عشية الانفجار كان جميع الفلسطينيين في مأزق كبير

سري سمور
28-06-2022
تحميل المادة بصيغة PDF
رأي
عشية الانفجار كان جميع الفلسطينيين في مأزق كبير
سري سمّور
 
مع أن "إسرائيل" أضمرت ووضعت مخططًا لعدوان واسع على الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، إلا أن الحالة الفلسطينية كانت لا تسر صديقًا، ووقع جميع الفلسطينيين في مأزق، ولم يكن هناك شيء يلوح في الأفق، للخروج من النفق المظلم، إلا انتظار حدث دراماتيكي ما قبله ليس كما بعده.
ودعونا نستعرض الأوضاع الفلسطينية عشية الانفجار الشامل، والذي يبدو أنه كان ضروريًّا لإنهاء حالة الانسداد والاستعصاء.
 
أزمات الفصائل والقوى الفلسطينية
• أولا:حركة فتح
حركة فتح التي شكلت عمود السلطة الفقري، بدأت تقلق بأن خيارها الذي اتخذته بالذهاب نحو اتفاق أوسلو ونهج المفاوضات مع الإسرائيليين برعاية وإشراف أو ضمانات أمريكية، لن يقود إلى دولة على حدود الرابع من حزيران 1967 ولا أقل من ذلك.
 
ومن جهة أخرى طرحت على مائدة النقاشات الأكاديمية والإعلامية، مسألة لطالما كانت إشكالية لدى مختلف حركات التحرر في العالم، وهي تحوّل أو انتقال الثورة وحركاتها إلى الدولة ومؤسساتها، وكان يضرب في هذا السياق بعض الأمثلة، عربيًّا جبهة التحرير الوطني في الجزائر، وعالميًّا فيدل كاسترو وجيفارا في كوبا، ونيلسون مانديلا وحزب المؤتمر الوطني في جنوب أفريقيا.
 
ذلك أن حركات التحرر وقادتها الثوريين في مرحلة النضال والثورة والمقاومة، يضطلعون بمهمة تكفلوا بها وهي تحقيق الحرية، بزوال المحتل كما في حالة كوبا والجزائر، أو زوال نظام ظالم عنصري كما في جنوب أفريقيا، ولكن الأزمة تبدأ حينما يجدون أنفسهم قد تحولوا إلى دولة مطلوب فيها بناء مؤسسات أو تسيير مؤسسات قائمة، والقيام بحاجات الناس صغيرها وكبيرها من توفير الغذاء والتعليم وفرص العمل، وكل ما يستجد من حاجات إنسانية دائمة وطارئة ومتجددة.
 
والثائر يجد نفسه في وضع لم يعتد عليه خلال حياته النضالية، لأن النضال يقوم على مواجهة وتضحية وصمود، والدولة تحتاج إدارة وتخطيط والأهم موارد مالية أو ثروات طبيعية تعتمد عليها الدولة.
 
ولكن الحالة الفلسطينية كانت معقدة أكثر من أية حالة نضالية في العالم؛ فأوسلو وما تلاه من اتفاقيات جزئية، لم يقد إلى دولة بل ولا إلى حكم ذاتي موسع له صلاحيات، والاحتلال كان بالمرصاد، فعمد إلى عدم الالتزام بحجج مختلفة، أو كانت كل حكومة تأتي تريد التنصل مما تعهدت به سابقتها.
 
وهنا وقعت حركة فتح في مشكلة كبيرة، فهي من جهة حافظت على خطاب لا يخلو من النفس الثوري، والتفاخر بالإرث النضالي، وأعطتها أحداث أو انتفاضة النفق (1996) وقودًا للقول بأن الحديث لا يدور فقط عن معارك ووقائع وصولات وجولات في زمن انتهى، بل هناك استعداد للعودة إلى مربع الثورة والنضال إذا اقتضى الأمر.
 
ومن جهة أخرى وجدت نفسها مسؤولة أمام الجمهور عن الأمور الحياتية بتفصيلاتها المختلفة، التي كان كادرها قد تسلمها، أي انتقلت إلى مربع الدولة ومؤسساتها قبل قيام الدولة فعليًّا على الأرض.
 
ومن هنا طرحت فكرة الاستعانة بما يسمى (تكنوقراط) أي كوادر مهنية وفنية، بدل الاعتماد على مناضلين سابقين أو حتى حاليين.
 
ولكن طرح تلك الفكرة أو الحل اصطدم بمشكلات عدة؛ منها أن مواصفات التكنوقراط المقترحة عمليًّا تستبعد الجانب الوطني والهدف المركزي المفترض وهو التخلص من الاحتلال، كما أن للحكم شهوة عند كل البشر، ولم يستسغ كادر الحركة الواسع فكرة دفع ثمن عبر سنين من المعاناة والسجون وغيرها، لتسليم الأمور في النهاية إلى من اختاروا الابتعاد عن الصدام مع الاحتلال، بل أحيانًا إلى مهادنته، أو التفاهم الضمني معه، ودرسوا وتخرجوا، ربما في جامعات وبلاد بعيدة عن البلاد ويريدون الآن أن يأخذوا الحكم على طبق من فضة!
 
