فضاءات الثقوب
عرض كتاب
فضاءات الثقوب
عوني فارس
رواية فضاءات الثقوب للأسير أكرم إبراهيم القواسمي الصادرة مؤخرًا، جزء من سيرة ذاتية، توثق لجوانب من حياة كاتبها داخل سجون الاحتلال، وتمنح الأولوية لتسجيل دور والِدَيْه في تحمل مرارات سجنه على مدى ستة وعشرين عامًا، وقد صدرت عن مركز بيت المقدس للأدب، وبذلك انضمت لقائمة طويلة من إصدارات المركز التي أولت اهتمامًا بكتابات الأسرى الإبداعية في مجالات الأدب والفكر والدراسات والتوثيق وغيرها، وفضاءات الثقوب "نص اقتحامي، يتمكن من النفس ويأسر القلب، ويصبح حديثك اليومي مع الآخرين"، ويمتاز " بانسيابيته وسلاسته ورقته وشفافيته"، ويقدم المشاهِدَ المعقدة " في لغة يسيرة شفافة غير متكلِّفة، متحرِّرة من ديباجة البلاغة، وتراكم المفردات"[1]، لكنَّه لم يغادر الواقع في كل تفاصيله، فهو شهادة تاريخية توثِّق جوانب واقعية من تجربة القواسمي في سجون الاحتلال.
أكرم القواسمي.. سيرة ذاتية مكثَّفة
ولد الأسير أكرم القواسمي في حي رأس العامود في بلدة سلوان شرقي مدينة القدس المحتلة، في الحادي عشر من كانون الثاني/ يناير عام 1974. درس المرحلتين الأساسية والثانوية في مدارس مدينة القدس، وحصل على شهادة الثانوية العامة في مدرسة دار الأيتام الإسلامية في الفرع الصناعي (ميكانيكي سيارات)، وعمل موزعًا لمنتجات مصنع للبلاستيك والميلامين، مما منحه الفرصة للطواف على فلسطين من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها.
شارك القواسمي في الفعاليات الوطنية في الانتفاضة الأولى، وانضم إلى حركة حماس بداية تسعينيات القرن العشرين، وتلقى تعبئة وطنية محورها حب فلسطين والقدس والأقصى، وأخذ على عاتقه، كما قال "عبء التضحية والدفاع والذود عنهم من دنس الاحتلال مهما كان الثمن غاليًا في المال والنفس" (ص 11)، وانضم لكتائب القسام عام 1994، تحت المسؤولية المباشرة للقائد محمد الضيف، وشكَّل مع أيمن الرازم خلية نائمة، أعيد تفعيلها لاحقًا بأمر من الضيف، إثر مغادرة حسن سلامة من القطاع إلى الضفة الغربية عام 1996، وانضم للخلية مأمون الرازم وسامي أبو حلاوة ليعرفوا لاحقا بـ" مجموعة تلاميذ العياش". تمكَّن سلامة من الالتقاء بالخلية في جامعة القدس/ أبو ديس، وكان قد رأى صوَرَ أفرادها قبل مغادرة قطاع غزة، وأُعطي كلمة السر، ثمَّ توالت اللقاءات، ووضعت الترتيبات اللازمة لبدء ما بات يُعرف في أدبيات المقاومة بعمليات الثأر المقدس التي جاءت انتقامًا من اغتيال القائد المهندس يحيى عياش. قدَّمت الخلية المقدسية دعمًا لوجستيًا مهمًا لسلامة، وأوصل أكرم القواسمي الاستشهادي إبراهيم السراحنة (من سكان مخيم الفوار)، إلى محطة الجنود بالقرب من سجن عسقلان في الخامس والعشرين من شباط/ فبراير عام 1996، وكانت عمليته الثانية بفارق عشرة دقائق عن العملية الأولى التي نفَّذها صديقه مجدي أبو وردة (من سكان مخيم الفوار) في القدس داخل الباص رقم 108، بعد خمسين يومًا من اغتيال القائد يحيى عياش، وفي الذكرى السنوية الثانية لمجزرة المسجد الإبراهيمي.
