حماس ومسيرة المقاومة
ثلاثة عقود ونصف مضت بين إصدار حركة (حماس) الميثاق المؤسس (۱۹۸۸) ووثيقة المبادئ والسياسات العامة (۲۰۱۷) دون أن تتنازل عن أهم الثوابت في صراعها مع الاحتلال؛ والمتمثلة بالمقاومة وديمومتها.
لقد قدمت حركة حماس نفسها في ميثاقها التأسيسي، ومن ثم في وثيقتها السياسية بأنها "حركة تحرر ومقاومة وطنية فلسطينية إسلامية، هدفها تحرير فلسطين ومواجهة المشروع الصهيوني، وأنها ظلت، وستبقى، ثابتة في مبادئها، محافظة على قيمها وهُويتها ونصاعة مشروعها النضالي".
وما بين الميثاق والوثيقة جرت مياهٌ كثيرة في نهر القضية الفلسطينية، محلياً وإقليمياً ودولياً: انهيار توازن القوى وتغير النظام الدولي، وأحادية القطبية الأميركية، وانتفاضتان بينهما اتفاق سلام، وعملية تسوية فاشلة ومواجهة دائمة مع الاحتلال، ومشاركة الحركة في السلطة، وانقسام فلسطيني داخلي، وسيطرة "حماس" على حكم قطاع غزة؛ ثورات الربيع العربي، ودخول "الإخوان المسلمين" وخروجهم من حكم مصر، وتغير أنظمة عربية وتهشم أخرى، وفوضى وحروب طاحنة في الإقليم، وصعود قوى ونزول أخرى؛ اضطرابات محلية وإقليمية ودولية مع تداعيات ونتائج كثيرة أثرت بصورةٍ مباشرة وغير مباشرة في مجريات القضية الفلسطينية ومستقبلها.
كل ذلك، وسواه جعل، بالتأكيد، من حركة حماس تتأثر بجميع هذه المتغيرات والتحولات، وتُؤثر فيها. وكان لا بد لها، من أن تتفاعل وتستغل هذه الشبكة العنقودية المعقدة من المؤثرات المحلية والإقليمية والدولية؛ فكانت لاعباً نشيطاً ومؤثراً في الأحداث، وكانت طرفاً متلقياً لكثيرٍ من الضغوط والاستهدافات. ولكن، رغم كل هذه التقلبات الكبرى، فإن الحركة لم تضعف أمامها لتسُقط بندقيتها وإن اضطرت، أحياناً، للقبول بهدنةٍ ساخنة أو تهدئة مضطربة من دون القبول بتسويةٍ مع الاحتلال أو الاعتراف به.
إن حركة حماس رفضت منطق: أن كل من يدخل إلى الحكم يجب أن يُلقي البندقية ويستسلم لإرادة اتفاقية "أوسلو" وإملاءاتها، وكرست مفهوم الصمود: في وجه الضغوطات، وفي وجه الحصار والحرب، واستطاعت أن تبقى لصيقة مع شعبها، وتُقدم له ما تستطيع.
لقد مرت "حماس" خلال مسيرتها بالكثير من التجارب والاختبارات، وعاشت العديد من التقلبات، فيما ظل الثابت في كل مفصل من مفاصل تلك السنوات رفض الاحتلال ومواجهته في الساحات كافة.
وعلى هذا الأساس، نجحت "حماس" في توسيع أشكال المقاومة بدرجةٍ مكنتها من الحصول على تأييد معظم الفلسطينيين؛ باختلاف مشاربهم ومعتقداتهم وميولهم السياسية، وإن اختلف كثيرٌ من الناس على حكمها وفكرها، فقد اتفقوا على مقاومتها.
وفي الوقت الذي يرى فيه البعض أن "حماس" قد تراجعت، في وثيقتها السياسية، عن بعضٍ من ثوابتها، سيما لناحية قبولها دولة على حدود الرابع من حزيران 1967، نجد، في المقابل، آخرين يؤكدون أن محاولات وضع الحركة على "السكة" التي وُضعت عليها حركة "فتح"، وأوصلتها إلى التخلي عن البندقية وانتظار "الفُتات" من دولة الاحتلال، لا تزال تبوء بالفشل.
