جبل أبو غنيم لم يفجّر الأوضاع

سري سمور
22-01-2022

رأي

جبل أبو غنيم لم يفجّر الأوضاع

سري سمور

هَبّة أو انتفاضة أو أحداث النفق أشارت، كما قلت سابقًا، إلى طبيعة المواجهة المحتملة، واستعداد الاحتلال الإسرائيلي لاستخدام أسلحته الثقيلة والطائرات والدبابات، ولكن إدارة كلينتون كانت سياستها هي الاحتواء وتجنب استخدام القوة العسكرية إلا بمقادير محدودة وقصيرة قدر الإمكان.

وفيما يتعلق بالملف الفلسطيني فإن ما شغل إدارة كلينتون هو ضمان أمن "إسرائيل" وتفوقها النوعي؛ ومكافحة ما يسمى "الإرهاب" والمقصود به (حماس والجهاد الإسلامي) فلسطينيًّا، و(حزب الله) لبنانيًّا، إلى درجة أن وزيرة الخارجية الأمريكية (مادلين أولبرايت) حينما زارت الأراضي الفلسطينية أواخر تسعينيات القرن الماضي خاطبت الفلسطينيين قائلة: "إسرائيل ليست عدو الشعب الفلسطيني، بل عدو الشعب الفلسطيني حماس والجهاد الإسلامي!".

بالطبع لاقى هذا الكلام اشمئزازًا واسعًا في أوساط الجمهور الفلسطيني، وبعض خطباء الجمعة تطرقوا بغضب وحدّة إلى هذه الترهات، وعمومًا هذه هي سياسة الولايات المتحدة ولسان حالها، ولكن ليس الشعب الفلسطيني من تَرسُم وتُحدِّد له الأصدقاء والأعداء عجوز يهودية تشيكية، حتى لو كانت وزيرة خارجية أعظم دولة في العالم، فهل غاب عنها ذلك عندما تفوّهت بهذا الكلام؟ للأسف لم يسألها أحد، حسب علم، حتى بعد مغادرتها العمل السياسي.

ويقال بأن المحافظين الجدد والذين لم يكن لهم النفوذ الذي سيكون لاحقًا، بعيد أحداث النفق واجتماع كلينتون بعرفات ونتنياهو، حرّضوا نتنياهو على القيام بما قام بمعظمه شارون بعد بضع سنين، أي تنفيذ عملية عسكرية واسعة واحتلال مدن الضفة الغربية وغزة، وطبعًا لم يستجب نتنياهو لأسباب مختلفة.

وكانت إدارة بيل كلينتون مزدحمة باليهود الصهاينة، وحتى ما يسمى منسق عملية السلام، دينيس روس، فقد كان يهوديًّا صهيونيًّا، وثمة رواية تناقلتها بعض وسائل الإعلام، أنه في اجتماع ضم وفدين إسرائيلي وفلسطيني، قام الوفد الإسرائيلي لتأدية طقوس الصلاة اليهودية، فارتدى (روس) قلنسوة الحاخامات وأدى مع الوفد الإسرائيلي طقوسه.

وحدث أنه بسبب انحيازه الوقح غضب منه الرئيس عرفات ورفض مقابلته شخصيًّا، ولكن الأمريكان كانوا قد امتلكوا سلطة النظام العالمي الجديد، وهامش المناورة أمام السلطة الفلسطينية ضيق جدًّا، فما كان بالإمكان إظهار تحدّ حقيقي للأمريكان المنحازين، بل قل الخاضعين للإرادة والرغبة الإسرائيلية.

على كل حرص الأمريكان ألا تتكرر أحداث النفق، لا سيما الحيلولة دون وقوع اشتباكات مسلحة بين عناصر من أجهزة الأمن الفلسطينية، من جهة، والجيش الإسرائيلي والمستوطنين من جهة أخرى، وبذلوا جهودًا كبيرة في هذا السياق، وبالطبع سيكون الضغط على الجانب الفلسطيني هو السائد، تحت عنوان كرر نتنياهو ذكره بطريقة مملة مستفزة (الأمن) وهو مصطلح (مكافحة الإرهاب) وفق التعبير الأمريكي الدارج.

والخوف من تفجر الأحداث وخروج الأمور على حدود السيطرة المهددة بالانهيار، ظل هاجسًا يلوح عند كل حدث أمني أو سياسي، حتى لو لم يكن الجمهور مباليًّا أو كان غير مكترث بما يجري.