اعتقل القواسمي في الثامن والعشرين من آذار/ مارس عام 1996، واقتيد إلى مركز تحقيق المسكوبية وبقي فيه أربعة شهور، وبعد عام ونصف أصدرت محكمة الاحتلال بحقه حكمًا بالسجن المؤبد مرتين، وقد تضمنت لائحة الاتهام قيامه بتسهيل مرور القائد القسامي الأسير حسن سلامة من قطاع غزة إلى مدينة الخليل، ومساعدته على اختيار أماكن مناسبة من أجل تنفيذ عمليات استشهادية، إضافة إلى إيصال أحد الاستشهاديين إلى منطقة العملية، وقد برز القواسمي داخل الأسر في المجالين الثقافي والتنظيمي، وانتخب عضوًا في الهيئة القيادية العليا لأسرى حركة حماس، وممثلاً لها أمام إدارة مصلحة السجون في أكثر من دورة تنظيمية.
صورة من الحياة الاعتقالية في سجون الاحتلال
أَوْلَى نص القواسمي اهتمامًا كبيرًا بالحياة الاعتقالية في سجون الاحتلال، وسَرَدَ الكثير من المشاهد التي تكثَّفت فيها صور المواجهة مع الاحتلال، وبرزت فيها معاني جَلَد الأسرى وثباتهم وبطولتهم وتضحياتهم، كما في روايته عن بدايات حياته في الأَسَر، وزيارات الأهل الشهرية، والتنقلات بين السجون، ونضالات الحركة الأسيرة، وكشف جوانب من سياسات الاحتلال، وما يعانيه الأسرى من ظلم وصلف وعدوانية، مثل الاقتحامات المتكررة للأقسام، ومن الأمثلة عليها شهادته حول اقتحام سجن نفحة في الحادي عشر من تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1997، واقتحام سجن عسقلان في الحادي والثلاثين من تموز/ يوليو عام 2003، حيث قام السجانون برشِّ الأقسام بالغاز، والتنكيل بالأسرى على مدى أيام، وفرض عقاب جماعي عليهم.
وتطرق إلى صفقات التبادل وتداعياتها النفسية، وآثارها الاجتماعية والتنظيمية على الأسرى داخل السجون، كما في حديثه عن صفقة تبادل حزب الله عام 2008، وصفقة وفاء الأحرار عام 2011، وقد منح الأخيرة هامشًا معتبرًا في النص، فتحدث عن بعض الحيثيات المرتبطة بها والمتعلقة بالأسرى وأهاليهم، أثناء المفاوضات وعند التنفيذ وبعده، وتضمن النص معلوماتٍ عن الموقع الجغرافي لكل سجنه عاش فيه، ومدى بعده عن القدس، وتاريخ بنائه، والإجراءات الأمنية المشددة فيه، وطبيعة الحياة داخل أقسامه، كما أنَّه سلَّط الضوء على الحياة التعليمة في السجون، وتفاصيل حصول المعتقلين على الحق في الدراسة الجامعية في الجامعات الفلسطينية، وشرح تجربته في التعليم ابتداءً من حصوله على الثانوية العامة عام 1997، ودراسته في جامعة الأقصى في غزة، حيث كان أحد طلاب الدفعة الأولى على مستوى جميع السجون "دفعة الشهيد ميسرة أبو حمدية"، وتمكُّنه من الحصول على شهادتي بكالوريوس في التاريخ والاجتماعيات من جامعة الأقصى في غزة، وجامعة القدس المفتوحة، وشهادة ماجستير في الدراسات الإسرائيلية من جامعة القدس/ أبو ديس، وإتمامه عددًا من الدورات التدريبية والتطويرية في إدارة الأعمال والتنمية البشرية والقانون الدولي وحقوق الإنسان والصحافة والإعلام وعلم التجويد.
