رغم قلّتهم.. كيف يسيطر المتدينون في "إسرائيل"؟
عماد أبو عواد
17-02-2019
عماد أبو عوّاد\ مدير مركز القدس لدراسات الشأن الإسرائيلي والفلسطيني
يتساءل الكثيرون عن سرّ سيطرة التيار الديني في السنوات الأخيرة، على الكثير من مفاصل الحياة في الدولة العبرية، حتى أنّ العلمانيين في "إسرائيل" وبنسبة وصلت إلى 79%، باتوا يعتقدون أنّ المتدينين يحتلون الدولة[1]، رغم أنّ نسبة المتدينين في أحسن أحوالها لا تتجاوز العشرين بالمئة، ينقسمون بالتساوي تقريبا إلى تيارين رئيسيين، متدينون قوميون "الصهيونية الدينية"، والمتدينون الحريديم.
وقد اتضحت سيطرة الهالة الدينية في ثلاثة نطاقات رئيسة، أولاها يتمثل في الحياة العامة، حيث باتت الطقوس الدينية كعطلة السبت وشلّ الحركة فيه، سمة تُميز الكثير من المناطق الإسرائيلية، خاصة في ظل سيطرة المتدينين على وزارة الداخلية في السنوات الأخيرة، حيث تمتلك هذه الوزارة صلاحيات واسعة فيما يتعلق بطبيعة العمل في الأيام المقدسة، ومنح تراخيص العمل في بعض المناطق، وحركة المواصلات فيها.
النطاق الثاني، يتثمل في زيادة الثقل الديني في التعليم العام، والذي تمثل بقدرة الحريديم على الاستمرار بحصر تعليم ابناءهم في نطاق ديني فقط الى جانب اللغة والحساب، دون الزامهم بتعلّم المواد الأخرى، والأهم من ذلك ما بدى واضحاً خلال السنوات الأخيرة، بقدرة تيار المتدينين الصهاينة على تطعيم المواد التعليمية بالمسحة الدينية، التي ترفضها شريحة واسعة من الصهاينة في فلسطين التاريخية.
فيما الثالث، نطاق الجيش الإسرائيلي، والذي ارتفعت فيه نسبة الضباط المتدينين إلى حدود ال40%، رغم أنّ نسبة المتدينين الصهاينة 11%، والحريديم لا يُشاركون في الجيش، وبدت الآونة الأخيرة تشهد تذمراً كبيراً من الجنود، بأنّ جيشهم بات جيش الرب لا جيش الدولة، فقد تم الفصل في داخل الجيش بين الجنسيين في الكثير من المهمات والتدريبات، وبات يُفرض على غالبيتهم طقوس دينية، حتى على أولئك العلمانيين، إلى جانب فرض محاضرات لحاخامات على الجيش، دون افساح المجال لحرية الاختيار بحضورها.
وهنا يُطرح التساؤل، في ظل نسبتهم المتدينة بالمقارنة مع العلمانيين، أو المحايدين، كيف كان للمتدينين هذه القدرة في بعث روح الهوية الدينية للدولة، خاصة بعد إقرار قانون القومية الأخير، ولعلّ أولى هذه التفسيرات يكمن، في تقبل الشريحة الأكبر من اليهود في الدولة لذلك، ففي ظل وجود ما نسبته 40% من اليهود التقليديين، أي لا علمانيين ولا متدينين، فإنّ هذه الشريحة تجعل من نفسها على الحياد، ولربما تدعم من دافع احترامها لدينها باتجاه قبول إجراءات الدولة لصالح المتدينين.
هذا يُضاف إلى أنّ اليهودية في الدولة العبرية، تعدت مرحلة الديانة إلى كونها قومية، بمعنى باتت التيارات الدينية الرئيسة في "إسرائيل" تجعل من اليهودية هي الدولة والعكس صحيح، وذهب بعضهم لأبعد من ذلك، معتبراً أنّ اليهودي الحقيقي هو ذلك الذي يقطن الدولة، الأمر الذي جعل من الدين اليهودي حجراً مركزياً في السياسية الداخلية مؤخراً.
لكنّ الأهم من ذلك، والذي قلب الموازين لصالح الأقلية الدينية، وحوّلت احترام الدين من مجرد مشاعر إلى سلوكيات في الدولة، هو دخول تلك التيارات بقوة إلى الساحة السياسية، خاصة مع مطلع ثمانينات القرن الماضي وتأسيس حزب شاس الحريدي.
