تقسيمات الضفة الغربية الإدارية ومخططات التهويد
رأي
تقسيمات الضفة الغربية الإدارية ومخططات التهويد
سري سمّور
الأرض هي محور ومادة الصراع الوجودي (لا الحدودي) بين الشعب الفلسطيني الذي ينوب عن الأمة العربية خاصة والأمة الإسلامية عامة، وبين الحركة الصهيونية ومشروعها السرطاني.
لذا حرص الصهاينة على الاستيلاء على أكبر مساحة من الأرض، والتمدد والتوسع باستخدام أدوات الاستيطان والتهويد، بالقوة، أو بشراء ما يمكن شراؤه عبر الاحتيال أو استدراج ضعاف النفوس من السماسرة وغيرهم، وعبر منظومة قانونية فصّلها (الترزي) الخاص بالكيان العبري، كي تحصر الفلسطينيين في معازل سكنية غير قابلة للحياة والاستمرارية، وتتحول مع الزمن إلى مراكز يسكنها الفقر وتستوطنها البطالة وتزدهر فيها الجريمة المنظمة وكل ما في الكون من خبائث، وطبيعة الاستيطان الصهيوني، هي الزحف والتمدد، وهو مدعوم بأموال طائلة من يهود العالم الأثرياء، الذين يمتلكون شركات عابرة للقارات، وممن يمالئهم ويسعى للتقرب إليهم، وكان هؤلاء غالبًا غريبين من أمريكا وأوروبا، فصار من بينهم عرب ومسلمون "وَأَمدَدناكُم بِأَموالٍ وَبَنينَ".
وفي الضفة الغربية أخذ الاستيطان طابعًا أمنيًا وسياسيًا بالدرجة الأولى، وديموغرافيًا كهدف مستقبلي؛ فكانت المستوطنات تفصل المناطق عن بعضها، ومواقعها غالبًا على التلال والجبال التي تشرف على التجمعات السكنية الفلسطينية، والاستيطان في القدس هدف إلى تهويدها وجعل العرب فيها أقلية، خاصة مع سياسة المنع من البناء، وسحب الهويات من المقدسيين، وكذلك فصل المدينة عن محيطها في الضفة الغربية.
أوسلو والاستيطان
وفق الاتفاقيات التي تلت إعلان المبادئ (أوسلو) فقد تم تقسيم الضفة الغربية إداريًا إلى ثلاث مناطق/ وحدات لكل منها وضعه، وذلك ضمن المرحلة الانتقالية التي كان يفترض أن تنتهي في الرابع من أيار/ مايو 1999، ولكنها استمرت حتى يومنا هذا وهذه المناطق هي:
(أ-A): وهي المناطق التي يكون فيها الأمن من مسؤولية السلطة الفلسطينية ولا تدخلها دوريات الاحتلال الراجلة أو المحمولة، والمسؤولية المدنية أيضًاللسلطة الفلسطينية، بما في ذلك منح تراخيص البناء والزراعة وغير ذلك، حيث لا يحتاج ساكنها أو المستثمر فيها إلى إذن من الجانب الإسرائيلي لبناء بيت أو إنشاء مشروع زراعي مثلاً.
يمكن القول إن مناطق (أ) حتى لحظة اجتياحها في 2002 كانت ترمز إلى نوع من الاستقلال النسبي، وحتى بعض المطلوبين لسلطات الاحتلال وجدوا فيها ملاذاً آمنًا، وجاء بعضهم من أماكن أخرى إليها؛ بل حتى حينما حاول بعض الأسرى، ومنهم القيادي الناشط في كتائب القسام والمحرر لاحقًا بصفقة وفاء الأحرار ( عبد الحكيم حنيني) مع أسرى آخرين من حركة فتح الفرار من سجن شطة، خططوا أن يصلوا إلى جنين كونها من مناطق (أ) وسيكون بإمكانهم البقاء فيها ولو تحت حراسة قوى الأمن الفلسطينية نظراً لأن الاحتلال لم يكن يقتحمها.
طبعًا هذا لا يعني أن الاحتلال لم يكن يدخل مناطق (أ) بطريقة أو بأخرى، خاصة عند وجود حدث مهم؛ فمثلاً تسللت قوة من المستعربين ودخلوا متنزهًا في مدينة طولكرم واعتقلوا الناشط في حركة الجهاد (غسان مهداوي) والذي كان قد فرّ من السجن الإسرائيلي (سجن كفار يونا) في 1996، وتمت عملية الاعتقال الخبيثة بعد عام من تحرره.