الوالدان.. سند الأسير ودرعه وركنه الشديد
يقدم الكتاب شهادة حية عن دور الوالدين في حياة الأسير الفلسطيني، من خلال ما جرى مع والديه على مدى ستة وعشرين عامًا، ويعطي مثالاً حيًا على اندماج البعدين الاجتماعي والوطني في سلوك ومواقف الوالدين، ويُظهر تغير حياة الوالدين من أول لحظة يسمعان خبر اعتقال ابنيهما، حيث تصبح حياته هي محور اهتمامهما، والأولوية في نشاطهما اليومي لتعزيز صموده، وتلبية احتياجاته. يقوم الوالدان بتسجيل اسم ابنهما في الصليب الأحمر، ومتابعة المحامي، والاستعداد للزيارات الشهرية، وكتابة الرسائل، والاهتمام بطلبات الابن الاجتماعية والمادية، والانخراط الكلي في النشاطات المساندة للأسرى من اعتصامات، وإضرابات عن الطعام، ومسيرات، وحسب القواسمي فقد كانت أولى الفعاليات التي شارك فيها والده الاحتجاجات التي أعقبت أحداث سجن نفحة عام 1997، ويلفت في توثيق القواسمي لنشاط والديه، قدرة أهالي الأسرى على مأسسة الفعاليات، وإفراز قيادة ميدانية تنسق العمل، فتحدد طبيعة النشاط ومكانه وزمانه، كما في لجنة أهالي أسرى القدس، كما يلفت الانتباه محورية الوالدين في بث روح الأمل ورفع معنويات ابنهم الأسير، ومقدار التضحية والمعاناة التي يتعرضان لها طوال فترة أسر ابنهما.
أكرم القواسمي والوطنية الإسلامية.. المبادئ والأهداف
يُقصد بالوطنية الإسلامية حالة التماهي بين القيم والمبادئ والمعاني الإسلامية والأهداف الوطنية التي جسَّدتها القوى الإسلامية الفلسطينية المنخرطة في المشروع التحرري، ويمكن رؤيتها بوضوح في تعبيرات القواسمي في أكثر من موقع داخل نصه، حيث تفرز قيم الإسلام الإيمانية ومعتقداته طاقة ثورية هائلة، تدفع معتنقه إلى رفض الظلم والعمل الجاد على إزالته والصبر في مواجهته، فتصبح مقاومة المحتل حقيقة إيمانية وتعبيرًا عن التزام بقيم الإسلام وتعاليمه، كما في حديثه عن مشاعره التي انتابته في أيامه الأولى من الاعتقال، وقراره الصبر على المحنة حتى نهايتها، باعتبار ذلك ثمنًا لوجه الله ودفاعًا عن أرض فلسطين المقدسة، حيث قال "إني أحتسب أمري لوجهك يا الله، لأن فراقي لوالديَّ وفراقي للمسجد الأقصى هو من أجلك يا الله، هو من أجل الدفاع والذود عن أرض الأنبياء ومهد الرسالات، ومسرى رسولنا الحبيب (عليه السلام)، وعن أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين، فأنفسنا نقدمها رخيصة لك يا ربنا، فطوبى لك يا أيها الأقصى الحبيب وطوبى لكم يا والدي الغاليين وطوبى لك يا فلسطين الحبيبة، وطوبى لك يا شعبي الصامد.. ولا زال هذا الحوار يصول ويجول في قلبي ووجداني منذ (25) عاما" (ص 15)، وكما في خطابه لوالده قائلاً "اعلم يا والدي الغالي أنَّه ما كان هواي فراقكم، بل فراقي القسري عنكم لم يكن إلا من أجل الله أولاً، ثمَّ من أجلكم ومن أجل شعبي، لتحيوا كرامًا"، "وفلسطين والقدس والأقصى ترخص لهم النفس وأغلى ما نملك" (ص 43- 44)، "لكني أصررت على هذه الطريق رغم ما فيها من صعاب، وليس ذلك إلا لرضى الله سبحانه وتعالى، ثمَّ من أجل تحرير فلسطين والقدس والأقصى من أيدي المحتل الغاصب" (ص 68).
الخاتمة
قدَّم أكرم القواسمي شهادته حول جوانب من حياته في سجون الاحتلال خلال ستة وعشرين عامًا، وقد ركَّز على معاناة والديه منذ اللحظات الأولى من اعتقاله، ووثَّق تضحياتهما الكبيرة من أجله، وفاءً وتقديرًا وحبًا لهما، ورغم طريق الآلام التي خطَّها منذ قراره الالتحاق بركب المقاومة، إلا أن نصَّه أظهر عزيمة تناطح الجبال، وتصميمًا لا يعرف التراجع. رحم الله والده، وحفظ له أمَّه، وعجَّل في فَرَجِه.
[1] التوصيفات بين هلالين مقتبسة من مقدمة محرر النص الدكتور عبد المجيد حامد، ص 6.