عن أهمية شيرين أبو عاقلة!
في العمق
عن أهمية شيرين أبو عاقلة!
ساري عرابي
يمكن قول الكثير في الصفات الشخصية للصحفية مراسلة قناة الجزيرة، شيرين أبو عاقلة، من الصدق واللطف ومشاركتها أبناء شعبها بعض صور نضالهم والودّ الذي تثيره في الأجواء التي تحضر فيها سواء كانت مهنية أم اجتماعية، بيد أنّ آلاف المشيعيين وأضعافهم من المتابعين والمهتمّين لم يكونوا على معرفة شخصيّة بها، وإن كان أكثرهم لم يقلّوا حزناً واهتماماً عمن عرف شيرين شخصيّاً.
من أين جاء هذا الاهتمام الغامر بحادثة اغتيال الاحتلال المتعمّد لشيرين؟
كل ما يمكن أن يقال عن كونها مراسلة لقناة عربية إخبارية هي الأكبر والأهمّ، وعن كثافة حضورها على شاشة هذه القناة طوال 25 عاماً، وعن الصدمة في تعمّد الاحتلال اغتيالها.. كلّ ذلك صحيح، لكنه وحده لا يفسّر هذا الاهتمام البالغ بهذه الحادثة، ولا سيما أنّ الحضور الفلسطيني في الحدث، هو أصل الاهتمام ومنبعه وسبب استقطاب الأنظار وتركيزها عليه.
بدأت المعرفة الجدّية والأوسع بشيرين أبو عاقلة، وبقية طاقم الجزيرة، أثناء تغطية الملحمة الفلسطينية الأكبر داخل الأرض المحتلة، في تاريخ الكفاح الفلسطيني، أي الانتفاضة الفلسطينية الثانية، التي بدأت أحداثها في 28 أيلول/ سبتمبر 2000، فقد كانت الحدث الفلسطيني الأبرز والأهمّ والأكثر ملحمية وطولاً، من بعد انتهاء الانتفاضة الفلسطينية الأولى، وبالضرورة من بعد التحاق شيرين أبو عاقلة المبكّر بقناة الجزيرة عام 1997.
يعني ذلك أنّ الفلسطينيين والعرب تعرّفوا إلى شيرين أبو عاقلة من بوابة الكفاح الفلسطيني الملحمي، بالرغم من أنّها لم تحمل بندقية، ولم تنتسب إلى فصيل فلسطيني مقاوم، ولكن كانت حاضرة في قلب الحدث، الذي يفيض بالعنف والخطورة تنقل الصورة الحربية، لا من موقع المحايد البارد، بل من موقع الفلسطيني، بكل ما في كلمة فلسطيني من معنى ودلالات في حدث من هذا النوع.
تشكّل شيرين أبو عاقلة بهذا الاعتبار جزءاً مهمّاً لا من ذاكرة الفلسطينيين والعرب فحسب، بل من وعيهم، تأسيساً على تلك اللحظة الكفاحية، التي امتلكت طاقة هائلة من التعبئة والإلهام والتثقيف السياسي، في وقت من العنفوان الفلسطيني بالغ الفرادة والاستثنائية والعطاء، ومن الانسداد السياسي العربيّ بفعل الاستبداد وتجريف الحياة السياسة والوطنية، لتحتلّ القضية الفلسطينية ساعتها عامل التثقيف السياسي الأهمّ، كما كانت دائماً، باستثناء زمن الثورات العربية المتأخّر، على مستوى المجال العربيّ كلّه من أقصى شرقه إلى أقصى غربه.
الاهتمام بشيرين هو إعلان عن استمرار الاهتمام بالقضية الفلسطينية، وتعبير فطري عن موقعها العميق في الوجدان العربي، بما تمثّله من نموذج ضمنيّ للعرب، ومن مفتاح وعي عربيّ متجدد طوال سنوات النكبة الفلسطينية، وعن فعل الكفاح الفلسطيني في صياغة الشخصية العربية على امتداد هذه الجغرافيا، بالرغم من كل ما جرى من وقائع وأحداث في المجال العربي، كان أخطرها السعي المحموم في العقد الأخير لعزل الجماهير العربية عن القضية الفلسطينية، وإعادة صياغة الوعي العربيّ إزاءها، بما يقضي بالتخلّي عنها وعن أهلها والتحالف مع الإسرائيلي، وصولاً إلى خطابات لم يكن لفلسطيني أو عربيّ أن يتخيّلها في أيّ وقت سابق من عمر هذا الصراع، كتبنّي السرديّة الصهيونية، ونفي المكانة الدينية للمسجد الأقصى، وتبرئة الاحتلال من عدوانه، وتركيز سهام الإدانة والشيطنة على الضحية التي هي الشعب الفلسطيني!