وأيضًا فإن إجراءات الاحتلال ونواياه الظاهرة أو المبيتة وعدم قيام الدولة، يضع على الفكرة علامة استفهام كبيرة، وكأن المطلوب تجريد مناضلي الحركة من كل شيء؛ من الإنجاز الوطني والسياسي، ومن الإشراف والإدارة.
 
ومع ذلك بدأ الجمهور يواجه صعوبة في هضم أسلوب الإدارة ممن يعترف ويقر بنضالاته ويحترمها، وبين ضرورات ومستلزمات الإدارة بحد ذاتها.
 
تزامن هذا مع ظهور واتضاح ما يمكن لـ "إسرائيل" قبول التنازل عنه، أو التغاضي عنه بالأحرى، وهو حكم السكان لا حكم الأرض، فمع أن اتفاق أوسلو فيه عورات كثيرة جدًّا، ولكن فيه -لو التزمت به "إسرائيل"- بعض الإنجازات التي كان يمكن أن تعطي أملاً للجمهور، وتشعره بشيء من الراحة، وتكون من جهة أخرى حجة على المعارضة والخصم السياسي (خاصة حركة حماس) ولكن "إسرائيل" كان يهمها أن تأخذ ما تراه يخدم مصالحها (الأمنية خاصة) وتترك ما تريده أن يكون محل تفاوض طويل ونقاط ضعف وابتزاز ومساومة خبيثة، متكئة على قوة عسكرية باطشة، ودعم أمريكي مطلق، وعجز عربي كامل.
 
حرصت فتح بقيادتها للسلطة على أمور تصنف كمظاهر للسيادة، فمثلاً تم افتتاح مطار دولي في غزة، بحضور الرئيس الأمريكي بيل كلينتون، في منتصف كانون أول/ ديسمبر 1998، والذي حضر في تلك الزيارة جلسة للمجلس الوطني الفلسطيني في غزة، وتم فيها إلغاء بنود الميثاق الوطني الفلسطيني أو تعديلها (حوالي 26 مادة) بالإجماع تقريبًا.
 
السلطة وفتح اعتبرت -ضمنًا- أن حضور كلينتون افتتاح المطار يعطي إشارة أو ميزة خاصة، لقطع الطريق أمام "إسرائيل". سيتبين لاحقًا أن هذا لم يحصل، ولكن معروف أن المطارات الدولية من أبرز وأهم معالم سيادة الدول.
 
وما أن غادر كلينتون الأراضي الفلسطينية -بل قبل أن يبرد الكرسي الذي كان جالسًا عليه- والتي استقبل فيها بحفاوة رسمية وشعبية شنّ الأمريكان عملية عدوانية على العراق أطلقوا عليها اسم (ثعلب الصحراء) شملت قصفًا جويًّا على أهداف في بغداد وغيرها، ويبدو أنه تعمد بلؤم وخبث هذا التوقيت الاستفزازي، وهنا وجد كادر فتح من المستويات الشعبية ممن ليس لهم مواقع بارزة في السلطة أنفسهم يتظاهرون في الشوارع دعمًا للعراق وصدام حسين وضد كلينتون وأحرقت الأعلام الأمريكية التي كانت قد رفعت نسخ منها احتفاء بزيارة كلينتون. هذا المشهد أو الموقف السوريالي يعطي نموذجًا على الإشكالية (الثورة والدولة) من زاوية أخرى خطرة، وهي أن المطلوب للحصول على الاعتراف الأمريكي هو قبول العدوان على الأمة بل حتى دعمه، وإلا فتهمة الإرهاب ودعم التطرف وغير ذلك جاهزة!
 
وعلى أية حال حتى لو نظمت مظاهرات داعمة لثعلب الصحراء -مع أن هذا محال- لما مارس كلينتون أية ضغوط على الكيان ولو حتى في قضايا صغيرة، فقد كان للتو يعاني من تبعات ما عرف بفضيحة (مونيكا لوينسكي) والتي استغلها اللوبي اليهودي في بلاد العم سام أيما استغلال.
 
ومع أن ولاية السلطة حسب الاتفاقيات والتفاهمات الموقعة، تشمل مناطق في الضفة الغربية وقطاع غزة ولكن لم تسمح "إسرائيل" بالتواصل الحر بل حتى الواقع تحت الإشراف الأمني من بعيد، وبقي التنقل بين الضفة والقطاع عبر تصاريح تعطى لحالات محدودة، عبر معبر بيت حانون-إيرز، وكان الإعلام يتداول أفكارًا مختلفة مثل بناء جسر معلق بتمويل أجنبي أو نفق تحت الأرض بإشراف إسرائيلي غير ظاهر للمسافرين، أو قطار سريع.
 
