على هامش انفجار انتفاضة الأقصى...مناقشة تباينات وتناقضات داخلية

سري سمور
11-08-2022
تحميل المادة بصيغة PDF

ليس الهدف من سلسلة المقالات السابقة سرد أحداث ووقائع فلسطينية، فهناك إصدارات متخصصة-لا سيما عن الفترات التي تحدثت عنها- تؤرخ للخبر باليوم والتاريخ، وأحيانًا في ساعة وقوعه، لمن أراد الرجوع إليها، ولكن أنا في حديث مباشر بعد وأثناء ذكر أي حدث أراه مهما ومؤثّرًا في الساحة والقضية الفلسطينية، أشير إلى استخلاصات لعبر، أو استنتاجات أو ملاحظات أو انطباعات أو أفكار يبنى عليها أو بدهيات أراها تغيب عن الأذهان، أو تصحيحًا لمعلومات متداولة بائن خطؤها، أشير إلى ذلك بعبارات قصيرة أو طويلة أو بين السطور.

والحديث عن انتفاضة الأقصى طويل ومتشعب؛ وهي من الأحداث المفصلية التي لا نزال نعيش تبعاتها وتداعياتها على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية وغيرها؛ وانتفاضة الأقصى هي أشد مراحل المواجهة حتى اللحظة استنادًا إلى طولها (2000 - 2005 كما يؤرخ لنهايتها) وعنفوانها وأدواتها، وعدد الشهداء والجرحى والأسرى والدمار في الممتلكات، والحيز الجغرافي، وبالتالي فإن الحديث عنها بكل تفصيلاتها ليس بالأمر السهل، ولا داعي أن أخوض في كل التفصيلات، ويكفينا ما يهم فكرة هذه السلسلة (المقاومة في الضفة الغربية تحديدًا، والعوامل المؤثرة بالنظر إلى الماضي وفهم الحاضر ومحاولة استشراف المستقبل) والعبر والدروس المستفادة التي تجنبنا الوقوع في ذات الأخطاء، والبناء على الإنجازات ولو كانت متواضعة.

مسار التسوية نقطة التناقض المستعصية

ولكن قبل الحديث عن انتفاضة الأقصى، فهناك أمور مهمة يجب أن نناقشها ولنتخيل أنفسنا الآن قد عشنا التجربة وعاد بنا الزمان إلى غداة اندلاعها وتفجرها؛ ففي مقالات سابقة استعرضت الأحوال قبيل اندلاعها من أكثر من زاوية، وأكثر الملاحظات على الفترة الفاصلة ما بين توقيع اتفاق إعلان المبادئ (أوسلو) وما تلاه من اتفاقيات لتنفيذه (اتفاق إعلان المبادئ كان طابعه عموميات تحتاج كل كلمة منه إلى تفسير لبلورة وإبرام صيغ تنفيذية) واندلاع انتفاضة الأقصى هي أنه حصل انقسام أو تباين أو تناقض برامجي داخلي فلسطيني، أخذ هذه المرة طابعًا رسميًّا، بين فريقين رأى أحدهما تجميد أو ترك خيار المقاومة المسلحة، وفريق آخر رفض ذلك وظل يمارسها ما أمكنه، واصطدم مع الفريق الأول وإن بقي الصدام محدودًا في مجاله الزماني والمكاني وأدواته وحجمه وزخمه حتى اندلاع انتفاضة الأقصى. وعليه فإن التسوية ومسار التفاوض نقطة الخلاف أو التباين أو التناقض المركزية في الساحة الفلسطينية، وما تمخض عنها هو تفصيلات أو تفاعلات، لا شك أنها تتأثر بلاعبين مختلفين في نواياهم وأهدافهم.

المفاوضات ضرورة ولكن...

في مقال نشر أواخر تموز/ يوليو 2022 الماضي بعنوان "فلسطين في جدلية موازين القوى والأخطاء الذاتية" يقول الكاتب والباحث الفلسطيني ساري عرابي : "وإذا كنّا إزاء انسداد تاريخيّ، فهو خلاصة مسار، ولا مسار يمكن تحميله المسؤولية عن هذا الانسداد إلا مسار التسوية، الذي أخذت تدفع نحوه قيادة منظمة التحرير في النصف الأوّل من سبعينيات القرن الماضي، وتوّجته بتوقيع اتفاقية أوسلو بعد عشرين سنة...".

ونحن إذ وصلنا إلى ما يسميه أو يصفه الكاتب بـ "الانسداد التاريخي" للقضية أو الحالة الفلسطينية اليوم، ينبغي أن نناقش فكرة المفاوضات والتسوية بعيدًا عن الانفعال أو الاتهام، بكونها أحد أسباب الخلاف والتناقض في الساحة الفلسطينية، واستنزفت طاقات الشعب الفلسطيني (من يؤيدها جزئيًّا أو كليًّا ومن يرفضها من حيث المبدأ أو من حيث الكيفية والحيثيات).

