خرجوا من لبنان وبدأ التجهيز لشن العدوان علينا
رأي
خرجوا من لبنان وبدأ التجهيز لشن العدوان علينا
سري سمور
خاص- مركز القدس للدراسات
في اللحظة التي وضع فيها آخر جندي إسرائيلي قدمه داخل فلسطين المحتلة قادمًا من لبنان مهزومًا مدحورًا، بدأ التحضير الصهيوني لعدوان واسع على الشعب الفلسطيني، فمشهد الجنود وهم يبكون فرحًا لخلاصهم من (الكابوس اللبناني) واتصالهم بأمهاتهم وهو يصرخون (أمي لا حرب بعد اليوم... لا لبنان بعد الآن... لا موت بعد اليوم...!) كان له وقع مختلف على الجانبين، الجانب الإسرائيلي الذي يولي أهمية كبيرة للروح المعنوية لجنوده وضباطه، ويسعى دومًا أن تكون هذه الروح في أعلى مستوياتها، وهو الذي يزودهم بأحدث الأسلحة الأمريكية والتقنيات العسكرية المتطورة المتفوقة على كل ما في المنطقة من جيوش وعتاد وأدوات لوجستية، والجانب الفلسطيني الذي رأى فيه قطاع كبير من الجمهور أن هذا الجيش الإسرائيلي لم يعد (الجيش الذي لا يقهر) وأنه عبر مقاومة استنزافية اندحر عن لبنان مع عملائه، دون توقيع اتفاقيات ملزمة للدولة اللبنانية، وأن المفاوضات مع الكيان زادته عنجهية وتطرفًا وتصلبًا في المطالب بينما المقاومة اللبنانية (حزب الله تحديدًا) أذلته وأجبرته على هروب بصورة انسحاب، وهذا يعني بالضرورة قدرة الفلسطينيين الذين لهم تاريخ طويل وعريق في المقاومة وحرب العصابات، أن يجبروا الاحتلال على الانسحاب من المناطق التي يتم التفاوض حولها (المناطق المحتلة في نكبة 1967؛ الضفة الغربية بما فيها شرقي القدس وقطاع غزة) باستخدام الوسيلة نفسها: المقاومة، وإذا لم يكن من التفاوض بدّ فليكن مستندًا إلى قوة المقاومة.
وهذا الشعور حتى وصل بعض كبار السن، وليس فقط الشباب، مع أن كبار السن يميلون عادة إلى الأسلوب المحافظ والتردد وتعمد الحديث عن معيقات المقاومة، وتاريخ الهزائم العربية والإحباط من الماضي واليأس من الحاضر وسوداوية النظر إلى المستقبل.
وأتذكر أنني مع معلم تقاعد -رحمه الله- جلسنا نتصفح جريدة تتصدرها أخبار اندحار العدو عن لبنان، فسحب نفسًا من سيجارته وتنهد قائلاً: "شايف كيف عمي؟ هيهم تركوا لبنان، وعنا لو تركنا التفاوض، بحجر من هون ومولوتوف من هناك ورصاصة من هون وهون صدق رح يطلعو غصبن عنهم... لبنان مش أقوى منا!"
ودعونا ننظر في هذه المقالة إلى أحوال الجانب الإسرائيلي (سنتحدث لاحقًا عن الجانب الفلسطيني) في تلك اللحظات المفصلية في تاريخ الصراع كيف كانت.
الجيش الإسرائيلي لن يتقاعد!