حيث بات المتدينين يملكون ما يقارب 20 مقعد كنيست في كلّ من الدورات الانتخابية الأربع الأخيرة، وبطبيعة الحال وبهذا العدد من المقاعد، أصبحوا بيضة القبان في الحكومات التي ستتشكل، فقد كانوا كذلك في حكومات نتنياهو الثلاث الأخيرة، الأمر الذي جعل بقدرتهم اسقاط الحكومة، متى أرادوا ذلك.
فبات ابتزاز الحكومات ديدنهم الذي ساروا عليه لتحقيق مرادهم، فقانون التجنيد الذي تجدد وعُطل، ومنع الاعتراف بالتيار الديني الإصلاحي، وفرض سلوكيات دينية على الجيش، جاء كلّه تحت سياسة واضحة، إمّا تفعيل ذلك، وإمّا الانسحاب من الحكومات، حتى أنّ موضوع هذا الابتزاز دفع نتنياهو لإعلان تذمره منه في غير مرة.
ضيق الحكومات الأخيرة، وعدم وجود أحزاب كبيرة، تستطيع تشكيل الحكومات بمعزل عن الأحزاب الصغرى وتحديداً الدينية منها، جعل الأخيرة بيضة قبان الحكومات، الأمر الذي جعل الحكومة تنصاع لبرامجها الدينية، فلا حكم بدون تلك الأحزاب، التي تتقاطع مع اليمين السياسي، حيث وجد الأخير بها ضالته، ووجدت هي ضالتها بيمين يستجيب لها، ولا يُضيره تمرير قوانين تدعم سطوة المتدينين.
ختاماً، الصوت الديني في الدولة العبرية، بات من الواضح علوه، وليس من السهل ليس مجرد الوقوف أمامه، بل الذهاب في اتجاه توجيه انتقاد عملي له، فقد حول المتدينون من أنفسهم، الجزء الأهم والأكثر حرصا على الدولة، واستطاعوا جعل الدولة التي نشأت على العلمانية، قائمة ببركتهم، وبفضل صمودهم ودعاءهم كما يقولون، بل والأبعد من ذلك، أنّهم اليهود الأكثر نقاءً ونفعاً لدولتهم، فبات انتقاد سلوكهم وقوانينهم، كأنّه تشكيك بالدولة ومسمار في نعشها.
[1] https://www.idi.org.il/articles/20352
يتساءل الكثيرون عن سرّ سيطرة التيار الديني في السنوات الأخيرة، على الكثير من مفاصل الحياة في الدولة العبرية، حتى أنّ العلمانيين في "إسرائيل" وبنسبة وصلت إلى 79%، باتوا يعتقدون أنّ المتدينين يحتلون الدولة[1]، رغم أنّ نسبة المتدينين في أحسن أحوالها لا تتجاوز العشرين بالمئة، ينقسمون بالتساوي تقريبا إلى تيارين رئيسيين، متدينون قوميون "الصهيونية الدينية"، والمتدينون الحريديم.
وقد اتضحت سيطرة الهالة الدينية في ثلاثة نطاقات رئيسة، أولاها يتمثل في الحياة العامة، حيث باتت الطقوس الدينية كعطلة السبت وشلّ الحركة فيه، سمة تُميز الكثير من المناطق الإسرائيلية، خاصة في ظل سيطرة المتدينين على وزارة الداخلية في السنوات الأخيرة، حيث تمتلك هذه الوزارة صلاحيات واسعة فيما يتعلق بطبيعة العمل في الأيام المقدسة، ومنح تراخيص العمل في بعض المناطق، وحركة المواصلات فيها.
النطاق الثاني، يتثمل في زيادة الثقل الديني في التعليم العام، والذي تمثل بقدرة الحريديم على الاستمرار بحصر تعليم ابناءهم في نطاق ديني فقط الى جانب اللغة والحساب، دون الزامهم بتعلّم المواد الأخرى، والأهم من ذلك ما بدى واضحاً خلال السنوات الأخيرة، بقدرة تيار المتدينين الصهاينة على تطعيم المواد التعليمية بالمسحة الدينية، التي ترفضها شريحة واسعة من الصهاينة في فلسطين التاريخية.
