عوامل ساعدت على تصاعد أحداث انتفاضة الأقصى وتطور أساليب المواجهة

سري سمور
27-08-2022
تحميل المادة بصيغة PDF

رأي

عوامل ساعدت على تصاعد أحداث انتفاضة الأقصى وتطور أساليب المواجهة

سري سمّور

 

ظلّت نسبة كبيرة من الناس، ولربما أكون أنا نفسي منهم، لفترات متفاوتة في طولها، يحسبون أن أحداث انتفاضة الأقصى هي (نسخة أكثر شدة وعنفًا) من هبة النفق، وأن الأمور لن تلبث أن تعود إلى سابق عهدها خلال أيام أو أسابيع قليلة في حد أقصى، مع أن مؤشرات كثيرة تدحض هذه الفرضية، منها فشل تنفيذ تطبيق قرارات قمة شرم الشيخ في أواخر تشرين أول/ أكتوبر 2000 بحضور الرئيس الأمريكي بيل كلينتون، والتي خرجت بإعلان وقف "العنف" وعودة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل 28 أيلول/ سبتمبر 2000، ولكن لم تتوقف الانتفاضة مع أن الأوضاع شهدت شيئًا من هدوء لا نجانب الصواب إذا قلنا إنه (سحابة صيف) ليس إلا.

وعلى ذكر القمة وبيانها في شرم الشيخ، فقد علقت حنان عشراوي وقتها على إحدى الفضائيات: "إن ما جرى كان احتجاجًا ورفضًا للأوضاع التي كانت قبل 28 سبتمبر فكيف بعد ما جرى تعود الأمور إليها؟!".

علما بأن عشراوي لا يمكن أن توصف بأنها مع المقاومة المسلحة بأي حال، ولكن التصريح ينم عن شعور عام بأنه يجب أن تحدث تغيرات في وضع الفلسطينيين وقضيتهم كنتاج لانتفاضتهم وتضحياتهم.

في هذه المقالة والتي تليها سأسلط الضوء على عوامل مختلفة تجمعت وصبت الزيت على النار التي اشتعلت مع اقتحام شارون للمسجد الأقصى، وبغض النظر عن نسبة تأثير كل عامل منها، فذلك يخضع لتقديرات كل طرف ولا يوجد معيار واحد لتحديد تأثير كل عامل، ولكن أحسب جميع المراقبين والمهتمين وأصحاب الشأن يتفقون على دور العوامل التالية في تصاعد الأحداث:

 

أولاً: العنف والوحشية الصهيونية

مع أن الفلسطينيين يدركون ولطالما عاشوا ضروبًا من الدموية والوحشية الصهيونية منذ ما قبل النكبة الكبرى، ولكن بعيد انتفاضة الأقصى فوجئ الجمهور، بحجم وكثافة العنف المبرمج من قوات الاحتلال في كل المناطق، وتكشف لهم أنها كانت متعطشة طوال سنوات الهدوء الخادعة، لسفك الدم الفلسطيني، وقتل المدنيين العزل، أو حتى المقاومين دون مبرر، واستخدام ترسانة أسلحتها الباطشة ضد السكان والمباني والممتلكات والمؤسسات.

فقد تعمدت قوات الاحتلال منذ اليوم الأول إطلاق النار على الرؤوس والصدور لقتل المتظاهرين، أو استخدامها رصاصًا يحدث إعاقات دائمة وتشوهات في أجسادهم، أو أجساد عابري السبيل في أي نقطة مواجهات ومناطق محيطة بها، وقد عرضت وسائل الإعلام (خراطيش) رصاص محرم استخدامه دوليًّا، وبعضه كبير الحجم لو ألقي دون بارود على إنسان لسبب له الأذى.