"إسرائيل" التي للتوّ كانت تحتفل بمرور نصف قرن على تأسيسها، وتعيش زمن ذروة تفوقها وأوج تقدمها؛ فهي قد حصرت القضية الفلسطينية في تفاوض على جزئيات وتفصيلات صغيرة، وانقسم الفلسطينيون نفسيًّا وبرامجيًّا، بسبب ذلك، وتراجعت إلى حدّ كبير جدًّا موجة العمليات التي تنفذها المقاومة في فلسطين، واستطاعت بناء علاقات مع دول عربية مختلفة ومنها من وقع معها اتفاقيات سلام، وتمكنت من تحويل الإدارة الأمريكية إلى ما يشبه الملحق لها، لدرجة أن بعض الصحف نشرت أسماء اليهود الصهاينة في الإدارة الأمريكية بمن فيهم المكلفون بمتابعة عملية التسوية مع الفلسطينيين (على رأسهم دينيس روس) فوجدوا أن بيل كلينتون مسيحي متصهين محاط بيهود صهاينة تمامًا!
بعد كل هذا وجدت جيشها عمليًّا يهرب من بضعة آلاف مقاتل بأسلحة خفيفة يحملون جنسية بلد فقير مقسم مؤسساتيًّا بين طوائفه المتنافسة، وساسته الذين ديدنهم الخصومة والصراع، وهو جيش لن يتحوّل إلى التقاعد، وإلا فقدت "إسرائيل" مبرر وجودها، فهي جيش له دولة، ولا بد من استعادة هيبة هذا الجيش بحرب عدوانية مضمونة النتائج وليس أفضل من هدف سهل-حسب تصورهم واعتقادهم- سوى الشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع، لأن التمدد الاستيطاني خارج فلسطين الانتدابية صار أمرًا صعبًا ومستبعدًا في المدى المنظور، ولذا وجب إحكام السيطرة المطلقة على فلسطين، وعدم تقاسمها مع أحد!
سياسيًّا وصل إيهود باراك الذي أتمّ عملية الانسحاب من لبنان إلى الحكم في أيار/ مايو 1999، وهو من صقور حزب العمل كما يعرفونه، ويعرف عنه عدم التصويت لصالح اتفاقيات أوسلو التي وقعها أستاذه رابين وزميله في الحزب بيريز، وقد كشف القناع عن وجهه مبكرًا وأعلن عن اللاءات المشهورة في غير مناسبة:
- لا لتقسيم القدس التي "ستظل عاصمة إسرائيل الموحدة".
- لن يكون هناك جيش غربي نهر الأردن إلا الجيش الإسرائيلي.
- لا عودة إلى حدود حزيران/ يونيو 1967.
- الكتل الاستيطانية الكبيرة ستضم إلى "دولة إسرائيل".
-لن يتم إقرار أي اتفاق مع الفلسطينيين دون عرضه على الاستفتاء الشعبي.
وعمليًّا باراك بهذه المواقف (اللاءات) يطلق النار على عملية التسوية ويحكم على نتيجة المفاوضات بصفر مكعب، ولكن تم تفسير مواقف باراك بأنها (مزايدة على اليمين الإسرائيلي) ومحاولة لترويض المتطرفين في جمهوره، وأنها مجرد فرقعات إعلامية لا غير، أو بالونات تفاوضية، وهذا كلام قاله عرب وفلسطينيون، إضافة إلى شخصيات مثل (نواف مصالحة) الذي شغل منصب نائب وزير الخارجية في حكومة باراك.
وكما قلت في مقالي المنشور هنا في 7 نيسان/ إبريل 2022م عنوان (عملية التسوية وخطأ كبير في فهم العقل الصهيوني) بأن "إسرائيل" ليست جمعية خيرية ولا شركة تجارية، وحقيقة موازين القوى هي التي تجبر قادتها على تغيير مواقفهم والتراجع عن (خطوطهم الحمراء) لا حسن النوايا والرغبات والأوهام والغرق في تحليلات يغيب عن أصحابها طبيعة العدو العنصرية التوسعية العسكرية.
