محصلة للوجود، وتطورها والاحتفاظ بها ليس بالأمر السهل أو الهيّن، كما أنه ليس بالمستحيل، ومع ذلك فهو بالغ التعقيد، لأن هذه العمليّة رهن الأوضاع السياسيّة التي تعايشها هذه المجموعات؛ لذا تصبح الذاكرة الجمعيّة رهينة أو أسيرة ومحصلة صراعات وخلافات الممارسات السياسية العدوة منها والوطنيّة. كما أن الوعي الذي تتحرك فيه محكوم بوعي قيادة هذا العمل ومعارضيه والنخب التي تسبح في فضائها وتنتجها. وهنا تكمن الأهمية والخطورة في آن واحد، لأن بإمكان القيادة أن تعمل واعية على بنائها واستنهاضها في مشروع وطني أو قومي وحدوي، كما يمكن للقيادة أن تعبث بها وتشتتها لتتحوّل إلى شظايا ومطية لمصالحها في الداخل المحليّ والسياسة الإقليمية والدولية. والذاكرة التي تحتوي على كل معطيات الماضي تُعبّر عن نفسها بواسطة الجماعة التي تحملها من خلال الطقوس والاحتفالات والممارسات الجمعيّة الأخرى، والحفاظ على لغة قومية سليمة وآداب وفنون بصرية راقية، لا يمكنها أن تنتمي إلى الماضي وحده، بل يمكن اعتبارها المحطة الراهنة والمحرك الذي هو الهوية التي تقوم بتحويل كل المعطيات الماضية والراهنة إلى فعل وممارسة نحو المُستقبل.
تنشغل المجموعات التي تعيش واقعاً مأساويّاً بالذاكرة الجمعية (كحال الشعب العربي في فلسطين)، أكثر من بقية المجموعات التي حققت أهدافها أو تلك التي تسير بثبات نحو تحقيقها بالتعبير عنها. لذا تحتل الذاكرة الجمعيّة حيّزاً كبيراً في خطابها. وعندما يزداد واقعها مأساوية فإنها تبالغ في الحديث عن الذاكرة إلى أن تنفجر تحت ضغط الهزائم المتكررة وقصف الأعداء الخارجيين والداخليين. وتتحول إلى مجموعة من ذكريات تبدو متواصلة ومتماسكة لكنها في الواقع تعاني من القطع والتقطيع والتضخيم والتقزيم، وتتجمد بوصلتها في مكانها ولا يمكنها الإشارة والسير قدماً في مشروعها خاصة عندما يضع العدو فكفكتها هدفاً مركزيّاً له.
(3)
مثل الهوية، بدأت تتحدد معالم الذاكرة الفلسطينية الجمعيّة في مواجهة المشروع اليهودي تحديداً. وعلية أصبحت رهينة محددات وحدود ونتائج هذا الصراع. فارتهنت إلى قوانين وقواعد وألاعيب العمل السياسي- مقتلها الفعلي. وخضعت لعملية التفكيك وإعادة البناء بناءً على رغبات القوى السياسية الفاعلة فيها وعليها.
تفترش الذاكرة الجمعية أرض فلسطين من الميّ للميّ، ومن رفح للناقورة، ميداناً لها. وتشكل محاولة استعادة الوطن من ركام المدن والقرى المُحتلة- المهدومة، وشخيب دماء المقتولين، ونحيب المطرودين من هذه الأرض على أيدي اليهود. إنها المفارقة الجدلية الأبدية المُتمثلة بالنهوض من بين الأنقاض. لذا استعار السياسيون الفلسطينيون طائر أجدادهم الأسطوري: عنقاء الرماد، واستبطن كثيرون حكاية طائر الفينيق. وبما أن استبناء الذاكرة الجمعية واستنهاضها هو في حدود المشاريع السياسية التي تزداد هزالة وغموضاً كلما ابتعدنا عن نقطة الأساس- الذروة سنة 1948- باتت هذه الذاكرة هزيلة مثل كلّ الأحياء التي تضعف مع الزمن.
