غزة والبعد النفسي في الصراع
عماد أبو عواد
21-05-2019
عماد أبو عوّاد\ مدير مركز القدس لدراسات الشأن الإسرائيلي والفلسطيني
حينما أعلن ديفيد بن جوريون، في الخامس عشر من أيار عام 1948، قيام الدولة العبرية، تلقت هذه الدولة الوليدة اعترافاً بعد 11 دقيقة من الولايات المتحدة الأمريكية، والتي كانت قبل هذا التاريخ، حريصة على عدم إقامة علاقات قوية أو واضحة مع المستوطنين اليهود في فلسطين. حيث كانت الولايات المتحدة، تحرص على توطيد علاقاتها مع العرب، بُغية الحصول على نفطهم، وأخذ امتيازات لشركاتها لاحتكار التنقيب والنقل، فقد اقتضت المصلحة الأمريكية حينها، الميل ليس للعرب، بل لمنظومة مصالحها، التي تمحورت حول السيطرة على نفط المنطقة.
وليس من المفاجئ القول، أنّ هناك تياراً امريكياً، والذي تمثل بنخب رأس المال فيها، كان يُعارض فكرة الاعتراف بالدولة العبرية، خشية أن ينعكس ذلك على العلاقة مع العرب. هُنا أمكست الولايات المتحدة العصى من المنتصف، حيث ما بعد الاعتراف ب"إسرائيل" لم تُقدم على علاقات استراتيجية معها، بل حافظت على علاقاتها مع العرب وعملت على تمتينها، محتفظة بعلاقات مع "إسرائيل"، لم تصل لمرحلة استراتيجية إلّا بعد حرب حزيران 1967.
حينها أدرك صانع القرار في البيت الأبيض، بأنّ الحاجة باتت كبيرة لعلاقة وطيدة مع "إسرائيل"، وتحويلها إلى الحليف الأبرز، فمن خلالها يُمكن الآن البدء بالحديث عن مشاريع إقليمية، تتمثل بفكرة السلام، تحت قاعدة مهمّة أن تحمي أمريكا العرب من "إسرائيل"، وأن تضمن ل"إسرائيل" علاقات متدحرجة نحو الأفضل مع العرب.
ولعلّ الوصول سريعاً إلى كامب ديفيد، بعد حرب تشرين ثاني من العام 1973، يؤكد أنّ الولايات المتحدة أحسنت استخدام امساك العصى من المنتصف، فقد وصلت بعلاقاتها مع "إسرائيل" إلى حدود مرضية، وبقيت العلاقات مع العرب في أفضل أحوالها، سواءً راغبين أم مرغمين!.
وفي ظل السير قُدُماً نحو ترسيخ واقعٍ جديد، يتمثل بالسلام في المنطقة، والذي جاء بعد اتفاقات مع مصر، الأردن والسلطة الفلسطينية. وصلت الولايات المتحدة إلى مرحلة متقدمة جداً، من فرض امبرياليتها التي حولتها لإمبراطورية عُظمى خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، فقد أضحت المسيطرة على المنطقة ونفطها، والأهم من ذلك أنّها الوسيط النزيه المقبول لدى الطرفينّ، العرب و"إسرائيل"، رغم ميلها الواضح للدولة العبرية.
هُنا كانت الحاجة لأمرٍ غايةٍ في الأهمية، أن يستمر الهدوء في المنطقة، حيث من خلاله يُمكن لواشنطن أن تُسيّر خططها وأن تُحصّلَ احتياجاتها، وتُثبت سيطرتها، من خلال مظهر عصري، يُعطيها صورة راعي السلام والاستقرار، ليؤكد أنّ رأسماليتها التي انتصرت حديثاً على اشتراكية الاتحاد السوفيتي، هي الخيار الأصوب.
هذه الحالة من الاستقرار بددتها الانتفاضة الفلسطينية الثانية، والتي اندلعت بعد رفض الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، التوقيع على اتفاقية كامب ديفيد. الانتفاضة التي استمرت بقوّة نحو 5 سنوات، زادت من مؤازرة العالم للقضية الفلسطينية، وأعادت الروح للحق الفلسطيني، ليس في حدود فلسطين، بل في الوطن العربي والإسلامي، واقاليم عالمية أخرى.
هذه الحالة شهدت تراجعاً، خاصة ما بعد الربيع العربي والأحداث التي رافقته، من حروب داخلية في الدول العربية، وتراجع علاقات بعضها داخلياً، إلى جانب زيادة الضغط الأمريكي عليها خاصة في الملف الإيراني، والذي وجدت بعض الأنظمة العربية نفسها بحاجة إلى "إسرائيل" من أجل الوقوف بوجهه. كلّ ذلك سارع من تراجع ألمعية القضية الفلسطينية، وتراجع مكانتها عربياً وعالميا.
