عن الأخلاق الغربية في الحرب الأوكرانية!
عن الأخلاق الغربية في الحرب الأوكرانية!
ساري عرابي
لم تكن التعبيرات الغربية، لكثرتها، من سياسيين وإعلاميين ومثقفين، عابرة، وهي تُظهِر استياءها من مسّ نار الحرب هذه المرّة أوروبيين، وخلقها ظاهرة لجوء أوروبية، وذلك في سياق مقارنة الإنسان الأوروبي بغيره، مما يعني أنّ الأوروبي لا يستحق أن تطحنه الحرب التي تبدو في هذه التعبيرات، وكأنها وُجِدت أصلاً لتطحن غير الأوروبيين، أو كأن العالم خارج الحيز الغربي بشقيه القديم والجديد، ساحة لتفريغ فائض القوّة الغربية، أو لمعالجة التناقضات الغربية الداخلية بتصديرها إلى الخارج، وأنّ هذا الخارج أجناس غير قابلة للحاق بالإنسان الغربي!
ثمّة الكثير الذي يمكن استدعاؤه في التراث الثقافي الغربي القديم والجديد، ومنه الفلسفي، في طريقة فهم الغربي للعالم، وما ينبني عليه من وعي بالذات والآخر، مما يملك قدرًا من الطاقة التفسيرية لهذه النزعة العنصرية المتجلية في تلك التعبيرات المتكاثرة، بيد أنّه يكفي من هذه المقارنات الغربية التي تفيض بالدهشة والاستنكار، الوقوف على غلبة نزعة الوعي الزائف بالتفوّق على الوعي التاريخي الحقيقي، إلى درجة نسيان الغربي تاريخه القريب، وهو ما يستدعي الدهشة في الحقيقة، إذ ماذا تساوي كل النزاعات في الشرق الأوسط مجتمعة بالنسبة لأيّ من الحربين "العالميتين" اللتين طحن فيهما الغربيون بعضهم؟ أمّا نزاعات الشرق الأوسط فهي في جانب أصيل منها انعكاس للتفوق الغربي المادي، بما في ذلك تصدير المسألة اليهودية إلى بلادنا، وإعادة هندسة بلادنا العربية لتتكيف مع هذا التصدير!
إنّ جانبًا تأسيسيًّا من هذا الوعي الزائف، انبنى أصلاً على الحربين المذكورتين، اللتين انتهى بهما الأمر، إلى تنظيم التناقضات الغربية بتصديرها إلى الخارج، للحفاظ على المجال الغربي آمنًا ومتصالحًا، وهو ما كان يستدعي بدوره تكريس الهيمنة الغربية على العالم، الأمر الذي يفسّر على نحو ما، هذه المقارنات المحمومة بين بوتين وهتلر، لإدانة الأوّل، كونه أعاد الحرب إلى ساحتها التاريخية، ومصدّرتها إلى العالم، ليختبئ خلف المقارنة المصرّح بها بين بوتين وهتلر؛ ما قد يكون الحقيقة، من كون التناقضات الغربية الداخلية، وصعود اليمين في قارة صغيرة تتكاثر فيها الدول، وتخلخل الهيمنة الغربية على العالم، احتاجت هذه المرّة ما يوحّد الغربيين، خلف الولايات المتحدة، لتكرّس هيمنتها على العالم.
قد يؤول بنا هذا القول، إلى ضرب من تحليل الدوافع العميقة الكامنة خلف الحدث الكبير، بيد أننا لا نرغب في الذهاب بذلك كثيرًا، سوى بالقدر الذي يمكن فيه القول، إنّه حتى تضامن الغربي مع الغربي، لا يخلو من كثير من الكَدَر، طالما احتاجت الولايات المتحدة، إلى خلق ساحة حرب طاحنة، في قلب أوروبا، تدور رحاها على جلود الأوكرانيين وعظامهم، مما يعني أنّ المقولة الأخلاقية، والحالة هذه، مجرد سلاح آخر، يصطف إلى جانب القنابل النووية القادرة على إهلاك البشرية وتدمير الكوكب، وقد سبق للولايات المتحدة اختبارها على البشر والشجر!
