حركة فتح : التناقض المحتدم بين حزب السلطة ومشروع التحرر الوطني
كيف تستقيم حقيقة مشاركة أعضاء في الهيئة القيادية الأولى لحركة فتح (اللجنة المركزية) في مراسم عزاء الشهيد عدي التميمي في مخيم شعفاط، مع انخراط أجهزة ومؤسسات تابعة للسلطة التي تقودها فتح، في سياسات وإجراءات تناهض المقاومة وتعاديها؟ التساؤل عينه ينسحب مع تمجيد صف واسع من كوادر وقادة حركة فتح، ومن بينهم وزراء، وأعضاء مركزية ومجلس ثوري ومسؤولي أقاليم، لعدد من الفدائيين الذين نفذوا عمليات بطولية في الداخل المحتل عام 1948، وعمليات أخرى في القدس أدت إلى مصرع مستوطنين، مع أن الموقف الرسمي للحركة ولفصائل منظمة التحرير الفلسطينية يعارض العمليات الفدائية إذا وقعت داخل الخط الأخضر، أو أدت إلى مقتل "مدنيين" إسرائيليين وخاصة من النساء والأطفال.
يمكن تفسير التناقض أعلاه بالدوافع الفردية لدى هذا المسؤول أو ذاك، وحرصه (أو حرصها) على مشاطرة ابناء شعبه مناسباتهم الاجتماعية إما مجاملة أو التماسا لشعبية، أو بدافع من مشاعر شخصية صادقة، لكن مزيدا من الفحص والتدقيق لهذه الظاهرة يكشف تناقضا أوسع من كونه ظاهرة فردية عابرة، ليتبين أنه تناقض رافق حركة فتح، ومعظم الفصائل المنضوية في إطار المنظمة، منذ بدء تطبيقات اتفاق أوسلو وإنشاء السلطة. وهو التناقض الذي ترتب على كون حركة فتح نشأت كحركة تحرر وطني هدفها تحرير وطنها وشعبها، وخاضت في سبيل ذلك عشرات المعارك والمواجهات على أرض الوطن وفي الشتات، وقدمت آلاف الشهداء والجرحى والأسرى، وبين كونها "حزب سلطة"، والسلطة هذه مُكبّلة ومُقيدة باتفاقيات أمنية وسياسية واقتصادية مع دولة الاحتلال تمنعها من اللجوء ل"العنف" في مواجهة الاحتلال، وتفرض عليها التزامات أمنية وإدارية وقانونية تضعها بدلا من ذلك في مواجهة المقاومة.
سوف نعمد في هذا المقام إلى تركيز بحثنا على حركة فتح، لكونها قاطرة الحركة الوطنية الفلسطينية والعمود الفقري لمنظمة التحرير، ومن قاد النضال الوطني التحرري منذ انطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة حتى توقيع اتفاق اوسلو، ولكونها كبرى المنظمات الفلسطينية، والفصيل الذي يقود السلطة، مع ان سمات هذا التناقض وبعض تجلياته تنطبق بهذا القدر او ذاك على باقي فصائل العمل الوطني.
كثيرة هي الشواهد، القديمة والجديدة، على احتدام التناقض بين الطابع الوطني التحرري لحركة فتح، وبين كونها حزب سلطة، ولعل أبرز هذه الشواهد هو وجود الآلاف من منتسبي الحركة في سجون الاحتلال بسبب مشاركتهم في المقاومة، إلى جانب مختلف المظاهر الاحتجاجية التي تعبر عنها شرائح وقطاعات واسعة من كوادر الحركة، ثم اتساع اشكال "التفلت" والتحرر الذاتي من قيود الاتفاقيات من خلال مشاركة عناصر محسوبين على الحركة، وبعضهم من المنتسبين لأجهزة السلطة الأمنية، في فعاليات المقاومة واستشهاد بعضهم او اعتقالهم خلال أعمال التصدي لاقتحامات الاحتلال.