إضافة إلى مصطلح (المطاردة الساخنة) الذي نحته الإسرائيلي لتبرير اقتحام مناطق (أ)، وكانت هبة النفق مؤشرًا على هذا السيناريو عندما دخلت بعض القوات الإسرائيلية مناطق في نابلس.
ولكن في جميع الأحوال كان يمكن القول إن ذلك كان أحد أبرز مظاهر التغير في حياة السكان؛ حيث لم يعد الأب والأم يشعرون بقلق عندما يخرج ابنهم ويتجول في هذه المناطق، بعد سنوات طويلة من انتشار دوريات الاحتلال من الجيش وحرس الحدود في داخل المدن والمخيمات والبلدات، والذين كانوا يؤذون المواطنين خاصة الشباب، وقد يعتدون عليهم بالضرب أو حتى يعتقلون بعضهم ويوجهون للمعتقل تهمة رشق الحجارة فيسجن ويغرّم حتى لو لم يكن فعل هذا؛ فمناطق (أ) قبل اجتياح نيسان 2002 جعلت الفلسطيني يشعر بارتياح واضح داخلها، وهي شملت مراكز المدن الكبرى (رام الله والبيرة ونابلس وجنين وطولكرم وقلقيلية) وبعض المناطق المحيطة بها من بلدات أو مخيمات ملتصقة أو قريبة منها، وهي كانت مؤشرًا واضحًا للمواطن على أن للسلطة الفلسطينية سيادة على الأرض والسكان ولو نسبيًا، وأنه هذا المظهر سيتمدد إلى كل الضفة الغربية على طريق التحول إلى دولة فلسطينية مستقلة.
وللتذكير لا يوجد أي مدينتين في الضفة الغربية متصلتان بخط سير كامل مصنف (أ) وهذا من الخبث الإسرائيلي المدروس والمخطط له بعناية وقد عانى المواطنون كثيرًا في فترة انتفاضة الأقصى بسبب ذلك.
فمناطق (أ) هي جزر معزولة في أراضي الضفة الغربية.
مناطق (ب-B): هي مناطق سيطرة عسكرية وأمنية فلسطينية وإسرائيلية مشتركة، أي يحق لقوات الاحتلال أن تدخلها لتنفيذ عمليات اعتقال وما شابه، ولكن فيها أيضًا مراكز ومقرات لقوات الأمن الفلسطيني بلباسها الرسمي.
وعموماً حتى مناطق (ب) كانت قوات الاحتلال قد خففت كثيرًا من دخولها واقتحامها، إلا في حالات معينة، مثل عملية محاولة اعتقال أو تصفية قائد كتائب القسام في الضفة الغربية (محمود أبو هنود)، في بلدة عصيرة الشمالية، والتي باءت بالفشل آنذاك.
مناطق (ج-C): هي مناطق سيطرة أمنية ومدنية إسرائيلية كاملة، ولا يحق لقوى الأمن الفلسطينية دخولها إلا بتنسيق مسبق مع الاحتلال وليس فيها مقرات أمنية فلسطينية حتى لو كانت مخفرًا للشرطة.
والبناء فيها يحتاج إلى ترخيص من الجهات الإسرائيلية المختصة، والتي بالطبع لا تسمح للفلسطيني بالبناء إلا في أضيق نطاق ممكن.
ومناطق (ج) تشكّل أكثر من 60% من مساحة الضفة الغربية، وهذا يعني استفراد الاحتلال بها، لأغراض الاستيطان الذي يتوسع وينتشر كورم سرطاني خبيث، مع مصادرة لأغراض عسكرية لمساحات واسعة من الأراضي ما بين الفينة والأخرى.
هنا نلاحظ أن المناطق ذات الكثافة السكانية العالية دخلت تصنيف (أ) بينما المناطق التي في تصنيف (ج) كثافة السكان فيها قليلة ومتباعدة مما يجعل تنظيم عمليات مقاومة فاعلة فيها محدودًا، إن لم يكن صعبًا، وقدرة الاحتلال على السيطرة أكبر، فالكثافة السكانية عامل مهم في انتشار المقاومة واستمرارها وهي أيضًا تحتوي على مخزون الثروات الطبيعية والمياه، وتشمل أكبر مساحات الأراضي الزراعية الخصبة.