وقد جرى تسويق باراك من الإعلام الغربي الماكر، ومعه الإعلام العربي عمومًا (سجل صحافيون بكاء بدموع الفرح في عيون إعلاميين عرب كانوا يغطون الانتخابات الإسرائيلية عند إعلان فوز باراك) على أنه الرجل الذي سيصنع السلام، كونه عرف الحرب وأهوالها وخبر آلامها ومعاناتها، وأن ثلاث سنوات عجاف قد انتهت بخسارة نتنياهو وما رافق مرحلته من تعطل وجمود في عملية السلام، وسيبدأ عهد جديد بقيادة باراك، مع صراحة المذكور فور الاحتفال بفوزه في الانتخابات استمر الرهان عليه، حتى بدأ بعدوانه الإجرامي.
ناهيك عن التقارير الصحافية الغربية التي قالت (له وجه طفولي.. يعزف على البيانو.. له علاقة بالأدب والكتابة) ناسين أو متناسين أنه لم يفتخر ولم يصل إلى منصبه إلا بما (أنجزه) وهو يلبس البزة العسكرية ويطلق النار!
وباراك لا يقل عنجهية عن نتنياهو واعتداده بنفسه أثار حتى صحافيين إسرائيليين، لدرجة أن أحدهم أحصى له في مقابلة كم مرة قال (أنا) دون أن يقول (نحن) ولو مرة واحدة!
أما زملاؤه في المؤسسة السياسية والعسكرية والأمنية فلم يكونوا أقل منه تشوقًا وحماسة لتنفيذ عدوان على الشعب الفلسطيني، وبالمناسبة حكم باراك 20 شهرًا لم ينسحب خلالها من متر مربع واحد في الضفة الغربية، وهو بهذا تفوّق على سلفه نتنياهو الذي انسحب من بعض المناطق، وتم ضم أجزاء من الضفة تصنف مناطق (ب) لتصبح مناطق (أ).
وهنا قد يطرح سؤال منطقي: هل تريد القول أن انتفاضة الأقصى التي اندلعت في زمن باراك، كانت مخططًا إسرائيليًّا لجرّ الجانب الفلسطيني إلى مربع العنف، وخوض مواجهة غير متكافئة تعيده إلى ما يشبه نقطة الصفر؟
هذا ما جرى ولكن قدرات البشر لا تقارن بقدرات رب البشر، ويقال أنك يمكن أن تحدد تاريخ حرب وتبدأ بخوضها ولكن موعد نهايتها ونتيجتها وما يقع خلالها لن يكون بيدك.
وأيضا كان الفلسطينيون مضطرين للدفاع عن أنفسهم أمام العدوان، ولا يعقل أن يقفوا مكتوفي الأيدي أمام العدوان المتواصل الذي لم يكن هناك بدّ من التصدي له، فالفلسطينيون فعليًّا دافعوا عن كينونتهم وأطفالهم حتى لو كان أسلوبهم عمليات استشهادية في داخل الكيان، فهي حرب ومواجهة فرضت عليهم.
أما أثر الانسحاب من لبنان على تسريع اتخاذ قرار بشن العدوان، فله مجموعة من الأسباب من أهمها:
- زيادة نفوذ مجموعة من الجنرالات والضباط في الكيان الصهيوني ممن لا يؤمنون بتقديم أي تنازل للفلسطينيين ويرون أن عرفات يخدعهم وينتظر فرصة لينقض عليهم من جهة، وأن حماس (أسوأ) وتريد تدمير كيانهم ونفوذها يتصاعد، وأن أوسلو كان خطأ يجب التراجع عنه ،أو على الأقل وقف مسيرته تمامًا وتفريغه كليًّا من محتواه السياسي، وهؤلاء استمر نفوذهم بالتصاعد وباتوا اليوم يمسكون بناصية الكيان ويقررون سياسياته سواء لهم مناصب معلنة معروفة أم في الظل من أمثال (شاؤول موفاز وموشيه يعلون وآفي ديختر وأفيف كوخافي وعاموس غلعاد وغادي أيزنكوت وغيرهم ومن سينضم إليهم على ذات النهج ومن نفس الخلفية الأمنية والعسكرية) وكون بعض رؤساء الحكومات (أولمرت ونتنياهو، وحاليًّا بينيت) ليسوا من هذه المجموعات لاختلاف الخلفية المؤسساتية فإنهم مجرد (ديكور) وهذا ليس تحليلاً بقدر ما هو واقع أكدته وتؤكده وستؤكده الوقائع المرئية.