تقوم الفكرة على أنه ما من شعب وقع تحت الاحتلال ونهضت من داخله قوى أو مجموعات منظمة تقاوم وترفض وتدافع القوة المحتلة، إلا وكان هناك عملية مفاوضات، مباشرة أو غير مباشرة عبر وسطاء أو بالجمع بين الطريقتين، ومساع لتحقيق تسوية معينة؛ ألم يفاوض ثوار فيتنام الأمريكان؟ ألم يفاوض ثوار الجزائر فرنسا؟ ألم يفاوض الجيش الجمهوري الإيرلندي حكومة لندن؟ ومؤخرًا ألم تفاوض حركة طالبان وهي حركة مؤدلجة تماما الإدارة الأمريكية؟ هي أمثلة كثيرة في العصر الحديث وحتى المعاصر، وفي التاريخ أمثلة كثيرة؛ فنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- عقد صلح الحديبية مع قريش التي مثلها سهيل بن عمرو بعد تفاوض، وحتى أن أحد أكبر وأبرز الصحابة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لم يكن راضيًا عن ذلك، ورفض علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه- محو "محمد رسول الله" في وثيقة الاتفاق، بعد اعتراض سهيل عليها، فقام النبي -صلى الله عليه وسلم-بمحوها بيده الشريفة. بالمناسبة تحدث الرئيس عرفات عن صلح الحديبية وموقف عمر وعلي، بعد توقيع اتفاق أوسلو في لقاءات واجتماعات داخل وخارج فلسطين (أبرزها حديثه مع مسلمين من جنوب أفريقيا)، مما أثار زوبعة إعلامية إسرائيلية، على اعتبار أن عرفات يريد تدمير "إسرائيل" وليس التصالح معها، وأتذكر تعليقًا سمعته من الإذاعة الإسرائيلية الناطقة بالعربية، لا أدري كيف أصفه، قالت فيه المذيعة "يذكر بأن محمدًا كان قد احتل مكة بعد سنة من توقيع صلح الحديبية!".

وصلاح الدين الأيوبي وقع مع ريتشارد قلب الأسد قائد حملة الفرنجة الكبيرة بعد تحرير القدس اتفاقًا (صلح الرملة) قضى ببقاء الشريط الساحلي من صور إلى يافا تحت سيطرة الصليبيين، بل خرجت عكا من حكم صلاح الدين وبقيت بعد ذلك قرنًا حتى تم تحريرها.

ولا يتسع المجال لسرد كل وقائع المفاوضات بين دول متحاربة، أو بين منظمات مقاومة لدول تحتل بلادها، سواء أكان الاحتلال استيطانيًّا أو كان توسعيًّا بأهداف النفوذ ونهب الثروات أو دعم نظام حكم بمواصفات معينة. فليست الحالة الفلسطينية-مبدئيًّا- شاذة في هذا الشأن، كي يكون التفاوض بحد ذاته أمرًا مرفوضًا.

ومن جهة أخرى فإن المفاوضات عملية متحركة ومرحلية قوامها (خذ وطالب) فأخذ شيء بالتفاوض لا يعني التوقف والجمود النهائي عنده من حيث الفكرة.

وعبر تاريخ الصراع وقبل إنشاء الكيان ووقوع النكبة الكبرى، كان هناك من الجانب العربي والفلسطيني، فريق يؤيد التفاوض للتوصل إلى تسوية لإنقاذ ما يمكن من الأرض، ومع تطورات الصراع واختلال موازين القوى الدولية والإقليمية، طرح هذا الفريق وجهة النظر التي تقول: إما أن ننقذ ما يمكن إنقاذه بالمفاوضات أو سنجد أنفسنا خارج التاريخ والجغرافية.

هذا باختصار ملخص مبدأ التسوية والمفاوضات، فأين هي المشكلة في الساحة الفلسطينية، بحيث تتحول فكرة التسوية إلى نقطة تناقض تقود إلى صراع داخلي محزن يستنزف الفلسطينيين جميعا؟

تسخين الطاولة

تفاوض ممثلون عن تنظيمات مقاومة في بقاع مختلفة من العالم، مع من يحتلون بلادهم، وفي ذات الوقت كان المقاومون في الميدان يضربون قوات الاحتلال ومصالحه، ولكن لتسخين طاولة المفاوضات، وفق مبدأ بل بدهية هي أن قوة الاحتلال يجب أن تتعرض لضغط ميداني شديد كي تقبل بتوقيع تنازلات ولو بالحد الأدنى، وأصلاً لا شيء يجبر الغزاة على قبول الجلوس فوق كرسي التفاوض سوى الضغط الميداني والشعور الحقيقي بأنهم يخسرون ويتعرضون لاستنزاف.