هذا الواقع كان مريحاً من الناحية الإسرائيلية والأمريكية، ف"إسرائيل" سترى نفسها بمعزل عن أي التزامات تجاه القضية الفلسطينية، بل ثبتت علاقات قوية مع بعض العرب بمعزل عنها، فيما الولايات المتحدة، ستجد نفسها أمام حالة أقل من العداء العربي، حيث يُشير الجنرال الأمريكي ديفيد بترايوس: أنّ الاعمال العدائية بين "إسرائيل" وبعض جيرانها تُشكل أحد التحديات المركزية لقدرتنا على دفع مصالحنا في منطقة العمليات. حيث غالباً ما ينتج عن التوترات بين "إسرائيل" والفلسطينيين مواجهات عسكرية، تؤدي إلى تغذية مشاعر العداء للولايات المتحدة بسبب التصور القائم في العالم العربي من حميمية العلاقات ما بين أمريكا و"إسرائيل".
ويُضيف بترايوس، أنّ الغضب العربي بشأن القضية الفلسطينية يحد من قوّة وعُمق الشراكات ما بين الولايات المتحدة والحكومات والشعوب في المنطقة العربية، ويُضعف شرعية الأنظمة المعتدلة في العالم العربي. كما يُعزز من التطرف في المنطقة، وزيادة النفوذ الإيراني وعلاقاته مع تنظيمان كحزب الله وحماس.
هذه القاعدة المهمّة، تُجسدها غزة وتكاد تكون الوحيدة التي لا زالت تحفر في خلخلة المشهد المرغوب أمريكياً، فغزة في البعد العملي والنفسي، لا زالت الرافعة الحقيقية للقضية الفلسطينية، والأبعد من ذلك أنّها تُمثل الصخرة التي تُبقي بوصلة العرب متجهة نحو العداء مع الولايات المتحدة، أمّ الامبريالية وراعية الاستعمار الاستيطاني في فلسطين.
غزة الحاضرة في ذهنية وقلوب الأحرار في العالم، تُعيد المشهد إلى حقيقته الطبيعية، ففي الوقت الذي تُطبع فيه الحكومات العربية، فإنّ تضحيات غزة محفورة في وجدان شعوب الإقليم، وتزيد من نسبة العداء ل"إسرائيل" ومن وراءها أمريكا. ورغم ما نُشاهده من بعض الهرطقات الإعلامية الداعية لعلاقات مع تل أبيب، فإنّ دماء الغزيين وتضحياتهم، صمودهم ومقاومتهم، تُعتبر العقبة الأهم في وجه الصلف الأمريكي والإسرائيلي. ولست أبالغ حين أقول، لولا غزة، لكانت قضيتنا تئن معزولة ولربما منبوذة في ظل واقعٍ أرعن وعالم منافق.
حينما أعلن ديفيد بن جوريون، في الخامس عشر من أيار عام 1948، قيام الدولة العبرية، تلقت هذه الدولة الوليدة اعترافاً بعد 11 دقيقة من الولايات المتحدة الأمريكية، والتي كانت قبل هذا التاريخ، حريصة على عدم إقامة علاقات قوية أو واضحة مع المستوطنين اليهود في فلسطين. حيث كانت الولايات المتحدة، تحرص على توطيد علاقاتها مع العرب، بُغية الحصول على نفطهم، وأخذ امتيازات لشركاتها لاحتكار التنقيب والنقل، فقد اقتضت المصلحة الأمريكية حينها، الميل ليس للعرب، بل لمنظومة مصالحها، التي تمحورت حول السيطرة على نفط المنطقة.
وليس من المفاجئ القول، أنّ هناك تياراً امريكياً، والذي تمثل بنخب رأس المال فيها، كان يُعارض فكرة الاعتراف بالدولة العبرية، خشية أن ينعكس ذلك على العلاقة مع العرب. هُنا أمكست الولايات المتحدة العصى من المنتصف، حيث ما بعد الاعتراف ب"إسرائيل" لم تُقدم على علاقات استراتيجية معها، بل حافظت على علاقاتها مع العرب وعملت على تمتينها، محتفظة بعلاقات مع "إسرائيل"، لم تصل لمرحلة استراتيجية إلّا بعد حرب حزيران 1967.
حينها أدرك صانع القرار في البيت الأبيض، بأنّ الحاجة باتت كبيرة لعلاقة وطيدة مع "إسرائيل"، وتحويلها إلى الحليف الأبرز، فمن خلالها يُمكن الآن البدء بالحديث عن مشاريع إقليمية، تتمثل بفكرة السلام، تحت قاعدة مهمّة أن تحمي أمريكا العرب من "إسرائيل"، وأن تضمن ل"إسرائيل" علاقات متدحرجة نحو الأفضل مع العرب.
ولعلّ الوصول سريعاً إلى كامب ديفيد، بعد حرب تشرين ثاني من العام 1973، يؤكد أنّ الولايات المتحدة أحسنت استخدام امساك العصى من المنتصف، فقد وصلت بعلاقاتها مع "إسرائيل" إلى حدود مرضية، وبقيت العلاقات مع العرب في أفضل أحوالها، سواءً راغبين أم مرغمين!.