يمكن القول إن تحديد الذاكرة القوميّة لعرب فلسطين في المواجهة مع الاستعمار اليهودي ونأيها عن التحول إلى جزء من وحدة الذاكرة الجمعية للأمة العربيّة ("أنا يوسف يا أبي")، وعدم ربطها بعمقها التاريخي الطويل الكنعاني- الفرعوني- السومري.. والبابلي ("كإمرأة لعشاق بلا أمل")؛ حكم عليها بالضعف البنيوي، مثلاً حتى الآن لا يزال غالبية الفلسطينيين لا يربطون بين اليهود الذين احتلوا أرض كنعان قبل أكثر من ثلاثة آلاف سنة بيهود اليوم علماً أنهم هم من يؤكدون على وحدة الاحتلاليْن، كما أنهم يرفضون النظر للاحتلاليْن، كاحتلال واحد استملاكي- استعماري. كما أن هذه الذاكرة نشأت ضمن البنية الكولونيالية وتماشت مع استحقاقات البرجوزاية العربية، تحديداً الفلسطينية، التي كانت ولا تزال تابعاً، كما سنرى لاحقاً.
(4)
حطمت النكبة الشعب الفلسطيني ورمته في صحارى المجاهيل همّه أن يجد ما يسّد رمق جوعه ويجد مأوى يقيه حرّ الصيف وبرد الشتاء له ولأفراد عائلته. مع ذلك استمر يمارس ذاكرته وهويته من خلال أحلامه التي عمل اليهود والمتواطئون معهم من العربان على تشظيها قبل النكبة. وبات مشدوداً إلى الماضي في الطقوس والممارسات المختلفة التي ورثها من جثث المقتولين من قراه ومدنه أثناء عدوان النكبة، لأن المكان- فلسطين وروحها تتجسد بهم كافةً. في هذه الفترة بدأ الفلسطينيون نضالاً هشّاً ضعيفاَ غير مدروس لذا ازدادت فظائع نتائج النكبة، نتائج هذا النضال بتقديم آلاف الشهداء والجري في محاولات غير مدروسة للعودة إلى الوطن أو في معارك محدودة يفتعلها اليهود لوأد أية محاولة عسكرية للعودة. عندها بات الفلسطينيون أسرى البكاء على الأطلال، إعداد الشهداء وزيارة مقابرهم إنها حالة "نيكروفيلية (حبّ الموتى)" كما وصفها الأديب الأردني غالب هلسا (1932- 1989). وإذا اسمترينا باستعارة "النيكورفيلية" لقلنا إن الشعب الفلسطيني "نيكروفيلي" لأنه لا يزال يمنح الشرعية لمؤسسات تمثيلية مثل (م. ت. ف) والسلطة الفلسطينية، والكنيست، ووجهاء ووجيهات الجمعيات المختلفة ومئات أخرى من الأطر التمثيلية، ليس لأنه لم ينتخبها، بل لأنها يجب أن تكون في عداد الموتى في وعيه نحو الاستقلال والحريّة.