انتفاضة الأقصى وتبخر أوهام اوسلو
يمكن القول أن وقائع الانتفاضة الثانية (انتفاضة الأقصى) شهدت ذروة هذا التناقض بين الطبيعتين المتعاكستين للحركة، وهو أمر لا يقتصر على اجتهادات الأفراد بناء على قناعاتهم الشخصية، بل يصل إلى تشكيل جناح مسلح للحركة "كتائب شهداء الأقصى" ومشاركة أعلى المستويات القيادية للحركة في توجيه أعمال المقاومة المسلحة وتمويلها، وهو ما رددته المصادر الصهيونية مرارا وتكرارا من خلال اتهام الرئيس الشهيد ياسر عرفات بالوقوف وراء الهجمات المسلحة، ثم محاكمة عدد من أبرز القيادات والكوادر المتقدمة في الحركة ومن بينهم على سبيل المثال الأسير مروان البرغوثي، واللواء فؤاد الشوبكي مسؤول المالية العسكرية، علاوة على اغتيال عدد آخر من الكوادر المتقدمة في الحركة.
جاء انفجار التناقض خلال الانتفاضة الثانية لكي يبدد الآمال ويبخر الأوهام التي نشأت على أثر اتفاق اوسلو، والتي راهنت فيها قيادة المنظمة، اي قيادة فتح والسلطة لاحقا، على أن مسار أوسلو سوف يفضي حتما إلى الحرية والاستقلال والدولة المستقلة، ليتبين بالواقع الملموس، والذي اكدته كل تجربة السنوات اللاحقة وصولا إلى حكومة نتنياهو- بن جفير- سموتريتش، بأن اتفاق اوسلو لم يكن اكثر من فخ أو مصيدة جرى من خلالها الإيقاع بالجسم الرئيسي للحركة الوطنية الفلسطينية وقيادتها، وتكبيلها بجملة من القيود والشروط التي منعتها من الاضطلاع بدورها في مواجهة الاحتلال، ولا شك أن الأمر لم يقتصر على القيود والإملاءات القسرية لتطويع الحركة الوطنية واحتوائها وتعطيل دورها المناهض للاحتلال، بل إن الأخطر تمثل في الامتيازات والإغراءات والمكاسب التي تمتع بها كبار المسؤولين في السلطة والتي شملت مناصب ومواقع ونفوذا ومصالح تشكلت من التزاوج والتداخل بين قطاعات الأعمال والتجارة وبين مواقع القرار في راس الهرم البيروقراطي للسلطة، وتشكلت شرائح مستفيدة من هذا الوضع الشاذ الذي وجدت الحركة الوطنية الفلسطينية نفسها مقيّدة إليه على حساب الدور الذي نشأت من أجله، واكتسبت مكانتها ورصيدها في صفوف الشعب بفضله وبفضل التضحيات الجسام التي قدمتها الحركة عبر تاريخها.
برامج الإصلاح والتطويع
لم يتوقف الامر عند القيود الرسمية التي كبّلت قيادة السلطة وفتح والمنظمة، بل تطور الأمر بسلسلة من الخطط والبرامج التي حملت عناوين "الإصلاح" والتي فرضت كشروط على السلطة الفلسطينية في أواخر عهد الانتفاضة الثانية، وتعددت وتدرجت من خطة خارطة الطريق وخطة ميتشيل وخطة زيني وتوّجت بخطة دايتون التي هدفت إلى إعادة صياغة دور السلطة والأجهزة الأمنية، بما يشمل إعادة هيكلتها وتجديد عقيدتها الأمنية، وإخضاع الصفوف العليا من ملاكاتها إلى دورات مكثفة داخل الوطن وخارجه، بما ساهم في تغيير دماء هذه الأجهزة لخدمة الدور المنوط بها والقائم على الالتزام المطلق ب"المؤسسة" وقراراتها وتوجيهاتها.
