عوامل خدمت حزب الله.. وتطوّر نوعي غير مسبوق
رأي
عوامل خدمت حزب الله.. وتطوّر نوعي غير مسبوق
سري سمّور
عندما كانت الدولة اللبنانية قوية مسيطرة لم يتردد جهاز (المكتب الثاني) أي ما يوازي المخابرات في عامة الدول، من اعتقال وتعذيب القيادي في حركة فتح الفتية آنذاك (جلال كعوش) حتى مات تحت تعذيبهم الإجرامي في 1966 وليكون من أوائل شهداء الحركة التي كانت قد أشهرت قبل عام من تلك الحادثة البشعة.
لاحظوا أنه في ذلك الوقت لم يكن هناك ذريعة وجود تجاوزات ومخالفات يقوم بها الفدائيون الفلسطينيون والتي عادة ما يلوذ بها عرب-وحتى فلسطينيون- لتبرير جرائم الأنظمة العربية بحق الفلسطينيين.
أسوق هذا المثل للتأكيد على فكرة طرحتها سابقًا، حول وظيفية الدولة العربية القُطرية، وأن من صلب الأهداف التي أوجدتها من أجلها القوى الإمبريالية الغربية، حماية حدود وأمن الكيان الصهيوني، وعرقلة جهود مقاومته، تحت دعاوى وشعارات تحاول حجب هذه الحقيقة عن أعين الناس!
وقد انطلق حزب الله وعمل في وقت تراجعت فيه قبضة وسطوة أجهزة أمن الدولة اللبنانية وفقدت السيطرة على كثير من المناطق والمرافئ والمجاميع، وإلا فإن ما حلّ بكعوش ما كان لينجو منه راغب حرب أو عباس موسوي أو حسن نصر الله أو نعيم قاسم أو غيرهم!
حزب الله.. حالة مختلفة
حزب الله بدأ العمل والساحة اللبنانية بمعظمها، ومنها كثير من القطاعات الشيعية تحت الهيمنة السورية الأمنية والعسكرية؛ ومما يبدو غريبًا لمن لا يعرف تاريخ وتطورات العلاقة بين النظام السوري وحزب الله، أن النظام السوري في لبنان لم يتردد في غير مناسبة أن يمعن في التنكيل بحزب الله الذي لعب مقاتلوه في السنوات الأخيرة دورًا بارزًا في منع سقوطه!
من أشهر تلك الحوادث ما جرى في (ثكنة فتح الله) وهي مقر حزب الله المركزي في بيروت الغربية، فقد هاجم الجيش السوري المقر وقتل 22 مقاتلاً من الحزب بلا رحمة، في 1987، وعن سابق إصرار، وهو ما اضطر الحزب لاحقًا إلى نقل مقراته إلى الضاحية الجنوبية في بيروت.
لم يرد الحزب على تلك الجريمة مكتملة الأركان، ولو فحصنا الأمر لوجدنا أن قرار السكوت عنها هو إيراني محض، بل إن الحزب أكد هذا في بيان له وقتها وقال إن مرجعيتنا وقرارنا لدى الوليّ الفقيه.
هذا الانضباط من الحزب لتعليمات وتوجيهات طهران وقم، على المستوى الاستراتيجي خدم تطلعات الحزب، وصبّ في مصلحة مقاومة العدو الصهيوني كثيرًا.
ومع ذلك فإن النظام السوري في معرض حرصه على إبقاء نفسه في ظل الاستعداد للتعاطي مع مشروعات أمريكا، ولو كان يظهر (تمنّعًا) كرر فعلته بعيد توقيع اتفاق أوسلو؛ فقد أطلق الجيش اللبناني-الخاضع وقتها لهيمنة سورية كاملة- النار على متظاهرين سلميين من حزب الله خرجوا إلى الشوارع تنديدًا بالاتفاق، فقتل العديد منهم. مرة أخرى وبالتأكيد بتعليمات إيرانية، عضّ الحزب على الجرح، وواصل معركته في الجنوب.
الظرف الدولي والإقليمي وترتيبات حزب الله
أثناء احتلال صدام حسين لدولة الكويت، أبرمت صفقة غربية- سورية وربما أحيطت "إسرائيل" علمًا بها أو كانت طرفًا فيها، بموجبها تقوم سورية بدعم التحالف الثلاثيني الذي قاده الأمريكان بدعوى تحرير الكويت، بل شاركت قوات سورية فيه وذهبت إلى السعودية، مقابل السماح للجيش السوري بحسم المعركة عسكريًّا مع الجنرال (ميشال عون) رئيس الجمهورية حاليًّا، والذي كان يعتبر نفسه (رئيس مجلس الوزراء) ولا يعترف بحكومة سليم الحص المدعومة سوريًّا ويتحداها ويحظى بتأييد أطراف غربية ومن قوات لحد العميلة، ومن "إسرائيل"، التي أكدت أنه طلب دعمها عندما حمي الوطيس، ولكن في ذلك الوقت لم تكن "إسرائيل" في وارد الخروج عن النص الأمريكي، هذا لو فرضنا أنها مقتنعة بدعم رجل التف الحبل حول عنقه، فتاريخيًّا لا تفعل "إسرائيل" ذلك!