(5)
عبّر صدور موسوعة كي لا ننسى: قرى فلسطين التي دمرتها إسرائيل سنة 1948 وأسماء شهدائها سنة 1997 عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية، عن العناوين الدقيقة لبناء الذاكرة الجمعية الفلسطينية وأدوات وحوامل استنهاضها وتفعيلها. لكن مع أهميتها وأهمية ما تلاها وتبعها من موسوعات وكتب ودراسات لم تتمكن مجتمعة من السعي قدماً لبناء ذاكرة جمعية لسبب بسيط جداً: لأن الحركة الوطنية الفلسطينية ونخب الشعب الفلسطيني كافة التي كانت تحمل المشروع الوطني وتقوده قد انخرطت في النظام العالمي الرأسمالي الليبرالي وتبنت مفاهيمه وقيمه (التوازن الدولي، العقلانية، التسوية ومشتقاتها) وباتت على هامش هامشه متوهمة أنها تؤثر فيه على أمل أن يقبل اليهود بتسوية ما معها يَسمَح لها بإقامة كياناً سياسيّاً "على أيّ شِبْرٍ من فلسطين" ليس لإيجاد تسوية للصراع، بل من أجل التعبير عن نفسها كنظام وطبقة تابعة ليس أكثر. فالتفكير في تغيير وضع ما يتطلب من حوامله أن تغيّر تصورها عنه، إلا أن قيادة الحركة الوطنية والنخب الفلسطينية عجزت عن اجتراح تصور قومي مقاوم يخصّها وبقيت عند تصورها المنبثق من قرى فقيرة ومدن لم يكتمل تطورها قبل النكبة ومخيمات تعاني من كل أنواع البؤس الاجتماعي، والأهم من كل هذا- الهزيمة وعارها، الذي يخاف الفلسطيني إلى يومنا الراهن الحديث عما أحدثه هذا العار من إنكسار وشرخ في الذاكرة والنفسية الجمعية الفلسطينية.
(6)
شكلّت اتفاقية أوسلو لسنة 1994 وما تلاها من اتفاقيات إعلاناً عن هزيمة القيادة والنخب واستسلامها. ويمكن القول إن أقسى ما حدث على المُستوى المعنوي هو رفض اليهود منح قيام (م. ت. ف) "حقّ" توقيع وثيقة هزيمتهم واستسلامهم على أرض وطنهم بل جرّوهم إلى أمريكا التي أبادت السكان الأصليين وأقصتهم عن الأرض والتاريخ (هل يوجد أكثر بلاغة من هذه الرمزية؟) بعدها انتشرت بين الفلسطينيين في الوطن والشتات محاولات مكثفة من الانشغال- وليس الاشتغال أو العمل- بالذكرى والذاكرة. فقام أبناء قرى منكوبة بتشكيل لجان عودة- ليس من أجل العودة- كما أقاموا أطراً مختلفة من اتحادات عودة وذاكرة وذكرى والحفاظ على الذاكرة وما إلى ذلك من الانشغال في الماضي- مرّة أخرى، ليس الاشتغال أو العمل به. إنها حالات من الحنين إلى المفقودين تشبه حال العجوز الذي يشتهي امرأة فاتنة لكنه إضافة لإصابته بكل أمراض الشيخوخة نسي أنه وُلد بعاهة خلقيّة: عِنّين، مع هذا فإنه يجيد تصوير السيلفي واستخدام الواتس آب باحترافية متناهية! في تلك الأثناء تمكن اليهود من السيطرة على الأرض ومصادر الثروات الأخرى من مياه ووعي. وإلى جانبهم سيطر "المانحون والداعمون" من دول ومؤسسات ومصارف وأفراد على فضاء الحياة السياسية والثقافية الفلسطينية لضبطها بما يكفل أمن وسلامة دولة اليهود. فأغرقوا هذه الجمعيات والمؤسسات واستحوذوا عليها ليس بالمال فقط بل بالأجندات التي "شقفتها تشقيف" فحوّلوا التاريخ "الوقائع" عند (إريك هوبسباوم/ 1917- 2012) إلى سرديات شبيهة بوجهة النظر. كما أنهم خصخصوها إلى قطاعات جندرية وجنسانية ومِثْلية وبقية الصَرْعات التي تَحُول دون وحدة أي مشروع وطني أو قومي. تم وضع هذه