فيما الثالث، نطاق الجيش الإسرائيلي، والذي ارتفعت فيه نسبة الضباط المتدينين إلى حدود ال40%، رغم أنّ نسبة المتدينين الصهاينة 11%، والحريديم لا يُشاركون في الجيش، وبدت الآونة الأخيرة تشهد تذمراً كبيراً من الجنود، بأنّ جيشهم بات جيش الرب لا جيش الدولة، فقد تم الفصل في داخل الجيش بين الجنسيين في الكثير من المهمات والتدريبات، وبات يُفرض على غالبيتهم طقوس دينية، حتى على أولئك العلمانيين، إلى جانب فرض محاضرات لحاخامات على الجيش، دون افساح المجال لحرية الاختيار بحضورها.
وهنا يُطرح التساؤل، في ظل نسبتهم المتدينة بالمقارنة مع العلمانيين، أو المحايدين، كيف كان للمتدينين هذه القدرة في بعث روح الهوية الدينية للدولة، خاصة بعد إقرار قانون القومية الأخير، ولعلّ أولى هذه التفسيرات يكمن، في تقبل الشريحة الأكبر من اليهود في الدولة لذلك، ففي ظل وجود ما نسبته 40% من اليهود التقليديين، أي لا علمانيين ولا متدينين، فإنّ هذه الشريحة تجعل من نفسها على الحياد، ولربما تدعم من دافع احترامها لدينها باتجاه قبول إجراءات الدولة لصالح المتدينين.
هذا يُضاف إلى أنّ اليهودية في الدولة العبرية، تعدت مرحلة الديانة إلى كونها قومية، بمعنى باتت التيارات الدينية الرئيسة في "إسرائيل" تجعل من اليهودية هي الدولة والعكس صحيح، وذهب بعضهم لأبعد من ذلك، معتبراً أنّ اليهودي الحقيقي هو ذلك الذي يقطن الدولة، الأمر الذي جعل من الدين اليهودي حجراً مركزياً في السياسية الداخلية مؤخراً.
لكنّ الأهم من ذلك، والذي قلب الموازين لصالح الأقلية الدينية، وحوّلت احترام الدين من مجرد مشاعر إلى سلوكيات في الدولة، هو دخول تلك التيارات بقوة إلى الساحة السياسية، خاصة مع مطلع ثمانينات القرن الماضي وتأسيس حزب شاس الحريدي.
حيث بات المتدينين يملكون ما يقارب 20 مقعد كنيست في كلّ من الدورات الانتخابية الأربع الأخيرة، وبطبيعة الحال وبهذا العدد من المقاعد، أصبحوا بيضة القبان في الحكومات التي ستتشكل، فقد كانوا كذلك في حكومات نتنياهو الثلاث الأخيرة، الأمر الذي جعل بقدرتهم اسقاط الحكومة، متى أرادوا ذلك.
فبات ابتزاز الحكومات ديدنهم الذي ساروا عليه لتحقيق مرادهم، فقانون التجنيد الذي تجدد وعُطل، ومنع الاعتراف بالتيار الديني الإصلاحي، وفرض سلوكيات دينية على الجيش، جاء كلّه تحت سياسة واضحة، إمّا تفعيل ذلك، وإمّا الانسحاب من الحكومات، حتى أنّ موضوع هذا الابتزاز دفع نتنياهو لإعلان تذمره منه في غير مرة.
ضيق الحكومات الأخيرة، وعدم وجود أحزاب كبيرة، تستطيع تشكيل الحكومات بمعزل عن الأحزاب الصغرى وتحديداً الدينية منها، جعل الأخيرة بيضة قبان الحكومات، الأمر الذي جعل الحكومة تنصاع لبرامجها الدينية، فلا حكم بدون تلك الأحزاب، التي تتقاطع مع اليمين السياسي، حيث وجد الأخير بها ضالته، ووجدت هي ضالتها بيمين يستجيب لها، ولا يُضيره تمرير قوانين تدعم سطوة المتدينين.
ختاماً، الصوت الديني في الدولة العبرية، بات من الواضح علوه، وليس من السهل ليس مجرد الوقوف أمامه، بل الذهاب في اتجاه توجيه انتقاد عملي له، فقد حول المتدينون من أنفسهم، الجزء الأهم والأكثر حرصا على الدولة، واستطاعوا جعل الدولة التي نشأت على العلمانية، قائمة ببركتهم، وبفضل صمودهم ودعاءهم كما يقولون، بل والأبعد من ذلك، أنّهم اليهود الأكثر نقاءً ونفعاً لدولتهم، فبات انتقاد سلوكهم وقوانينهم، كأنّه تشكيك بالدولة ومسمار في نعشها.
[1] https://www.idi.org.il/articles/20352