مستوطنة جبل أبو غنيم

من أبرز الأحداث التي ميزت تلك الفترة، أزمة جبل أبو غنيم؛ وأعرض هنا معلومات عامة عن هذه المنطقة، استنادًا إلى ورقة عمل قدمها المؤرخ الراحل (عباس نمر) ومقتطفات من بيانات ومعلومات وثقها مختصون ومتابعون لموضوع الاستيطان:

"يقع جبل أبو غنيم إلى الشمال من بيت لحم أي جنوب مدينة القدس، على أراض تابعة لبيت لحم وبيت ساحور وصور باهر وأم طوبا على ارتفاع  (774 مترًا) عن سطح البحر، وتعود تسميته بهذا الاسم إلى الصحابي (عياض بن غانم الخزرجي الأنصاري) ، رضي الله عنه، والذي كان مع أهله من أوائل الذين استقبلوا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، عندما جاء من المدينة المنورة إلى القدس لاستلامها من (صفرونيوس)، وقد حمل الجبل اسم أحد أبناء هذا الصحابي.

وكان الجبل منذ العهد العثماني منطقة يزرعها أهل المنطقة بمختلف الأشجار، وفي زمن الإدارة الأردنية صارت منطقة حرجية تضم عشرات الآلاف من الأشجار الحرجية، ومنطقة سياحية جميلة يرتادها الأهالي، وتمتلئ بالحيوانات البرية المختلفة، واستمر الحال على ذلك بعد الاحتلال الصهيوني للقدس، حتى صدر قرار إسرائيلي باعتبارها (منطقة خضراء) أي يمنع البناء فيها.

الأزمة الكبيرة كانت في شباط/ فبراير و آذار /مارس 1997 حينما قررت اللجنة الوزارية الخاصة بالقدس بناء وحدات استيطانية هناك، وصادق نتنياهو على بناء (6500) وحدة استيطانية، كمرحلة أولى، على مساحة أرض 3000 دونم تقريبًا."

هذه إجمالاً معلومات عامة مختصرة عن تلك المستوطنة التي حملت اسم (هار حوما) ثم (بسغات شموئيل) نسبة إلى أحد عتاة مهندسي ورعاة الاستيطان في القدس.

ما جرى وقتها كان تصعيدًا كبيرًا على المستوى السياسي والإعلامي، ولكنه محدود و(تحت السيطرة) تمامًا على المستوى الأمني والميداني.

فقد شنّت الفصائل الفلسطينية المختلفة حملة إعلامية ضد هذا المخطط؛ وللتنويه فإن المستوطنة (يبلغ عدد سكانها الصهاينة حاليًّا نحو 30 ألفًا) فصلت فعليًّا القدس عن بيت لحم، ومنعت التمدد الطبيعي لبيت لحم تجاه القدس، وهي في صلب المشروعات الاستيطانية الهادفة إلى ترسيخ وتدشين ما يسمى (القدس الكبرى)، ولغة الفصائل طبعًا وفق الاستقطاب المعروف؛ حماس والجهاد الإسلامي وإلى حد ما الجبهة الشعبية، دعوا إلى تصعيد المقاومة والتخلي عن خيار المفاوضات والتسوية.

بخصوص حركة فتح والسلطة الفلسطينية، فقد ركزت جهودها على مهاجمة وانتقاد هذا العدوان الاستيطاني الجديد، وطرقت بقوة أبواب الدول الراعية لعملية التسوية، وهي كلها لا شيء مقابل الولايات المتحدة، التي لن تمارس ضغطًا يذكر على "إسرائيل"، خاصة أن الجمهوريين، كانوا بصفتهم أغلبية في الكونغرس يضغطون على الرئيس الديموقراطي من أجل نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، بل أعلنوا تلك الفترة عن تخصيص 20 مليون دولار من أجل هذه المسألة، فكيف سيضغط الأمريكان لمنع مخطط تعتبره "إسرائيل" (بكل أحزابها) مسألة سيادية؟ أما روسيا وأوروبا وبقية دول العالم، يضاف إليها الدول العربية، فهؤلاء يكتفون كالعادة بالتعبير عن القلق والدعوة إلى ضبط النفس، وأحيانًا دعوة خجولة "لإسرائيل" بعدم اتخاذ خطوات تغير جوهر الأمر الواقع، ومواقف وتصريحات من هذا القبيل فقط لا غير!