وفي ظل السير قُدُماً نحو ترسيخ واقعٍ جديد، يتمثل بالسلام في المنطقة، والذي جاء بعد اتفاقات مع مصر، الأردن والسلطة الفلسطينية. وصلت الولايات المتحدة إلى مرحلة متقدمة جداً، من فرض امبرياليتها التي حولتها لإمبراطورية عُظمى خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، فقد أضحت المسيطرة على المنطقة ونفطها، والأهم من ذلك أنّها الوسيط النزيه المقبول لدى الطرفينّ، العرب و"إسرائيل"، رغم ميلها الواضح للدولة العبرية.
هُنا كانت الحاجة لأمرٍ غايةٍ في الأهمية، أن يستمر الهدوء في المنطقة، حيث من خلاله يُمكن لواشنطن أن تُسيّر خططها وأن تُحصّلَ احتياجاتها، وتُثبت سيطرتها، من خلال مظهر عصري، يُعطيها صورة راعي السلام والاستقرار، ليؤكد أنّ رأسماليتها التي انتصرت حديثاً على اشتراكية الاتحاد السوفيتي، هي الخيار الأصوب.
هذه الحالة من الاستقرار بددتها الانتفاضة الفلسطينية الثانية، والتي اندلعت بعد رفض الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، التوقيع على اتفاقية كامب ديفيد. الانتفاضة التي استمرت بقوّة نحو 5 سنوات، زادت من مؤازرة العالم للقضية الفلسطينية، وأعادت الروح للحق الفلسطيني، ليس في حدود فلسطين، بل في الوطن العربي والإسلامي، واقاليم عالمية أخرى.
هذه الحالة شهدت تراجعاً، خاصة ما بعد الربيع العربي والأحداث التي رافقته، من حروب داخلية في الدول العربية، وتراجع علاقات بعضها داخلياً، إلى جانب زيادة الضغط الأمريكي عليها خاصة في الملف الإيراني، والذي وجدت بعض الأنظمة العربية نفسها بحاجة إلى "إسرائيل" من أجل الوقوف بوجهه. كلّ ذلك سارع من تراجع ألمعية القضية الفلسطينية، وتراجع مكانتها عربياً وعالميا.
هذا الواقع كان مريحاً من الناحية الإسرائيلية والأمريكية، ف"إسرائيل" سترى نفسها بمعزل عن أي التزامات تجاه القضية الفلسطينية، بل ثبتت علاقات قوية مع بعض العرب بمعزل عنها، فيما الولايات المتحدة، ستجد نفسها أمام حالة أقل من العداء العربي، حيث يُشير الجنرال الأمريكي ديفيد بترايوس: أنّ الاعمال العدائية بين "إسرائيل" وبعض جيرانها تُشكل أحد التحديات المركزية لقدرتنا على دفع مصالحنا في منطقة العمليات. حيث غالباً ما ينتج عن التوترات بين "إسرائيل" والفلسطينيين مواجهات عسكرية، تؤدي إلى تغذية مشاعر العداء للولايات المتحدة بسبب التصور القائم في العالم العربي من حميمية العلاقات ما بين أمريكا و"إسرائيل".
ويُضيف بترايوس، أنّ الغضب العربي بشأن القضية الفلسطينية يحد من قوّة وعُمق الشراكات ما بين الولايات المتحدة والحكومات والشعوب في المنطقة العربية، ويُضعف شرعية الأنظمة المعتدلة في العالم العربي. كما يُعزز من التطرف في المنطقة، وزيادة النفوذ الإيراني وعلاقاته مع تنظيمان كحزب الله وحماس.
هذه القاعدة المهمّة، تُجسدها غزة وتكاد تكون الوحيدة التي لا زالت تحفر في خلخلة المشهد المرغوب أمريكياً، فغزة في البعد العملي والنفسي، لا زالت الرافعة الحقيقية للقضية الفلسطينية، والأبعد من ذلك أنّها تُمثل الصخرة التي تُبقي بوصلة العرب متجهة نحو العداء مع الولايات المتحدة، أمّ الامبريالية وراعية الاستعمار الاستيطاني في فلسطين.
غزة الحاضرة في ذهنية وقلوب الأحرار في العالم، تُعيد المشهد إلى حقيقته الطبيعية، ففي الوقت الذي تُطبع فيه الحكومات العربية، فإنّ تضحيات غزة محفورة في وجدان شعوب الإقليم، وتزيد من نسبة العداء ل"إسرائيل" ومن وراءها أمريكا. ورغم ما نُشاهده من بعض الهرطقات الإعلامية الداعية لعلاقات مع تل أبيب، فإنّ دماء الغزيين وتضحياتهم، صمودهم ومقاومتهم، تُعتبر العقبة الأهم في وجه الصلف الأمريكي والإسرائيلي. ولست أبالغ حين أقول، لولا غزة، لكانت قضيتنا تئن معزولة ولربما منبوذة في ظل واقعٍ أرعن وعالم منافق.