وفي حقيقة الأمر لم يكن المال هو العائق فثمة دول كثيرة كان لديها استعداد لتمويل أي من هذه المشروعات المقترحة شريطة موافقة السلطات الإسرائيلية التي بالطبع رفضت لأنها معنية بإبقاء حالة فصل واضحة بين المنطقتين بدعاوى المخاوف الأمنية، والممر الآمن (هكذا كان يسمى) لو تم لكان من الأهمية بمكان أكثر من المطار أو يماثله في الأهمية، ولكن "إسرائيل" لم تسمح به مع قدرتها على وقف تشغيله مثلما فعلت لاحقًا بالمطار، ذلك لأنها تريد تمزيق الفلسطينيين اجتماعيًّا ومؤسساتيًّا.
 
واستمر الاستيطان والتهويد، خاصة في القدس والمناطق المصنفة (ج-C) بالتزامن مع كل مظاهر ولاية السلطة على السكان خاصة في المناطق المصنفة (أ-A) من الأمن والتعليم والصحة والزراعة وصولاً إلى لوحات تسجيل السيارات، وكأن "إسرائيل" تكرر رسالتها للسلطة: حكم على السكان لا على الأرض.
 
وهذا يعني ابتعاد تحقيق حلم الدولة المستقلة أكثر فأكثر، وجعل السقف السياسي خاضعًا لتجاذبات الأحزاب ومراكز القوى الإسرائيلية، والتي ديدنها المزايدة على إيقاع الأذى بالإنسان الفلسطيني وأرضه وحريته وكرامته.
 
عودة النشاط للتنظيم بأمر من الختيار
مع نهاية حقبة التسعينيات ومطلع الألفية الجديدة، بدأ يطفو على السطح نقاش داخل أروقة حركة فتح بأنها تدفع من رصيدها الشعبي أكلاف تصرفات تقوم بها السلطة لا شأن للكادر الفتحاوي بها، ولو كان كثير من الكادر من موظفي السلطة من مختلف المستويات، وأن نتائج انتخابات الجامعات الكبيرة التي سبق وأن تحدثت عنها، هي بسبب هذه المسألة، فقدّم بعض من هؤلاء ومنهم حتى أعضاء في المجلس التشريعي خطابًا نقديًّا فيه نوع من الحدة في مفرداته، ويتحدى في ذات الوقت أمريكا و"إسرائيل" لدرجة استدعاء عبارات من مرحلة بواكير الانطلاقة، والصدح بها علنًا في خطابات جماهيرية في مناسبات مختلفة.
 
ولوحظ -ولو بحذر- عودة التنظيم للعمل وتنشيط اللجان عبر انتخابات ولجان جديدة أو تفعيل اللجان القائمة، وتخريج دورات مختلفة عبر مخيمات صيفية أو غيرها ذات طابع تنظيمي شعبي، والتفاعل من جديد مع المجتمع بالصفة التنظيمية الحركية لا الرسمية.
 
ومن الواضح أن هذا التحرك نحو تفعيل التنظيم ومحاولة إيجاد مساحة عمل له تأخذ مسافة ما، من السلطة الرسمية جاء بأمر من الرئيس عرفات (الختيار كما يعرف داخل فتح وشعبيًّا) ذلك أن الرجل عبر وسائل أو رسائل أو كليهما (هذا هو الأرجح) أدرك مع وصول باراك إلى الحكم أن المفاوضات ذاهبة نحو طريق مسدود لا محالة، وأنه لا بد من إيجاد بديل معقول يتواءم مع حالة الغليان والتذمر الشعبي، و"إسرائيل" بطبيعة الحال كانت تراقب وترصد ذلك وتبني مخططاتها وفق التوجهات الجديدة غير المعلنة من الختيار.
 
ولكن ذلك لم ينه المأزق ولم يتغلب على الواقع الصعب المحتاج إلى هزة كبيرة أو انفجار؛ فهناك ما يشبه الجمود السياسي وعدم تقدم يذكر في المفاوضات، والأرض تضيع بالاستيطان والتهويد، وتنصل إسرائيلي دائم مما تم الاتفاق عليه، وحالة نقد تتوسع من أمور مالية وسلوكية وإدارية، وخطاب متصاعد من الخصم السياسي، وأيضًا تعامل عربي يتسم باللامبالاة والسلبية وكأن القضية قد حلّت والخلاف حول تفصيلات صغيرة لا أهمية لها وليس حول قضايا كبرى ومصيرية.
 
والخروج من المأزق بات طلبًا ملحًا فتحاويًّا وشعبيًّا أيضًا، والمراهنة على أي طرف دولي أو عربي ثبت أنها غير مجدية، والانتظار مراهنة على عامل الوقت والزمن يعني مزيدًا من الضغط واشتداد الأزمة التي تتولد عنها أزمات متتالية، فالحل فقط هو تفجير الأوضاع، خاصة بعد قمة كامب ديفيد2 التي سأتحدث عنها لاحقًا.
هذا حال حركة فتح، فماذا عن المعارضة وعلى رأسها حركة حماس؟سأتحدث عن الموضوع في المقال القادم إن شاء الله. 
 
• المواد المنشورة في موقع مركز القدس للدراسات تعبّر عن رأي أصحابها وقد لا تعبّر بالضرورة عن رأي المركز.