ضباب المواجهة في زمن الضفّة الغربية!

ساري عرابي
08-03-2022
تحميل المادة بصيغة PDF

رأي

ضباب المواجهة في زمن الضفّة الغربية!

ساري عرابي

ثمة حياة طبيعية في فلسطين عموما، لا في الضفّة الغربية فحسب. الناس يتجهون إلى أعمالهم، وينصبون أسواقهم، ويقيمون أفراحهم. لا ينبغي أن يكون الشعب الذي يتعرَّض للاحتلال على نحو آخر. نعم، يمكن الوقوف عند الكثير من أنماط الاجتماع، التي تتأثّر بالبنى التحتية والسياسات العامّة التي ترفع من العوائق أمام المسؤولية التاريخية في مواجهة الاحتلال، بيد أنّ من ضرورات هذه المواجهة امتلاك مقوّمات الصمود، وأسباب الحياة، ودواعي الفرح.

الشيء غير الطبيعي الذي ينغّص هذه الحياة، هو الاحتلال وسياساته. أمّا أنماط المواجهة فهي محكومة بظروفها التاريخية وشروطها الموضوعية، وتبقى من مسؤوليات القوى المنظّمة العمل على تغيير تلك الظروف والشروط، لجعل عملية المواجهة أقلّ صعوبة، وأكثر قدرة على دمج أوسع للجماهير والشرائح الشعبية، وأكثر كلفة على الاحتلال، إلا أنّ اختلال الشرط لا يعني بالضرورة امتناع أنماط أخرى من المواجهة تتكيف مع الشروط الصعبة القائمة في الواقع. وتظلّ المشكلة، والحالة هذه، الارتكاس في القياس على نماذج تاريخية، الأمر الذي يحول دون القدرة على ملاحظة حقيقة المواجهة.

منذ سنوات، تعيش ساحة الضفّة الغربية، ومنها القدس التي فصلها الاحتلال بأدوات استعمارية وسياسية عن فضائها الطبيعي في الضفّة، نمطا مفتوحا من المقاومة، يتبدّل بين الهبّات الشعبية الواسعة نسبيّا، والعمليات الذاتية المسماة فردية، وبعض أشكال المقاومة المنظّمة، وذلك بالتزامن مع تحولات اجتماعية وسياسية، قد تبدو بطيئة لكن يمكن رصدها.

وبالرغم من التحفّز الأمني الإسرائيلي الهائل، وتفوّقه الاستخباراتي الكاسح، والأثر العميق للسياسات الاقتصادية المزدوجة فلسطينية رسمية وإسرائيلية، فإنّ هذا النمط المفتوح لم يكفّ عن الحركة، ولم يرتدّ إلى الوراء، مما يعني أنّ الحياة الطبيعية في الضفّة، التي يعزّز أهلها بها صمودهم وقد يعتريها ما يؤخذ عليها، تتخللها حالة كفاحية لا تهدأ، بيد أنّها لا تُرصد بالشكل الذي يعطيها حقها، وبالقدر الذي يمكن به بناء سياسات عليها.

بالرغم من كون هذه الحالة ممتدّة، بسماتها المذكورة، منذ العام 2014، فإنّ الإعلام الفلسطيني، المعني بقضية المواجهة، يسأل عند كل حادثة إن كانت تحمل دلالة على تحوّل ما، أو كانت مقدّمة لتصعيد ما، ثم لا تلبث هذه الحادثة أن تمضي، لتأتي أخرى، ويعيد ذلك الإعلام طرح الأسئلة نفسها، وكأنّه إزاء حالة جديدة، مع أنّها موجودة، تعيد إنتاج نفسها باستمرار.

مثلا في 24 ساعة بين 6 آذار/ مارس و7 آذار/ مارس الجاري، يمكن رصد أكثر من 12 عملية نوعية مؤثّرة، بعضها فردي، وذلك سوى أشكال المواجهة الشعبية المتنوعة. وفي الشهر الماضي وجدت كثافة مشابهة، وهكذا في كل شهر، ومع ذلك يعيد الإعلام، وأحيانا مثقفون وسياسيون، طرح الأسئلة نفسها، مما يعني عجزا عن رصد الحالة بما هي حالة مفتوحة ومستمرّة، لا بما هي حوادث متقطّعة.

جانب من أسباب العجز عن رصد الحالة الكفاحية بما يعطيها وزنها الحقيقي؛ تصوّر أشكال محدّدة للمواجهة، بما يحجب البصيرة عن رؤية ما لا تنطبق عليه صفات تلك الأشكال، والتي يمكن اختصارها في ثلاثة: انتفاصة واسعة، أو حرب ظاهرة تحاول مقاربة الاحتلال في أدواته العسكرية، أو عمليات ضخمة تنظّمها فصائل المقاومة.