وحذر مسؤولون في السلطة الفلسطينية من تبعات هذا المخطط، وأنه قد يجرّ المنطقة إلى دوامة العنف، والإعلام الرسمي والإعلام المقرب منه ركز كثيرًا على هذه المسألة، وبدا أن الأزمة تتصاعد كثيرًا، وهناك من اعتبر أن الاحتلال أشغل الرأي العام بمستوطنة جبل أبو غنيم فيما هو ينفذ مخططات أخرى أكثر خطورة، ولكن في حقيقة الأمر كانت تلك المستوطنة هي أبرز وأخطر المخططات في وقتها.

وكان هناك ترقب حذر؛ حول ما إذا كانت الأمور ستنزلق وتتصاعد نحو أحداث أو هبة أو انتفاضة على غرار هبة النفق أو أكثر أو أقل منها، وكان الرأي الراجح أن الأمور لن تذهب إلى تصعيد ميداني شبيه بهبة النفق، ولكن مع اقتراب موعد بدء الجرافات العمل، زاد اهتمام الجمهور بمتابعة التطورات، لا سيما مع نشر الصحافة العبرية تقريرًا ترجمته الصحافة المحلية، يتحدث عن سيناريو مواجهات عنيفة متصاعدة، تدفع الجيش الإسرائيلي إلى إعادة احتلال مناطق سيطرة السلطة الفلسطينية.

ومعروف أن الاحتلال الإسرائيلي لا يترك مجالاً للصدفة ويضع سيناريوهات لمعالجة كافة الاحتمالات ولو كانت ضئيلة ومستبعدة نظريًّا.

وخبراء وازنون فلسطينيون صرحوا بأن الأمور لن تصل إلى مواجهة، ذلك أن جبل أبو غنيم ليس المسجد الأقصى، أي أن الحساسية الدينية للمكان أقل.

ومن ناحية أخرى أرسل الاحتلال رسائل مختلفة منها أن بناء الوحدات الاستيطانية سيكون بعد ثلاث سنوات، وكأنه يتحدث عن ثلاثة قرون أو عقود، وأنه مستعد لتجميد المشروع. طبعًا هي رسائل تخديرية خادعة، والدليل نظرة إلى المستوطنة ومبانيها الضخمة الجاثمة فوق الجبل،  وتتوسع جنوبًا باتجاه بيت ساحور.

وحين بدأت الجرافات الإسرائيلية بالتحرك تحت حماية جنود الاحتلال لتسوية الأرض في جبل أبو غنيم تمهيدًا لبناء المستوطنة الجديدة، عنونت صحيفة شبه رسمية فلسطينية محلية ما معناه: "جرافات الاحتلال تدوس السلام في جبل أبو غنيم." دون وجود مواد إعلامية تحرّض على المواجهة والانتفاضة.

فقد كان واضحًا وقتها أن فتح والسلطة الفلسطينية لن تعمد إلى تصعيد الأمور على غرار أحداث النفق، وستكتفي بالتصعيد الإعلامي والدبلوماسي، والحديث مع مختلف الدول والهيئات والمؤسسات في العالم، في محاولة للضغط على الاحتلال، وهو بالتأكيد لا يستجيب إلا لمصالحه الاستيطانية التهويدية.

وكما قلت سابقًا: فتح امتلكت مفتاح التصعيد والتهدئة، وبدون مشاركتها أو سماحها بالمواجهة، فليس ثمة مواجهة!

وأيضًا وربما هذا شيء جديد دخل إلى ساحة العمل الفلسطيني وهو أسلوب المواجهة أو المقاومة الشعبية التي لا تنتهي باشتباكات ومواجهات كالمعتاد فلسطينيًّا، حيث تم نصب خيام اعتصام على تلة مقابلة للمستوطنة آنذاك لإيصال رسائل احتجاج.

سأتكلم لاحقًا أكثر بمشيئة الله عن الاستيطان في القدس والضفة الغربية، كون هذا الملف هو أهم وأخطر الملفات كما لا يخفى على أحد، ونناقش وجهات النظر أو لنقل الاستقطاب حول هذا الموضوع.