عناقيد الغضب تسفر عن شرعنة مقاومة حزب الله

سري سمور
17-05-2022
تحميل المادة بصيغة PDF

رأي   

عناقيد الغضب تسفر عن شرعنة مقاومة حزب الله  

سري سمّور

خاص- مركز القدس للدراسات

قلنا سابقًا بأن حزب الله طوّر أساليبه وأدواته-بفضل الدعم الإيراني السخي- وبنى تحالفات متينة في الساحة السياسية اللبنانية المعقدة بولاءاتها الخارجية وطوائفها ومصالحها، وجمّد أو أنهى نزاعاته مع (أمل) وغيرها، وتفرّغ تماما للمقاومة في الجنوب.

وانتقل الحزب في تكتيكات المقاومة، من أسلوب (أضرب واهرب) إلى (أضرب واحتل) وهو ما جعل الاحتلال يتحسب من تبعات ذلك، ومما اعتاده الاحتلال فترة ليست قصيرة، هو اعتبار لبنان ساحة للعربدة والعدوان دون ردّ يذكر، ولكن المقاومة وضعت تدريجيًّا حدًّا لهذه السياسة، وكان هذا بغطاء ودعم إقليميين من سورية وإيران.

فمثلاً اعتادت سلطات الكيان الصهيوني إبعاد الفلسطينيين الذين ترى أن أنشطتهم خطرة على أمنها من كافة الفصائل إلى لبنان، في استباحة واضحة، حيث كانت تنقل المبعد إلى الحدود وتدفعه إلى لبنان، وعليه تدبر أمر نفسه، ولم تكن السلطات اللبنانية تملك من أمرها شيئًا، ولكن وفي إشارة قوية على بداية نهاية عصر العربدة الصهيونية في لبنان والاستعلاء عليه؛ جاءت حادثة إبعاد أكثر من 400 فلسطيني من الضفة الغربية وقطاع غزة من قادة وكوادر ومناصري حركتي حماس والجهاد الإسلامي إلى لبنان في النصف الثاني من شهر كانون أول/ ديسمبر 1992، منحة ربانية لوقف وإغلاق هذا الملف.

فقد أغلقت السلطات اللبنانية الحدود في وجه المبعدين، وما كان من هؤلاء إلا الترحيب بقرار الحكومة اللبنانية، للتذكير وقتها كانت الحكومة هي حكومة رفيق الحريري الأولى التي تحظى بدعم لبناني داخلي قوي جدًّا آنذاك، ودعم دولي لا يستهان به، ومساندة سورية أمنية وعسكرية، كون الأجهزة السورية موجودة على أرض لبنان، فكان قرار حكومة لبنان انعكاسًا لتلك العوامل القوية.

وقد أصيبت "إسرائيل" بالحرج بعدما بنى المبعدون مخيمًا لهم في منطقة مرج الزهور الحدودية وأداروا بلسان د.عبد العزيز الرنتيسي-رحمه الله- معركة إعلامية باحتراف، وانتزعوا قرارًا من مجلس الأمن الدولي (رقم 799) بعودتهم إلى فلسطين، واستطاعوا العودة على دفعتين خلال عام، في حين كانت سلطات الاحتلال قررت إبعادهم لعامين تمهيدًا لتمديد الفترة إلى إبعاد مدى الحياة.

إذن بهذه الحادثة ومفاعيلها انتهى وولّى بلا رجعة ذاك الزمن الذي تتعامل فيه "إسرائيل" مع لبنان وكأنه المكان الذي تلقي وترمي فيه ما تريد أن تستريح منه.

ومن مظاهر العربدة والاستكبار الصهيوني اعتبار الدم اللبناني مباحًا خاصة في الجنوب وقصف وقتل المدنيين، وأحيانًا اعتقالهم وإذلالهم، بسبب أو بدون سبب، ولكن كان يغلب على الجيش الصهيوني، قتل مدنيين لبنانيين انتقامًا من قيام المقاومة في الجنوب بتنفيذ عمليات عسكرية ضد جنودها وعملائها.

عناقيد الغضب... شرعنة مقاومة حزب الله

وفي ظروف سياسية معقدة في "إسرائيل" وفي ظل حالة استقرار سياسي نسبيًّا في لبنان، ومقاومة متصاعدة لحزب الله، قررت "إسرائيل" تنفيذ عملية (عناقيد الغضب) في نيسان/ إبريل 1996 في محاولة لتحطيم قدرات حزب الله وشلّ حركته وخلق حالة جدل داخلي في لبنان بعد الاعتداء على المدنيين، ولحسابات داخلية إسرائيلية سياسية وحزبية أيضًا.

وكعادة "إسرائيل" في كل عدوان تجعل أكبر وأوسع أهدافها البنى التحتية والمدنيين العزل، ذلك لأنها تريد أن تدفع حواضن المقاومة الشعبية إلى نبذها، باعتبارها سببًا لما تتعرض له البيوت والمدارس والمرافق والأطفال والنساء وعابري السبيل المسالمين من دمار وقتل، وهي ذات السياسة المستخدمة في التعامل مع الشعب الفلسطيني، ونلحظ هذا في حروب غزة المختلفة وفي الاعتداءات على مناطق في الضفة.

