غزة.. أمل المحبين والكارهين

عماد أبو عواد
18-06-2019
عماد أبو عوّاد\ مدير مركز القدس لدراسات الشأن الإسرائيلي والفلسطيني

في خضم الحديث عن صفقات في المنطقة، وإعادة ترتيبات تستهدف بالدرجة الأولى تسييد "إسرائيل"، وطحن ما تبقى من القضية الفلسطينية، وفي ظل واقع التطبيع والخنوع العربي الذي وصل إلى حدود شرعنة المحرمات، وقبول ما لم تكن تل ابيب تحلم أن يقبله العرب، فإنّ عين المتابع، المحب وكذلك الكاره، تقع على نقاط القوّة التي من الممكن أن تُعيد للحق واصحابه بعض الأمل، وأن تكون حجر عثرة لما يُحاك ضد قضية يؤكل بعضها في كل يوم.

وفي ظل حقيقة أنّ القريب والبعيد للأسف تخلى عن القضية الفلسطينية، فلا العرب يدعمون، ولا دول العالم التي كانت تنحاز معنا على الأقل بقيت على العهد، هُنا يستدرك الفلسطيني أنّ لا قوّة له تسنده، كتلك التي يُمكنه توليدها من داخله، ويقيناً هي لن تكون إلّا بمقاومة حقيقية، تجعل الجميع في دائرة عدم الراحة والأمن.

وإذا ما عُدنا سنوات قليلة للوراء، فإنّ الانتفاضة الفلسطينية الثانية، جعلت حسابات الاحتلال في قمة الارباك، ودفعت "بلدوزر إسرائيل" كما يحلو لليهود تسميته، ارئيل شارون للانسحاب من غزة والتفكير في الانسحاب من مناطق أخرى في الضفة الغربية، وحين اندلعت الهبة الفلسطينية في العام 2015، وما تبع ذلك، فقد أظهر الحراك الفلسطيني حجم تأثيره على الأرض، وكم له من نصيبٍ عملي في تحريك القضية الفلسطينية واستعادة بريقها.

الأبلغ من ذلك مقالاً، هي ما تُمثله غزة اليوم من قوّة حقيقية ليس لغزة وحدها، وإنّما لعموم الفلسطينيين ولربما أبعد من ذلك. وفي الوقت الذي تُحاك فيه المؤامرات، فإنّ الرفض الفلسطيني المتمثل بغزة ومقاومتها، وعدم تسليم الضفة، تجد نفسها القوى المختلفة التي تتآمر على قضيتنا، تصطدم بالعنصر الأهم، وهو وجود من يستطيع أن يقول لا فلسطينياً، وكذلك بإمكانه أن يُشكل خطراً كبيراً على الاحتلال، من الناحية التكتيكية والاستراتيجية.

غزة التي تلعق الصبر تحت الحصار الظالم، والتي قد يتبدى للبعض أنّها أقرب للتسليم في سبيل تحسن أوضاعها، هي بلا شك الأمل الأكبر لأبناء ومناصري القضية الفلسطينية، ليس فحسب لتكسير المؤامرات على صخرتها، وإنّما أيضاً للذهاب أبعد من ذلك من أجل نيل الحق الفلسطيني، كاملاً غير منقوص وإن طال الزمن.

فمن الناحية الأولى، باتت غزة تمتلك المقاومة الأبرز للاحتلال، حيث أنّها تملك بوصلة واضحة تتجه نحو مقارعة الاحتلال فقط، في برنامج واضح متطور من الناحية المادية والتكتيكية، فغزة التي استطاعت في ظروف تعجيزية مضاعفة قوتها وفق اعتراف الاحتلال، رسخت اعتباراً مهمّاً جداً، ألا وهو أنّ الألم في غزة، يجب أن يقابله مثيل لدى الاحتلال، وأنّ ضرب غزة يعني تهديد المستوطنات المحيطة، والمدن الصهيونية.

هذه الحالة باتت مترسخة في ذهنية الفلسطيني، حتى أنّ "إسرائيل" ما تكاد تستهدف منطقة فلسطينية بالقصف، إلّا وجاءها الرد من القطاع، في صورة لم تكن قبل عقد من الآن، ولربما لم تكن في مخيلة البعض، تحديداً المنهزمين منهم، والأبعد من ذلك، ولو عدنا سنة ونيف إلى الوراء، ورأينا مع انطلاق مسيرات العودة حجم الامعان الإسرائيلي في القتل، وكيف أنّه تراجع مع تثبيت المقاومة الفلسطينية سياسة ردعٍ مدروسة ضد الاحتلال، فبتنا نرى المطالبات الفلسطينية للانتقام لكل شهيد يرتقي في سماء الوطن، هذه المطالبة تنم عن أمرين، الأول الثقة الكبيرة في المقاومة وقدراتها، والثاني، الإيمان أنّ لدى الفلسطيني ما يستطيع تقديمه لإيلام الاحتلال وارضاخه.

الجانب الآخر في معادلة غزة، هو الجانب الفكري الذي رسخته مقاومتها، ففي الوقت الذي تهرب فيه الاحتلال من كل استحقاقاته، وأمعن ضربا في الفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس، باتت حالة المقاومة في غزة المثال والنموذج المُقتدى الأهم للشباب الفلسطيني ليس في غزة فحسب، بل في الضفة الغربية والشتات الفلسطيني، بل وأنّ النموذج الأكثر طهارة وصدقاً في نظر أحرار العالم، باتت مقاومة غزة، التي ما انحرفت بوصلتها وما تراجعت رغم الضغط المهول.

هذه القناعات ليست مرتبطة بدوافع عاطفية، أو ارتباطات فكرية، انّما بتحولات جذرية استراتيجية، تمثلت حتى في الانقسام الفكري الكبير حول الطريقة الأمثل للتحرر، والتي باتت فيها كفة المقاومة ترجح على غيرها، في الوقت الذي كانت فيه سابقاً تتقاسم مع التيار الآخر ربما توجهات الشعب الفلسطيني، لكن ما أحدثته غزة على الأرض، جعل للمقاومة الوزن الأكبر لدى التيارات المختلفة على اختلاف منابعها ومشاربها الفكرية.

عين العاقل تستوجب نظرة مختلفة لغزة، بعيداً عن الخلافات الفكرية والرؤية الضيقة، فأنت حينما تختلف في دائرتك الأولى، تستجمع كافة نقاط قوّتك في مواجهة دائرة أوسع لا تتداخل معك، وفي الوقت الذي إن أردنا أن نرى أين مكامن قوتنا، نقول بصريح العبارة هي غزة، فلا تُسهموا في أكل غزة، فتكونون لقمة دسمة، فمن يعادي غزة ويحاصرها، هو نفسه من سيعود ليُعاديكم وإن ظننتم خلاف ذلك.