إن " حماس" تُفسر قبولها بحدود 1967 بأنه تكتيك تفاوضي؛ كون إسرائيل نفسها ترفض الاعتراف بشرعية هذه الحدود، كما أنها قدمت عروضاً متكررة لتعليق مقاومتها مقابل المعاملة بالمثل من جانب إسرائيل، إلا أن الأخيرة تجاهلت باستمرار هذه العروض.
إلى ذلك، عملت "حماس" بشكلٍ مكثف على عدة ملفات خلال السنوات العشرة الماضية، وهي فك الربط بين غزة وحماس، وتقديم نفسها كمظلة للنضال ضد الاحتلال، وإحدى الجهات الرئيسة الممثلة للشارع الفلسطيني في كافة أماكن تواجده، والتعامل بشكلٍ جذري مع إشكالية الجمع بين المقاومة والحكم. هذه الغايات الاستراتيجية التي سعت لتحقيقها الحركة، تطلبت منها توسيع أشكال المقاومة وأهدافها.
فبعد أن تعذر على حركة "حماس" ممارسة المقاومة العسكرية من الضفة، فيما المقاومة العسكرية من غزة باتت تكلفتها باهظة جداً رغم تطور قدرات المقاومة، فقد أصبحت غاية توسيع أشكال المقاومة وأهدافها تحتل سلّم الأولويات؛ باعتبارها أداة لإعادة الحركة إلى حيث يمكنها استنزاف الاحتلال وإبقاء الصراع مفتوحاً دون إنهائه، واللجوء لحلولٍ مؤقتة تحت مظلة الهدنة ودون الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود.
وفي هذا الشأن، شرعت الحركة في انتهاج ثلاث خطوات تتمثل في الآتي:
- دعم فكرة المقاومة الشعبية في غزة، والتي تمثلت في مسيرات العودة التي انطلقت عام 2018. وهنا، نجحت الحركة في اللجوء إلى المقاومة الشعبية كنمط أقل كلفة في مواجهة الاحتلال من الأنماط العسكرية دون التخلي عنها، وفي التكامل مع الحالة النضالية العامة للفلسطينيين في كافة أماكن تواجدهم، ما أضعف محاولات ربط غزة بحماس أو العكس.
- حث أبنائها ومناصريها في الضفة على إسناد أشكال المقاومة الشعبية التي قد تنطلق من الضفة. فرغم أن الحركة ما زالت محظورة في الضفة، إلا أن تقديراتها تشير إلى إمكانية مشاركة أبنائها في المقاومة الشعبية لا كما هو الحال مع المقاومة العسكرية.
- بما أن "حماس" لم تتخل عن نمط المقاومة العسكرية من غزة، فقد سعت إلى أن يتم تطويع هذه المقاومة لخدمة القضايا الوطنية وعدم الاستسلام لفكرة استثمارها لتخفيف الحصار فقط، وهو ما عملت عليه بقوة خلال معركة سيف القدس عام 2021؛ إذ ربطت عملها العسكري بمطالب متصلة بحقوق المقدسيين وتحديداً في الشيخ جراح وباب العامود. وفضلاً عن ذلك، قام عديد الأفراد المحسوبين على الحركة بعمليات استشهادية نوعية في مناطق مختلفة من الضفة والقدس؛ لتؤكد الحركة، بذلك، على ديمومة نضالها المسلح.
الحديث عن مقاومة حركة "حماس" خلال السنوات العشرة الماضية يطول ويتشابك مع قضايا وعوامل كثيرة، ولكن مختصر القول: إن الحركة لم تتوقف عن مقاومتها، سواءً في الضفة أو القطاع، وإن خفتت، أحياناً، في الصفة لعواملٍ موضوعية، أهمها: ملاحقة الاحتلال والسلطة لعناصرها، وانكشاف الحالة الأمنية وسهولة اختراقها. ونظراً لما تشهده الحالة الفلسطينية من انقسام سياسي وتضييق أمني على الفعل المقاوم، فإنه يتوجب على "حماس" الموازنة بين ثلاثي: (الالتزام المبدئي، والتخطيط الاستراتيجي، والتكتيك العملي)، وهو توازن حيوي في كل عمل سياسي رشيد، مع الإشارة، إلى أنه يُحسب لهذه الحركة أنها استطاعت إدارة توازناتها الداخلية، وإنجاز انتخابات بالغة الحساسية، وتنظيم انتقال سلس في القيادة، ومواصلة مقاومتها، بالرغم من كل الظروف المضروبة عليها: حصاراً ومؤامرات وحروباً.