كثيرة هي الخطابات التي أثارت الغبار حول القضية الفلسطينية، ضمن مراحل متدرّجة، من توقيع اتفاقية أوسلو التي فتحت الباب أساساً للتطبيع العربيّ، إلى ما يسمى بالانقسام الفلسطيني في العام 2007، مروراً بمرحلة الثورات العربية وما صاحبها من التباسات بخصوص القضية الفلسطينية، انتهاء بمرحلة تحالف إسرائيليّ/ عربيّ رسميّ، مصاحب بتلك الماكينة الضخمة المشتغلة على غسل الوعي العربيّ، لكنّ معركة "سيف القدس" (أيار/ مايو 2021)، ثم حادثة اغتيال شيرين وتشييعها، قد بينتا أن فلسطين قضية ومفتاح وعي ومساحة ذاكرة، أعمق من تلك السياسات كلّها، دون نفي خطورة تلك السياسات وأثرها.
إنّ الاهتمام بشيرين لم ينجم عن الإيمان بالقضية الفلسطينية مجرّدة من الفعل الفلسطيني، أي أنّ قيمة القضية الفلسطينية لا تتأتّى من حيث قيم الحقّ والعدالة في بعدها التجريدي، فهذه قيم بمجرّدها قابلة للتحريف والتجاوز والتعمية والتغطية والخلط، ولكنها قيم بالغة الفاعلية طالما وُجِد حرّاس لها يحافظون على مضمونها الصحيح والحقيقي والأصيل من التحريف.
هؤلاء الحرّاس في الحالة الفلسطينية يفعلون ذلك بدمائهم، بالتجدّد المستمرّ والانبعاث الدائم، وهم بذلك لا يدافعون عن العرب السيادة والهيمنة الصهيونية فحسب، ولا يدافعون عن مقدّسات المسلمين في فلسطين فحسب، بل يجدّدون الوعي العربيّ باستمرار، ويحفظون العقل العربيّ من الاغتيال، والضمير العربيّ من الفساد، والذاكرة العربية من المحو، والشخصية العربية من التشويه.
لقد كان من مفارقات التاريخ البالغة، أنّ شيرين عُرِفت بانتفاضة الأقصى التي كان من أهمّ تعبيراتها مقاومة مخيم جنين، وبعد عشرين عاماً من ملحمة مخيم جنين الخالدة في تلك الانتفاضة، وبعد 74 عاماً من النكبة الفلسطينية، يغتالها العدوّ وهي تغطي اقتحاماً له للمخيّم، في واحدة من انبعاثات هذا المخيم الكفاحية المتجدّدة.
لم يستسلم الفلسطينيون بعد 74 عاماً، ولم يستقرّ المشروع الصهيوني، وفي قلب هذه الصورة يعبّر مخيّم جنين، بكونه واحداً من تعبيرات النكبة، عن صمود الفلسطينيين المتجدّد. كما أنّ شيرين في عملها الصحفي لم تنسلخ عن نضالات شعبها، حتّى وهي في نعشها صارت من تعبيرات هذا النضال. فرغماً عن الاحتلال الذي حشد شرطته وقوّاته لتقليص جنازتها ومنع الرموز الفلسطينية عنها، عبّرت هذه الجنازة في "باب الخليل" بالقدس عن الحقيقة الفلسطينية والعربية للمدينة المقدسة.
لقد كانت الجنازة تميّز بوضوح بين أصحاب الحقّ الراسخين المتجذّرين في مدينتهم، وبين الطارئين عليها المسكونين بالقلق الوجوديّ فيها المكتنزين وعياً عميقاً بحتمية الرحيل عنها، وهو ما لم يزل يقوله ساستهم باستمرار لا في كشف عن تشاؤم تاريخي فحسب، بل أيضاً عن إدراك لهشاشة العناصر الذاتية للمشروع الصهيوني في فلسطين.
أهمية شيرين لا من أهمية القضية الفلسطينية فحسب، بل من أهمية كفاح أهلها ونضالهم.