وكان عون قد تلقى دعمًا عسكريًّا من صدام حسين، نكاية بحافظ الأسد؛ وهنا يظهر جانب من الاستثمار في المكان الخطأ قام به صدام، وهو في السابق استثمر في الساحة الفلسطينية، وأيضًا في المكان الخطأ بدعم مجموعة صبري البنا (أبو نضال) واحتضان مجموعة (أبو العباس) وكلا الرجلين لا حظ لهما من قلوب الجماهير الفلسطينية، ولا رصيد يذكر لهما في مقارعة الكيان الصهيوني!
وقد انتصر الجيش السوري وحلفاؤه من اللبنانيين بسهولة على ميليشيات عون بعد سماح الأمريكان باستخدام سلاح الجو لأول مرة لدكّ معاقل عون، الذي فرّ والتجأ إلى السفارة الفرنسية وخرج من لبنان، ليعود إليه بعد زمن طويل في ظروف جيوسياسية مختلفة.
وبعد أن هشّم الأمريكان قطاعات الجيش العراقي، وفرضوا شروط الاستسلام على نظام صدام حسين في (خيمة صفوان) واقتادوا العرب بمذلة ومهانة إلى مؤتمر مدريد، بدا أن الزمن الأمريكي يلقي بظلاله الكئيبة على المنطقة بأسرها، وليس بمقدور حزب من طائفة عرفت بأنها فقيرة ومهمشة التصدي والوقوف في وجه النظام العالمي الجديد، وقد عبرّ أمين عام الحزب حسن نصر الله عن تلك المرحلة في أحد خطاباته أنه قيل لهم: عظم الله أجركم. أي انتهى دوركم فإما أن تسحقوا وتداسوا أو أن تسيروا في الركب الأمريكي-الصهيوني الخارج من غلبة ظاهرة على الأمة العربية!
ولكن الرياح لم تجرِ بما اشتهته السفن الأمريكية والإسرائيلية، بل تصاعد دور الحزب، واشتدت مقاومته وتراكمت قوته، وصولاًإلى إنجازه انتصارًا نادرًا على الكيان الصهيوني.
فإيران التي أيضًا بوقوفها ضد صدام حازت مكاسب اقتصادية وسياسية، اطمأنت ألا خطر يهدد حدودها وكيانها؛ فالعراق محاصر حدّ التجويع وفرض الأمريكان على شماله وجنوبه مناطق حظر جوي، ودول الخليج أصلاً تتوجس من طهران خيفة وتلوذ بالأمريكان لحمايتها، وأفغانستان انشغل ثوارها المنتصرون على السوفييت بحرب دموية طاحنة فيما بينهم، وباكستان لها مشكلاتها الداخلية ونزاعها مع الهند، وبقية الحدود آمنة. فلماذا لا يواصل الإيرانيون ويزيدوا من حجم استثمارهم في المكان الصحيح، وفعلاً زادوا من هذا الدعم، ولكن ثمة عوامل أخرى ساهمت في تعزيز وضع حزب الله، منها:
- إغلاق ملف الرهائن الأجانب تماما ووقف سياسة خطف الغربيين؛ ومعلوم أن الحزب لم يكن يتبنى هذه العمليات ومنها -إضافة إلى الخطف- تفجير مقرات المارينز الأمريكي وبعثة القوات الفرنسية في بيروت، وعمليات خارج لبنان مثل تفجير السفارة الإسرائيلية في عاصمة الأرجنتين بيونس أيرس، ولكن كل الشواهد تؤكد أن للمسلحين الشيعة دورًابارزًا فيها تحت مسميات تنظيمات سريّة مختلفة (العدالة الثورية، والجهاد الإسلامي مثلا). إغلاق هذا الملف أتى لرفع الحرج والقول بأن الحزب يريد تحرير الأراضي اللبنانية المحتلة التي صدر قرار من مجلس الأمن بالانسحاب منها.
- اغتالت "إسرائيل" أمين عام الحزب (عباس موسوي) في 1992 في تصعيد نوعي، وخلفه حسن نصر الله وهو بخلفيته من حركة أمل، فسعى إلى التحالف معها وتبريد الصراع الدموي بين الحزب وأمل (بمباركة سورية وإيران بالطبع) وتم تحجيم دور (صبحي الطفيلي) أول أمين عام للحزب، والذي كان يريد الإسراف في التدخل في الشؤون الداخلية في لبنان وتبني مزارعي المخدرات في البقاع بدعوى (ثورة الجياع) ودأب على مهاجمة الساسة اللبنانيين.لكن الأمين العام الجديد نصر الله، أعلن وطبق إعلانه أن العدو الوحيد للحزب هو الكيان الصهيوني، وليس أي حزب أو طائفة أو شخصية في لبنان، ما لم تكن من العملاء للعدو، وزهد الحزب في تفصيلات الحياة المدنية والسياسية في لبنان خاصة في المدن المركزية البعيدة عن أرض المعركة في الجنوب.