سوف يبقى التناقض بين طابع "التحرر الوطني" والطابع السلطوي الوظيفي مرافقا لمسيرة حركة التحرر الوطني الفلسطيني (فتح) ومعها باقي فصائل منظمة التحرير الفلسطينية وعموم أطراف الحركة الوطنية الفلسطينية، لما لهذا التناقض من أثر على العلاقات الوطنية الداخلية والجهود المبذولة لإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة، كما اثره على قضية تجديد شرعية المؤسسات وإجراء الانتخابات العامة، وكذلك على العلاقة بدولة الاحتلال التي لم تعد تكتفي بما أنجزته من خلال اتفاق اوسلو باحتواء الحركة الوطنية الفلسطينية وتحييد جزء رئيسي منها، ولكن دولة الاحتلال باتت الآن، مستفيدة من الظروف الدولية والإقليمية والمحلية المواتية، تطمح إلى حسم صراعها مع الفلسطينيين وإنهائه على قاعدة إخضاع الفلسطينيينن والضغط على السلطة لتحويلها إلى أداة وظيفية تخدم الاحتلال على عدة صعد هي : إعفاء الاحتلال من عبء التعامل مع ملايين الفلسطينيين، الدور الأمني المكمل والمنسجم مع ادوار أجهزة الاحتلال، وإيهام العالم بوجود عملية سياسية مان صحيح أنها متعثرة ومجمدة، ولكن يمكن استئنافها في حال وفاء الفلسطينيين بما هو مطلوب منهم من شروط، وفي حال رفض السلطة قبول هذا الدور المرذول والمرفوض وطنيا، فإن دولة الاحتلال تواصل ضغطها على هذه السلطة دون ان تبالي حتى بإمكانية انهيارها كما يصرح بذلك عدد من قادة اليمين الإسرائيلي المتطرف.
كلفة الخيار البديل
من البديهي القول ان قيادة حركة التحرير الوطني الفلسطيني فتح لا يمكن لها أن ترتضي هذا الدور المناقض لمبررات وجود الحركة أصلا، لكنها ما زالت مترددة في اعتماد خيارات وسيناريوهات بديلة تنقذها من هذا المصير المرفوض شعبيا ووطنيا، كما برز في تلكؤها وتسويفها في تطبيق قرارات الدورة 23 للمجلس الوطني الفلسطيني في نيسان /أيار 2018، وقرارات المجلس المركزي، وهذا التردد مرده إلى استمرار وجود اوهام وآمال معلقة بإمكانية قيام المجتمع الدولي والغرب بشكل خاص بالضغط على إسرائيل لإلزامها باحترام الاتفاقيات وتبني حل الدولتين، ومع تبخر هذه الآمال وتضاؤلها يوما بعد يوم تقف المصالح والحسابات الفئوية خلف تمنع القيادة عن اعتماد خيارات بديلة لن هذه الخيارات كلفتها باهظة ومكلفة وتتمثل في الانصياع لراي الشعب وصندوق الاقتراع من جهة، وقبول شروط الشراكة الوطنية بكل ما يترتب عليها من مساس بالمصالح والامتيازات والحد من كل اشكال الاستفراد.
استمرار هذا التناقض في سلوك وشعارات حركة فتح والمنظمة يعني توليد أزمات دورية نتاج تحديات الواقع ومزاج قواعد الحركة التنظيمية والجماهيرية الرافض للاحتلال وممارساته. وبالتالي، وكما حصل عشية الانتخابات التي كانت مقررة في ايار 2021 من المتوقع أن تشهد الحركة مزيدا من الانقسامات والأزمات الداخلية عند كل منعطف، خصوصا مع تعطيل انعقاد المؤتمر، ليس بالضرورة أن تخرج اجنحة وتيارات من الحركة، بل يمكن ان يتمثل ذلك بانكفاء قطاعات واسعة من كوادر الحركة، وأزمات دورية مع أطرها الجماهيرية (النقابات المهنية مثلا)، أما القيادة الرسمية للحركة فهي تواصل تقطيع الوقت، وقد وجدت لها في السنوات الخيرة صيغة مؤقتة للحل من خلال مواصلة الانتقاد اللفظي لسياسات الاحتلال وممارساته وإدانتها وشجبها والتلويح باللجوء للمؤسسات الدولية، ولكن عمليا الامتناع عن كل ما من شأنه تحطيم قواعد اللعبة، وبالتالي التعايش عمليا إلى درجة التكيف مع مخططات الاحتلال بانتظار ما سياتي به القدر!
- نهاد أبو غوش: عضو المجلس الوطني الفلسطيني ومدير مركز المسار للدراسات