وكان من أبرز الحوادث التي أثارت الجمهور الفلسطيني، ومعه العربي والإسلامي، حادثة قتل الطفل محمد جمال الدرة (12 عامًا) في غزة في 30 أيلول/ سبتمبر 2000 أي بعد يومين من انفجار الأوضاع، ومع أنه قد تكون هناك أحداث مشابهة أو أكثر بشاعة لحقت بأطفال فلسطينيين قبل الدرة أو بعده، ولكن توثيق تلك الحادثة مباشرة في تلك الظروف بعدسات كاميرا تلفزيون محطة فرنسية، أثار غضبًا وحزنًا ودعوات لم يسبق لها مثيل منذ سنوات بالانتقام لطفل أعزل قتل في حضن والده بوابل من رصاص جنود الاحتلال الذي استمر ينهمر عليهما حوالي دقيقة، وتحولت جملة "مات الولد" إلى لازمة على شاشات محطات التلفزة، وعلى ألسنة الفلسطينيين، ولا شك أن هذا المشهد دفع وسارع في حسم خيار عدد لا يستهان به من الشبان الفلسطينيين للانخراط في نشاطات المقاومة، طلبًا للثأر والانتقام لدماء الطفل البريء وغيره من الأطفال. غني عن القول إن أهمية الصورة الموثقة ودورها لا يقارن بغيره، فمثلا الحاجة زينب عطية تحدثت عن مجزرة دير ياسين التي رأتها، حديثًا يدمي القلب، ولكن تخيلوا لو أن حديثها كان موثقًا بالكاميرات!

كان مشهد تشييع الجثامين التي تحمل من نقاط المواجهات وتطوف بها الجماهير الغاضبة شوارع المدن والمخيمات والبلدات الفلسطينية، عاملاً يثير الغضب ويشعل صدور الجمهور، لا سيما الشباب، والشعب الفلسطيني غالبيته من الشباب، وأتذكر في هذا السياق الشهيد محمود طوالبة الذي سيصبح أحد أيقونات انتفاضة الأقصى، كيف كان يسير في مسيرات تشييع الشبان الذين يقتلهم جنود الاحتلال على مقربة من معبر الجلمة شمال مدينة جنين، والدموع تنهمر من عينيه وهو يصرخ محرضًا الشباب أنه يجب أن يكون هناك رد وألا نكتفي برمي الحجارة على المعبر و"الموت ببلاش"!

وهنا لا بد لي من التوقف عند موضوع المواجهات عند نقاط التماس أو بؤر المواجهات؛ فقد شهدت نقاط مثل معبر الجلمة-جنين، والبالوع "سيتي إن"-البيرة، ومسجد بلال بن رباح-بيت لحم، ومفرق الشهداء "نيتساريم"-غزة وغيرها مواجهات كانت عادة تبدأ بدعوة إلى مسيرات ومظاهرات، خاصة بعد صلاة الجمعة، ويتوجه المتظاهرون إلى تلك النقاط لإلقاء الحجارة على جنود الاحتلال المستعدين المتمترسين خلف مكعبات اسمنتية أو دبابات ومدرعات وجيبات مصفحة، فتنتهي بحمل جثامين الشهداء -إضافة إلى الجرحى- لتجوب مسيرات التشييع الشوارع قبل دفنهم.

كم شهيدًا قتله جنود الاحتلال في تلك المواجهات؟ علمًا بأنه كما قلنا فإن الظروف تغيرت بعد أوسلو وخرج جنود الاحتلال من المناطق السكنية، والتي كانت المواجهة فيها قائمة على الكر والفر، وأحيانًا كان جنود الاحتلال يقعون فريسة كمين للشبان؛ وأيضًا كان إسراف الجنود في استخدام الذخيرة الحية بما في ذلك الرشاشات الثقيلة وتعمد القتل لا يقارن مع الحالة الجديدة. الآن أنت أمام حشد كبير من الجنود المدججين بالسلاح معهم تعليمات واضحة بالقتل والتسبب بالإعاقة، والحجارة لا تكاد تصلهم ولو وصلتهم فهم في مأمن غالبًا.

لماذا لم يتوقف ذلك النوع من المواجهات بعد اتضاح النوايا الدموية للمؤسسة العسكرية والسياسية الإسرائيلية، وعدم جدوى هذا النوع من المواجهات من حيث المكان والأداة؟

ولا أنسى بيانا ممهورًا بتوقيع القوى الوطنية والإسلامية، تم نشره عبر تلفزيونات محلية ونداءات عبر مكبرات الصوت في جنين بعد ارتقاء الشهيد رقم (كذا) في المواجهة رقم (كذا) قرب معبر الجلمة مفاده: "ليس قدرنا في مواجهة ومقاومة الاحتلال الذهاب إلى الجلمة". ربما نقول أن تأتي متأخرًا خير من ألا تأتي، ولكن أتى البيان متأخرًا كثيرًا وحتى لم يكن الالتزام به على النحو المطلوب!

من الضروري مراجعة تلك المرحلة ونقدها، كي يستفاد من الدروس والعبر، بعد هذه السنين، وبعد تلك الدماء الغزيرة الطاهرة.