فأكثر الأراضي ثراء ومساحة هي الأقل سكانًا.
ولعل من الضروري التنبه إلى هذه المسألة فأحيانًا أسمع من أناس، بينهم من يحمل شهادات دراسة عليا، ما يوحي أو يتضمن، أو حتى تصريحًا، بأن المناطق البعيدة عن مناطق سكننا في المدن ليست مهمة ولا يجب أن نكترث بها!
هذا تفكير غريب، ويحمل تبعات وتداعيات خطرة، ولتفنيده أشير إلى أن الدول الغنية بالنفط وتزدهر فيها الحياة الاقتصادية والاجتماعية، لا يكون منبع الثروة في مراكزها المدينية، وإن كان ازدهارها من نتاجه.
فمثلاً مدينة الرياض عاصمة السعودية، عدد سكانها حوالي 7 مليون نسمة، تبعد عن حقل (الغوار) أكبر وأهم حقل نفط في العالم حوالي 500 كم، ويقاس على ذلك معظم الدول التي فيها مناجم ذهب أو ماس بعيدة عن مراكز المدن الكبرى، والانتعاش الاقتصادي في تلك المدن، وما تعيشه من توسع في العمران وتطور في مختلف المجالات، هو بفضل منتوجات الأراضي البعيدة نسبيًا عنها.
أنا مضطر لهذا الشرح والتوضيح، لأني وجدت كثيرًا من الناس يجهلون خطورة الأمر.
على كل حال إذا كنّا على قناعة بأهمية أراضي الأغوار الزراعية، وهي ذات كثافة سكانية قليلة مقارنة مع المدن والمحافظات الكبرى، وهي تشكل ما نسبته حوالي ربع مساحة الضفة الغربية، وأكثر من 88% من الأغوار ضمن مناطق (ج) ونرى يوميًا اعتداءات الاحتلال على الأراضي والسكان في هذه المناطق، وتحويل حياتهم إلى جحيم، بينما يعيش المستوطنون هناك حياة عصرية متطورة تشبه الحياة في أكثر الدول الغربية تقدمًا، في حين يمنع أهالي الغور من البناء وتطوير أدوات الزراعة، وحياتهم أشبه بما كان عليه الحال قبل 200 عام أو قبل اختراع الكهرباء وشبكات المياه وغيرها!
وفوق كل ذلك فإن القدس، خارج كل هذه التصنيفات والحسابات.
فوفق الاتفاقيات الانتقالية؛ تم تأجيل البحث والتفاوض حول مصير المستوطنات القائمة في الضفة والقطاع، ووضع مدينة القدس إلى مفاوضات المرحلة النهائية.
والقدس في عرف وقناعة كل الأحزاب الصهيونية هي (العاصمة الأبدية الموحدة) لـ "دولة إسرائيل".
راهنت قيادة م.ت.ف والسلطة الفلسطينية على رعاة عملية التسوية، كي لا تقوم "إسرائيل" بخطوات تغير الوضع القائم، الذي تغير كثيرًا منذ احتلال الجزء الشرقي من المدينة في 1967 ولكن لم يكن الإسرائيليون في وارد وقف النشاطات الاستيطانية والتهويدية، حتى بعد توقيع الاتفاقيات مع الجانب الفلسطيني.
وحتى قرار حكومة حزب العمل في 1992 بتجميد النشاطات الاستيطانية، استثنى مدينة القدس، أما حزب الليكود الذي جاء رئيسه إلى منصب رئيس الوزراء في الكيان الصهيوني بالاقتراع المباشر في 1996 فإنه (نتنياهو) قد أعلن منذ اليوم الأول أنه سيواصل الاستيطان ويوسعه ويرعاه ويدعمه.
وعندما أثارت تصريحاته جلبة في بعض المحافل الدولية صار يتحدث عما أسماه "النمو الطبيعي" وهي حيلة مكشوفة لبناء مستوطنات جديدة بحجة أنها امتداد طبيعي لمستوطنات قائمة، وكانت مستوطنة جبل أبو غنيم التي تحدثت عنها في المقال السابق ثمرة خبيثة من ثمار تلك المرحلة.
سأتحدث أكثر بمشيئة الله عن موضوع المستوطنات ومتعلقاتها في المقال القادم إن شاء الله.
- المواد المنشورة في موقع مركز القدس للدراسات، تعبّر عن آراء كتابها، وقد لا تعبّر عن موقف مركز القدس.