ويجدر بالذكر أنه ما من قوة احتلال إلا وكانت الأقوى عسكريًّا والأغنى ماليًّا والمتفوقة علميًّا وتقنيًّا (ربما الاستثناء هو الفرنجة في حالتنا لأنهم مجموعات أشبه بالحيوانات الضالة وليس لديهم إلا قوة القتال كما أشار إلى ذلك مؤرخ الحروب الصليبية المشهور أسامة بن منقذ الشيزري) فلو كانت القوة أو الدولة الممارسة للاحتلال والبغي والسلب والنهب ضعيفة لما كان هناك قضية احتلال من أساسه، فمن الطبيعي أن تكون القوة المحتلة متفوقة عسكريًّا، ولكن في تفوقها نقاط ضعف تضغط عليها المقاومة، ولا يشذ بالطبع عن ذلك الاحتلال الصهيوني، فلو كانت "إسرائيل" ضعيفة عسكريًّا لما بقيت حتى الآن، ولما كان هناك داع لهذا النقاش أصلاً.

أما التفاوض دون امتلاك وسائل ضغط مادية، وخاصة في المجال العسكري، فيجعل من القوة المحتلة صاحبة اليد العليا التي تحيل المفاوضات إلى ما يشبه إملاء الشروط، وممارسة الابتزاز، والتصرف باستعلاء وفوقية مقرفة.

وخيار التسوية الذي توّج بأوسلو وملحقاته وتوابعه جرى توقيعه في ظرف عربي وفلسطيني صعب جدًّا حدّ البؤس، دون أوراق قوة كبيرة ضاغطة، عدا ورقة انتفاضة الحجارة التي بدأت بوضوح تتحول إلى عمل عسكري منظم مقاوم، ولكن لم يكن هناك استغلال لهذه الورقة، مع انعدام التنسيق مع من يمسك بها، بل إن الاتفاق -ولو أنه كان مرحليًّا- كبّل خيار المقاومة، وأحال الخلاف الذي كان طابعه اجتهاديًّا بين الفرقاء في الساحة الفلسطينية (التفاوض مع المقاومة وقبول التسوية، أم رفض المفاوضات كلّيًّا والمقاومة بلا توقف حتى تحرير كل الأرض) إلى تناقض برامجي ومنهجي من الناحية العملية، يحمل بذور التصادم، وصار الخلاف والتناقض الظاهر الذي يطفو على سطح النقاش أو الحوار داخليًّا فلسطينيًّا، أشغل الناس عن عنوان التناقض الذي يفترض أنه جامع لكل المكونات الفلسطينية بكافة تلاوينها الفكرية والسياسية، أي المشروع والاحتلال الصهيوني.

الخلافات داخل الساحة الفلسطينية حول فكرة ومبدأ التسوية والمفاوضات، ليست جديدة، بل تعود إلى زمن الانتداب البريطاني، ومع تطور الأوضاع واحتلال معظم الأراضي الفلسطينية في 1948 وهزيمة 1967 تعزز مبدأ قبول التسوية والحلول المرحلية، مستندًا إلى فكرة أو شغف بإقامة الدولة الفلسطينية (الفكر الدولاني أو الدولتي بتعبير يزيد صايغ)، قبل إنجاز التحرير. هنا صار الخلاف أيهما العربة وأيهما الحصان.

صحيح أن النظام العربي الرسمي خاصة بعد هزيمة 67 صار علنًا يجنح ويدفع باتجاهه، ويمارس الضغط الناعم والخشن على م.ت.ف كي تنخرط في هذا المسار، ناهيك عن الضغوط والتدخلات الدولية الشرسة، ولكن هناك عامل ذاتي داخلي ساهم بجعل هذا المسار هو الخيار الوحيد الأوحد.

انتفاضة الأقصى هل كانت إعلان طلاق مع التسوية

وبعد هذا العرض الموجز-ولو بدا طويلاً- هل كانت انتفاضة الأقصى، خاصة بعد تيقن الرئيس عرفات أن إسرائيل لا تريد السلام، والمفاوضات بالنسبة لها عملية مبرمجة خبيثة لإضاعة الوقت لنهب وتهويد الأرض والتمدد في ساحات الأمة العربية والإسلامية، إعلان الانفصال والطلاق البائن مع المسار؟ أم هي فرصة لتعزيز أوراق التفاوض والضغط؟ أم أن المخطط الإسرائيلي كان يسير ويدفع الفلسطينيين إلى الزاوية بعدوانه المخطط والمنظم، ولم يكن الجانب الفلسطيني إلا مدافعًا عن نفسه فقط؟

أسئلة مهمة هي وأمور أخرى ينبغي مناقشتها في مقالات لاحقة إن شاء الله تعالى.

  • المواد المنشورة في موقع مركز القدس للدراسات تعبّر عن آراء كتابها وقد لا تعبّر بالضرورة عن رأي المركز.