أما لماذا كان هذا العنف وهذه الوحشية المبالغ فيها من قبل جيش الاحتلال، مع أن الفلسطينيين حتى ولو أطلقوا النار، لم يكن هناك خطر كبير على جنود الاحتلال والمستوطنين؟ فإنها من اللحظات التي يظهر فيها أن هذا المشروع وهذا الكيان هو آلة قتل وتخريب، وأيضًا ما ذكرته سابقًا حول اتخاذ قرار من مؤسسات الاحتلال بشن عدوان دموي شرس على الشعب الفلسطيني، ومعه رسالة مضمرة: "لا تظنوا أن انسحابنا من جنوب لبنان قبل شهور قليلة، معناه أن السيناريو قابل للتكرار في حالتكم، وسترون وجهنا الحقيقي، فاستسلموا تمامًا!".

في كل الأحوال فإن الفلسطينيين قرروا ضمنًا عبر تنظيماتهم الفاعلة وخزانها البشري: "إذا كنا بحجارتنا نعجز عن إصابة جنودكم المختبئين المحصنين، فسنصل إليهم في الباصات والمقاهي والمطاعم والشوارع باستخدام الأسلوب الذي تعرفونه: العمليات الاستشهادية.".

 

ثانيًا: هبة أكتوبر

الفلسطينيون في المناطق المحتلة عام 1948 يعيشون تحت الحكم الإسرائيلي، ومرت أوضاعهم بتغيرات عبر سنوات الاحتلال، من الحكم العسكري إلى حملهم جنسيات إسرائيلية، من التعامل معهم بسياسة الاحتواء والتقسيم، وسياسات أخرى ربما يكشف عنها لاحقًا، وتقسيمهم وفق المناطق والطوائف وغيرها.

والثابت المؤكد أنهم تكاثروا وصاروا كتلة بشرية داخل أغلبية يهودية عنصرية (قدرت نسبتهم آنذاك بأكثر من 20%) دون حقوق مدنية، فهم في الغالب عمال أو عاطلون عن العمل، مع أنهم شكلوا أحزابًا ودخلوا الكنيست، ومع تكاثرهم إلا أن أراضيهم تقضمها القوانين الإسرائيلية الجائرة لهدف استراتيجي واضح وهو دفعهم إلى الرحيل أو القبول بما قبل به بعضهم أي التحول إلى جنود في جيش الاحتلال.

وفي ذروة الانفجار وفي 1 تشرين الأول/ أكتوبر 2000 ولمدة عشرة أيام تبين حجم الغل والحقد الصهيوني على هؤلاء، فقد نظمت الفعاليات الشعبية العربية الفلسطينية في الداخل إضرابًا ومسيرات احتجاجًا على ما يجري في الضفة والقطاع واقتحام شارون للمسجد الأقصى وتعاملت شرطة الاحتلال مع تلك الاحتجاجات بمنتهى العنف والغل فقتلت 13 فلسطينيًا من مختلف المناطق (المثلث والجليل وغيرها).

ومع أن أهالي الضفة والقطاع كانوا يدفنون شهداءهم ولكنهم ازدادوا غضبًا على ما جرى لإخوانهم في الداخل، ونظمت في جنين مثلاً مسيرة حاشدة بعد توالي الأنباء عما يدور في مدينة الناصرة في الجليل، إلى درجة الدعوة إلى اقتحام معبر الجلمة والتوجه لنصرة أهالي الناصرة، ومع أن الدعوة تبدو غير واقعية، ولكنها تدل على أن الحالة القائمة هي توحد كل الشعب الفلسطيني من رفح حتى جنين حتى أم الفحم والناصرة وسخنين وكفر كنا في المواجهة.

صحيح أن المواجهات في الداخل توقفت بعد بضعة أيام، واللجنة الإسرائيلية التي شكلت للتحقيق في تلك الأحداث أقرت واعترفت بأن عمليات القتل لم تكن مبررة، ولكن النار تظل تحت الرماد، وهي بالتأكيد زادت من حجم الغضب والتحفز عند أهالي الضفة وغزة.

وفي المقال القادم أواصل الحديث عن أحداث وعوامل زادت الأحداث اشتعالاً وبات من الهراء الدعوة إلى وقف الانتفاضة.

  • المواد المنشورة في موقع مركز القدس للدراسات تعبّر عن آراء أصحابها و قد لا تعبّر بالضرورة عن رأي المركز.