الشظايا تحت مسمى: التمكين، الذي يحول حتماً ضدّ أية وحدة. وتحول التاريخ والتراث الفلسطينييّن إلى خردوات في سوق سلع الليبرالية الجديدة، فتحولت الأغاني التراثية إلى شيء مُبتذل (تحوّلت الدحيّة إلى تعواية كلاب محششة وسكرانة تطلق الرصاص من أسلحة الاحتلال)، كما تحولت الملابس والمطرزات الفلسطينية إلى اكسسوارات تباع وتلبسها كل من تشاء، لأنها انفلتت عن سياقها الأصلي (بعض المُطرزات التشيليّة تباع على أنها فلسطينية). كما ابتدعت بعض النسويات فكرة ضرورة تعويض اللاجئات من النساء مبالغ من المال أكثر من الرجال، لأن اضطهاد النساء "مضاعف"، بناء على قراءة التاريخ والنكبة على خلفيّة "نسوية". وابتدع المثليون خطة قراءة النكبة الفلسطينية على خلفية "مِثلية". وقامت بعض الجمعيات النسوية في المثلث تحديداً على تنظيم لقاءات مع نسويات يهوديات جمعت نساء ناجيات من المحرقة مع نساء من النكبة للحديث عن تجاربهن. كما قامت مجموعات أخرى بتنظيم لقاءات بين مجرمي نكبة 1948 اليهود والعرب المطرودين من مدنهم وقراهم للحديث عن "تلك الأحداث" لتطهير ضمائرهم الملطخة بدمائنا وعار الإنسانية. كل هذا يتم بواسطة أشخاص باتوا يعتاشون على النكبة وينّم الواحد على زميله في نفس "الدكانة". كما وفتحت لهن (هآرتس)، صحيفة النخب اليهودية، "ساحة" خاصّة بهن على ما يبدو لإعداد بعضهن كمرشحات وعضوات في الـ(كنيست) من مستوى رديء. والبعض منهم، رجالاً ونساءً، أصبح من أصحاب الملايين؛ هذا التواطؤ لم يكن ليحدث لولا "القابلية للاستعمار" عند الشعوب التي تدين بالإسلام كما يشرحها مالك بن نبي (1905- 1973).
في المقابل، باتت "إسرائيل" في السنوات الأخيرة تسمح للاجئين الفلسطينيين الذي يعيشون في أوروبا من زيارة فلسطين وقراهم المنكوبة. وفعلاُ زارها الآلاف لكن بعضهم بدل أن يزور قريته، طيرة حيفا، حطت به السيارة في طيرة المثلث. وبعضهم اعتقد أن حيفا بجوار رام الله. هؤلاء كانوا يعيشون في سوريا على بعد ضربة حجر من فلسطين (...) لكن عندما حققوا حلمهم بالتحوّل إلى لاجئين في أوروبا تكشف حلمهم الأوحد: زيارة "الأقصى الشريف" والصلاة فيه. فإسرائيل التي سطت على أملاك أهاليهم تواصل اليوم السطو على ما يدخرونه من مخصصات الإعاشة الأوروبية بالسماح لهم بزيارة مقابرهم وصرف مدخراتهم فيها. كما وتواصل دوائر المحفوظات والأرشيفات اليهودية عدوانها على وجدان الفلسطينيين والتنكيل بهم من خلال كشف ونشر وثائقها التي تؤكد على أن جريمتها ضدّ عرب فلسطين كانت مبيتة ومخططة سلفاً. والأمر المُفزع من الناحية النفسية هو احتفال قطاع واسع من المنشغلين بالتاريخ والذاكرة وإعلان سعادتهم بهذا الكشف ولسان حالهم يقول إن هذا إثبات أننا على حقّ علماً أن حقوق الشعوب والأمم لا تحفظها الوثائق والأوراق بل النضال والعمل الواعي نحو التحرير والاستقلال. وإذا عدنا إلى استعارة "النيكروفيلية" من غالب هلسا، هل نعتبر ما يقوم به قطاع واسع من الفلسطينيين هو تشييع النكبة إلى القبر، لكن قطعة، قطعة؟
بناءً على ما تقدم أعتقد أن سكران أحمد حسين (إبراهيم) في "تغييرات في الصلاة الإبراهيميّة" يظلّ أكثر وعياً من الحركة الوطنية الفلسطينية ومعظم نخبها.