- حرص الحزب على احتكار المقاومة في الجنوب وربما نفذ عمليات مشتركة ضعيفة مع حركة أمل ولكن بمرور الزمن صار الحزب هو صاحب الكلمة الأولى والأخيرة وهو الذي يحدد توقيت العمليات؛ كان الحزب يعرف نفسه بأنه (المقاومة الإسلامية في لبنان) وكان الإعلام السوري وبعض اللبناني وحتى العربي يتحدث عن (المقاومة الوطنية اللبنانية) التي لا تقتصر على الحزب وحده، ولكن بقية القوى والأحزاب والتشكيلات الفلسطينية واللبنانية من غير الحزب، لم يعد لها دور في المقاومة في الجنوب، وحتى من كان لهم عمليات نوعية؛ فمثلا في 1988 قامت (سهى بشارة) بإطلاق النار على زعيم جيش العملاء (أنطوان لحد) وأصابته بجراح بالغة، ومكثت في السجن حوالي 12 سنة، ولكن لم يعرف أن الحزب الشيوعي اللبناني الذي تنتسب إليه سهى قام بعمليات أو أنشطة أخرى.
- وجود اتفاق غير مكتوب وغير معلن بعد انتهاء الحرب الأهلية في لبنان، يتولّى فيه (رفيق الحريري) حامل الجنسية السعودية الثري السني رئاسة الوزراء، ليقوم بالاستثمار وإعادة إعمار ما دمرته الحرب، دون تشويش من الحزب وأعوانه، بل بوقوفهم إلى جانبه، ويقوم الحريري بتوفير غطاء ودعم سياسي وإعلامي للمقاومة التي صار عنوانها حزب الله؛ وهو يستند إلى (الشرعية الدولية) في موقفه خاصة بعدما ذكرته في (1) عن ملف الرهائن وأنشطة الحزب خارج لبنان، وتمكن الحريري بجهود دبلوماسية من انتزاع اتفاق نيسان 1996 والذي سأتحدث عنه لاحقًا، وهذا النوع من تضافر الجهد الاقتصادي والسياسي مع بندقية المقاومة اشتهته الساحة الفلسطينية، وما تزال، صحيح أن إرادة دولية صارمة حالت دون ذلك، ولكن كان شرف المحاولة سيصب في مصلحة المقاومة الفلسطينية بلا ريب.
- الضرب المزدوج والمدروس الذي وجهه الحزب لميليشيا لحد العميلة، وللجيش الإسرائيلي، والمستوطنات في بعض الأوقات، بحيث لا يطغى جهد مقاوم على آخر، وتطوير الحزب لأدواته وأسلحته واستفادته من تجارب الفدائيين الفلسطينيين وتجنب أخطائهم والبناء على نجاحاتهم، وتركيزه على امتلاك كل ما يخدم حرب العصابات.
- الابتعاد عن الاستعراضات واتباع نظام أمني مغلق صارم جنّب الحزب اختراقات الموساد الكبيرة التي كانت ستؤثر سلبًا على جهود المقاومة، والحرص الشديد على اتباع معايير دقيقة عند اختيار أعضاء الحزب، ويشاع أن استمارة العضوية في حزب الله تتكون من 22 صفحة وهذا غير موجود عند أي حزب في العالم، معظمها عن تدين والتزام الفرد وأسرته الديني.
- مع أن المذهب الشيعي الاثني عشري تبشيري بطبيعته، وإيران راعية حزب الله، من سياستها نشر التشيع سرًّاوعلانية، ولكن في حالة حزب الله، لم يسجل على الحزب مساع لنشر التشيع مع تمسكه وإظهاره لهويته الشيعية في كل مناسبة ومحفل، فقد أدرك الحزب أن دخوله في هذه السياسة كفيل بجلب عواقب وخيمة عليه، وأصلاً مما اتهمه به السلفيون محاولة تشييع السنة، وهو ما نفاه الفاعلون منهم، مثل الجماعة الإسلامية (فرع الإخوان المسلمين في لبنان) تمامًا. ولكن الحزب حرص على ألا يكون للحركات الإسلامية السنية أي نشاط مقاوم سواء تحت إشرافه أو بجهد ذاتي منها.
هذه أبرز المعالم التي طبعت الحزب منذ تأسيسه وفي مراحل مفصلية من 1992 إلى 2000 وما بينهما، ولكن ثمة أمور أخرى تتعلق بتطورات مقاومة حزب الله وانتصاراته أتركها للمقال القادم بمشيئة الله.
- المواد المنشورة في موقع مركز القدس للدراسات تعبّر عن آراء كتابها وقد لا تعبّر بالضرورة عن رأي المركز.