ولكن في عملية عناقيد الغضب وقعت مجزرة قانا الأولى (الثانية كانت في 2006) ففي 18نيسان/ إبريل 1996 قصفت مدفعية الجيش الصهيوني مقر بعثة تابعة لقوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة (الوحدة الفيجية) الكائن في بلدة قانا قضاء صور، وأسفر القصف عن قتل وجرح عدد كبير من المدنيين بينهم كثير من النساء والأطفال، الذين لجأوا إلى مقر البعثة باعتباره آمنًا بظنهم، هربًا من المعارك والقصف الذي كان في تلك المناطق.

مشاهد الجثث وبكاء الأهالي على ذويهم، ومنهم رجل فقد أطفاله الأربعة، أثار غضبًا واستنكارًا واسعًا، ولم تفلح بالطبع دعاية "إسرائيل" بأن حزب الله هو السبب، بل صار حزب الله في نظر الأهالي مدافعًا عن المدنيين، وصار مطالبًا بالثأر والانتقام لأرواحهم. ومن الدروس والعبر القاسية من تلك المجزرة، ألا حصانة بنظر الغزاة والأعداء لمقرات أمم متحدة ولا اتفاقيات حماية مدنيين ولا قانون دولي، وأن حماية الناس بما يمتلكون من قوة وسلاح يردع الأعداء، فالوهم كل الوهم بتعلق أي مظلوم مستضعف لا يملك أوراق قوة بأهداب القوانين الدولية ومواثيق حقوق الإنسان.

مقاومة حزب الله مشرعنة دوليا

ومع أن الفيتو الأمريكي كان جاهزًا وأحبط مشروع قرار لإدانة المجزرة في قانا، ولكن تم التوافق على صيغة ستعرف باسم (تفاهمات نيسان) والتي بموجبها ضمنًا يعتبر نشاط حزب الله العملياتي العسكري في جنوب لبنان عاديًا في إطار خوضه صراعًا لتحرير أراض لبنانية محتلة، وليس من حق "إسرائيل" قصف المدنيين ردًّا على هذا النشاط، وفي حال قصفت "إسرائيل" أهدافًا مدنية يصبح حزب الله في حلّ من أمره ومن حقه قصف (كريات شمونة) وغيرها من المستوطنات بالكاتيوشا.

وهذه سابقة لم تعتد "إسرائيل" عليها، فقد اعتادت على أن من حقها أن تقصف وتضرب وقتما وأينما شاءت في لبنان، وفي حال كان هناك ردّ ما فإنها تزيد من وتيرة عدوانها وقد يصل إلى عملية عسكرية واسعة.

ما الضامن للاتفاق؟ ليس هناك ضمانة أقوى من قوة السلاح بيد حزب الله، وجميع من رعوا إخراج الاتفاق وعلى رأسهم الولايات المتحدة، سيتنصلون منه في حال فرغت مخازن حزب الله من الصواريخ، أو تراجعت الروح القتالية عند عناصره.

ويجدر بالذكر أن روسيا لعبت دورًا مهمًّا في إبرام ذلك الاتفاق، بل ثمة من أرجع الفضل للروس وحدهم في إبرامه، هذا مع أن دور روسيا كان قد تراجع كثيرًا في العالم كدولة عظمى، وثمة نقمة عليها بسبب حرب الشيشان آنئذ، ولكن هذه هي السياسة وتعقيداتها وتناقضاتها، والذي لم يتعلم منه كثيرون حتى الآن، فالتداخلات الدولية والإقليمية، من الغباء التعامل معها بمنطق الأبيض والأسود والمفاصلة النهائية وأنت في موقع المستضعف الطالب للعون!

بهذا الاتفاق خرج حزب الله منتصرًا، وبغطاء من حكومة الحريري، وبرضا من القوى والأحزاب اللبنانية عمومًا، وبإدارة عسكرية وأمنية وسياسية ناجعة من الحزب.

لم يكن النصر عسكريًّا حيث لم تقع خسائر تذكر في صفوف العدو، والقتل والدمار كان في ساحة لبنان، ولكن كفّ يد الصهاينة ولو مؤقتًا عن المدنيين، سيجعل الحزب يواصل تسجيل نقاط في مرمى الاحتلال وجيش لحد العملاء، بجرأة أكبر وبتوسيع نطاق العمليات والأهداف، وأيدي العدو مكبلة وهي التي تشتهي دومًا سفك دم الأبرياء وتدمير البيوت والمدارس وأماكن العبادة.

وفعلاً تصاعدت عمليات المقاومة، وقدر الله تعالى تجمع عدة أحداث مفصلية أفضت إلى إنهاء الاحتلال في جنوب لبنان سأتحدث عنها في المقال القادم إن شاء الله.

  • المواد المنشورة في موقع مركز القدس للدراسات، تعبّر عن آراء كتابها وقد لا تعبّر بالضرورة عن رأي المركز.