ينعكس عن عنصرية السياسات المادية الغربية؛ الفزع من كون التاريخ قد لا ينتهي بهم كما توهموا بعد انتهاء الحرب الباردة، فيعيدون توظيف كلّ ما في الكوكب في الصراع مع الذي يحبّون وصفه الآن بـ "هتلر الجديد"، فالرياضة والفن والأكاديميا والتقنية والاقتصاد؛ كلّ ذلك لا ينفكّ عن سياسات مواجهة "هتلر الجديد"، والسياسة الغربية لا تفعل، والحالة هذه، أكثر من التأكيد على هيمنتها على كلّ شيء، أو إرادتها العارمة في إغلاق المنافذ التي أخذت فيها هيمنتها بالتسرب، ومن خلالها لغيرها بالتمدّد. فما هو محرّم على المستضعفين، كالمقاطعة الرياضية والأكاديمية والاقتصادية للكيان الصهيوني، حلال سريع التوظيف والاستخدام في السياسات الغربية مع أعدائها الذين تصنعهم.
دون نفي العنصر الثقافي في ذلك كلّه، فإنّ الأساس الصلب للسياسات العنصرية التي تساهم في تشكيل الشخصية الغربية، هو أخلاق المصلحة كما تعرّفها الدولة الحديثة، وسيولة القيمة ما بعد الحداثية، وبعد استدعاء العنصر الثقافي، والتفوق المادي للدولة الغربية، يمكن حينئذ للسياسات الغربية إعادة تعريف الأخلاق، وتوظيفها، دون تردد، وبسرعة كاسحة.
المشكلة إزاء ذلك، في حالة التعبية الثقافية والسياسية في مجالنا العربي والإسلامي، حينما جرى التعامل لدى أوساط واسعة، مع الدعاية الأخلاقية الغربية بوصفها دعاية صادقة تعبّر عن ذروة الأخلاق البشرية، وأنه ليس بالإمكان إلا السعي للحاق بما أمكن من "التطوّر الغربي"، بما يتبعه ذلك من تسليم نهائيّ بالتفوق السياسي والعسكري الغربي، وما يستدعيه من تبعية!
حتّى في النقد المستجدّ لزيف الدعاية الغربية، وطريقتها في توظيف الأخلاق، تجري مقارنات مع مظاهر العنصرية في بلادنا، تستبطن تفوّقًا غربيًّا، لأنّها لا تلاحظ السياقات العامّة، من كون ما يغلب من العنصرية في بلادنا هو مسلكي غير ممأسس ثقافيًّا، وفي كثير منه نتاج دولة تشكّلت في سياق استعماري، وسياسات رسمية لأنظمة تابعة لذلك السياق. وفي مراحل الانفساح التي لاحظناها، عبّرت الأمّة عن نفسها بالمسارعة في الخير، على مستوى جماهيرها وعامتهم، بالتبرع بالنفس والمال والانشغال المهموم بالآخرين، بما لا نرى مثله في الأمم التي استغرقتها الماديات الحديثة.
لا ينفي ذلك بالتأكيد الغرائز القبلية الموجودة في البشر من حيث هم بشر، والقابلة للاستثارة بما يبعث على العنصرية بحسب الظروف المحيطة، لكن ذلك لا ينبغي أن يحول دون رؤية حقيقة هذه الـظروف المحيطة بنا، ومن صنعها وكيف صنعت، وإعادة النظر في الدعاية الغربية وتحوّلاتها وكيفية توظيف الأخلاق في سياساتها، ثم إعادة اكتشاف العنصر الأخلاقي في ثقافتنا وأهميته للعالم، ومن ثمّ ضرورة ألا نذوب في بطن الدعاية الغربية!