يجاب على مثل هذه التصورات، بأن التاريخ الكفاحي للشعب الفلسطيني أوسع من اختزاله بهذه الأشكال، وبما يحتاج بسطا أوسع لا يتيحه المقام هنا، بيد أنه يمكن القول إنّ الشروط الموضوعية لانتفاضة بمعناها المعهود فلسطينيا غير متوفّر، وأهم هذه الشروط هو انتفاء السلطة المحلّية أو تحييدها أو انخراطها في المواجهة. وأما الحرب فهي شكل جديد نشأ مع تبلور بنية نظامية للمقاومة في غزة مرتبطة بسلطة محلية في ظرف تاريخي مستجدّ لم يتحقّق في الضفّة الغربية، بينما العمليات المنظّمة فسؤالها يحال على الفصائل وقدرتها على إعادة بناء نفسها وتكييفها مع الظروف القائمة، ولا يحال على الجماهير وعامّة الناس.

إنّ وجود سلطة محلية بالضرورة ينعكس على مستوى انخراط الجماهير في المواجهة، ففي حال كانت السلطة مؤمنة بقضية المقاومة، وتتحرك في بيئة متحرّرة من الوجود الفيزيائي للاحتلال فإنّ المقاومة قد تتحوّل إلى نظامية، مما يعني تحييدا واقعيّا لشرائح واسعة غير قادرة على الاندراج في هذه البنية النظامية وغير قادرة على العمل من خارجها، وهو الأمر المتحقّق في قطاع غزّة، حيث تمثّل حالة المقاومة نوعا من الإعداد على حافّة المواجهة، التي أخذت شكل الحروب مرّات عديدة.

وفي حين يختلف الظرف في الضفّة الغربية جوهريّا، من حيث السلطة ورؤيتها، ومن حيث حضور الاحتلال الفيزيائي وقدرته، فإنّ عامل السلطة المحلية في تحييد شرائح واسعة عن المواجهة حاصل بالضرورة، ولكن على نحو مختلف، وهو ما يفسح المجال، في لحظة تعبئة تاريخية بدأت مع حرب 2014 وتجدّدت مع معركة "سيف القدس" في 2021، لحالة كفاحية بسمات متنوّعة، تتّسم بقدر من الاستمرارية، لتكون مشهد المواجهة الوحيد بين فترات سكوت الحرب في غزّة. إلا أن مشهديّة الحرب أضخم، وأكثر استدعاء للتركيز الإعلامي، الذي يفتقد القدرة أو الإرادة، للتعامل مع هذه الحالة بالكيفية التي تستحقها.

يبدو من كثير من النقاشات السياسية، حتى مع مختصّين بالشأن الفلسطيني، نوع من القصور النظري، إما في استيعاب التاريخ الكفاحي للشعب الفلسطيني، أو الوعي الدقيق بالمعطيات القائمة في الواقع، وإلا كيف لا تمكن ملاحظة أن ما يجري في ساحة الضفّة الغربية؛ أكبر من أي وقت مضى منذ انتهاء انتفاضة الأقصى، وأكبر من حيث الكمّ على الأقلّ ممّا كان عليه الحال ما بين تأسيس السلطة وقيام انتفاضة الأقصى؟

لا يمكن والحالة هذه وصف الجماهير بالسلبية، لأنّها مثلا لم تعترض في فعاليات صاخبة على سياسات احتكار منظمة التحرير، فللجماهير، كما يتضح من فعلها التضحوي، اتجاهاتها الخاصة، وهي اتجاهات تفيد بإمكان البناء عليها واستثمارها. والمسار المنفتح من هذه الاتجاهات هو المسار الوحيد المتسم بالحركة في الواقع، وبالرغم من ذلك نجد من يصف الدعوة للكفّ عن المسارات السياسية غير المجدية للاستثمار في هذا المسار بالعدمية والجمود!

لا شكّ أن العقبات كثيرة في الواقع وضخمة، لكن معالجتها لا بالاستجابة لشروطها، بل بالعمل على تجاوزها أو التحايل عليها، وذلك بمعرفة كاملة للعقبات، بما في ذلك العقبات الذاتية، وتحديد صحيح للأولويات، وإخلاص كامل للمسؤولية التاريخية وما تتطلّبه من برامج وأدوات وتعزيز لصمود الناس واستثمار في الميدان الفعلي وأهله واستعداد للهبّات المتجدّدة، والتي قد تكون أقربها في رمضان الموافق لنيسان/ أبريل القادم.

المصدر: عربي21