- شعور انتاب المؤسسات الإسرائيلية وجمهورها أن الانسحاب من جنوب لبنان شكّل نوعًا من الإلهام لدى قطاع من الفلسطينيين ورغبة في محاكاة الأسلوب (المقاومة المسلحة الاستنزافية) وقد كتب أحد الصحافيين عندهم نقلاً عن أحد المسؤولين عند اندلاع انتفاضة الأقصى: يبدو بأن الفلسطينيين قد زادت جرأتهم علينا بسبب انسحابنا من لبنان، ويظنون أنهم سيجبرونا على انسحاب مشابه هنا!
- الشعور بغطرسة القوة والتفوق النوعي والكمي أمام الفلسطينيين، تزامنًا مع رغبة في ترميم الروح المعنوية لجنود وضباط الجيش الإسرائيلي وأنه ما زال أقوى جيش ويمكنه الانتصار بسهولة ووقت قصير على الأعداء، خاصة أنهم سيكونون في حالة تفرّغ بعد تبريد وتجميد الجبهة اللبنانية في الشمال.
- معلومات استخبارية تؤكد أن حزب الله ينوي (بدعم إيراني) نقل التجربة إلى الفلسطينيين، ليس عبر تأسيس فرع للحزب في فلسطين بالضرورة، ولكن بدعم الفصائل الفلسطينية (بما فيها حركة فتح) لاستنساخ تجربته، وقد زاد هذا الشعور الذي تحوّل إلى قناعة بعد تصريحات متتالية من أمين عام حزب الله، حسن نصر الله، وتركيز إعلام الحزب على هذه المسألة.
- تقديرات إسرائيلية أن شعورًا عامًّا بالتململ يزداد ويتفاقم في أوساط الفلسطينيين في الضفة والقطاع، بسبب عدم التقدم في مسار التسوية، وزيادة الاستيطان والتهويد في القدس، ونصب الحواجز بين المدن واستفزاز المواطنين، كما أن حلم (سنغافورة)لم يتحقق، وتزايد التذمر من الظروف الداخلية لا سيما الوضع الاقتصادي، وتبلورت لدى المؤسسات الصهيونية قناعة أنه منذ 1994-1995 حتى الألفية الجديدة ينشأ جيل فلسطيني ويكبر لم يخبر قوة جيش الاحتلال وسطوته، بسبب وجود التجمعات السكانية الكبيرة عمومًا في مناطق (أ) التي لم يدخلها الاحتلال منذ ما يسمى "إعادة الانتشار" وهؤلاء لم يعيشوا ما عاشه الجيل الأكبر منهم من مداهمات وتفتيش وتنكيل داخل البيوت والشوارع من جنود الاحتلال، فوجب ردع هذا الجيل، وإحداث ما يعرف بعملية "كيّ الوعي" قبل استفحال التمرد النفسي؛ الذي حتمًا سيتحول إلى فعل مادي إذا لم تستبق "إسرائيل" الأحداث وتبادر بشن العدوان قبل نضج هذا التمرد في نفوس الشباب.
هذه إجمالا حالة "إسرائيل" في تفكيرها تجاه الفلسطينيين في الضفة والقطاع بعد هروب جيشها من جنوب لبنان وقرار شن العدوان الذي ينقصه الموعد والسبب. وسنواصل الحديث في مقالات قادمة إن شاء الله.
- المواد المنشورة في موقع مركز القدس للدراسات تعبّر عن رأي كتابها، وقد لا تعبّر بالضرورة عن رأي المركز.