في ذكرى انتفاضة الأقصى.. اتجاهات التعامل مع موازين القوى
في ذكرى انتفاضة الأقصى.. اتجاهات التعامل مع موازين القوى
ساري عرابي
قبل الانتفاضة الفلسطينية الثانية، كنّا نقيم في جامعة بيرزيت نشاطاً طلابيّاً غنيّاً، نسمّيه "أسبوع القدس"، نفتتحه بمهرجان خطابيّ/ فنّيّ، وتتخلّله المَعارض المتنوّعة، بيد أنّ أبرز ما كان فيه؛ الندوات السياسية التي كانت تتحوّل في الغالب، بلا تخطيط، إلى مناظرات بين المختلفين الفلسطينيين.
ربما قبل أقلّ من سنة على انفجار الانتفاضة الثانية، وفي ندوة استضفنا فيها بعضاً من هؤلاء المختلفين، قال أحد السياسيين، الذين مثّلوا في فترة ما مدفعيّة الدفاع عن اتفاقية أوسلو، والترويج لها والتسويق للذرائع التي يتعلّق بها صنّاع تلك الاتفاقية.. قال في سياق هذا التسويق: "إلى متى نقاتل؟ لقد قاتل الفلسطينيون عقوداً طويلة، ولا يمكن أن نبقى نردّد أنّ ما نفشل في إنجازه ستنجزه الأجيال القادمة، لا يمكن أن نتصوّر استمرار معاناة الفلسطينيين عشرين سنة أخرى".
فَشِل السياسي في مداخلته تلك في التنبؤ بانتفاضة الأقصى، بل وفي التنبّه إلى فشل مشروعه الذي يدافع عنه، وفي رؤية المسارات الكارثية لذلك المشروع، ومآلاته في ترسيخ الاحتلال الإسرائيلي. وليست المفارقة، الطريفة والموجعة في الوقت نفسه، فقط في أنه أشفق على الفلسطينيين من أن يستمرّوا في القتال عشرين سنة أخرى بلا إنجاز، وها قد مرّ على كلامه أكثر من عشرين سنة، ولكنّه هو ذاته، احتاج هذا الوقت كلّه للإقرار اليوم، في مقالة أخيرة له، بأنّ اتفاقية أوسلو انتهت إلى تكريس الاحتلال. وفي حين كان السياسيّ إيّاه ما يزال معتقداً بصوابية مساره؛ كان طلاب جامعة بيرزيت ينظّمون أول مظاهرة تزحف صوب نقاط الاشتباك مع الاحتلال، متزامنة مع اقتحام شارون للمسجد الأقصى، لتبدأ الانتفاضة الثانية.
كانت المشكلة، في منطق السياسي إيّاه وفريقه، في التسليم لموازين القوى فادحة الظلم، وفاحشة الاختلال لصالح العدوّ، تحت عناوين خَلاصية، من قبيل: "إلى متى نقاتل؟ أما آن لشعبنا أن يستريح؟ لا يمكن أن ننتصر إزاء موازين القوى المختلّة هذه، نحن وحدنا". والمشكلة الكامنة في هذا الفكر الخَلاصي أنه انهزامي في جوهره، وفي دوافعه الرئيسة، وبما يفضي إلى تكريس أو إطالة أمد موازين القوى المختلّة. فمقاومة الضحيّة وحْدَها التي تحفر في جدار تلك الموازين، بطبقاتها السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية. إذ ما الذي يحمل الأقوياء على إضعاف أنفسهم، وتغيير موازينهم لصالح الضعفاء، طالما أنّ الضعفاء قد قرّروا التسليم لتلك الموازين، والدخول في اللعبة بشروط الأقوياء؟!
وجهتا نظر إزاء موازين القوى
- التسليم لموازين القوى
عادة ما تبرز إزاء موازين القوى المختلّة وجهتا نظر متناقضتان، الأولى تدعو لمراعاة تلك الموازين، بالتفاهم مع أصحابها الأقوياء، وهو ما يقتضى حتماً التنازل عن مكوّنات جوهرية في خطاب الضعفاء، وبرنامجهم النضالي. وإذا أمكن تفهّم ذلك في بعض الصراعات غير الجذريّة، والأقل تعقيداً، فإنّه في الصراعات الجذريّة يفضي حتماً إلى تكريس الموازين الظالمة، لا سيما إنْ كفّ الضعفاء عن مقاومتها، واضطروا لتقديم خطاب متصالح معها، مما يحوّلهم بالضرورة إلى جزء من دعايتها.
وبما أنّ تلك الموازين هي التي تمثّل القوّة متعدّدة الطبقات، فإنّ الكفّ عن مقاومتها، والتصالح معها، سينتهي بها (أي منظومة القوّة) إلى ابتلاع الضعفاء الذين كانوا يقاومونها بالأمس، وتحويلهم إلى وكلاء مريحين، وأدوات خادمة، لا سيّما إن أنتج ذلك إعادة هيكلة الضعفاء، في شكل سلطة محدودة، في مجال سلطة الأقوياء القاهرة والمطبقة.
تتضح النتائج المدمّرة في إعادة صياغة مشهديّة الصراع، على المستوى الثقافي والدعائي، بما ينخر في جماهير الضعفاء، ويفتّ من عزيمتها النضالية، ويغرقها في مشهدية سريالية مثيرة للأسى، من حيث انشغالها الزائف بما يناقض حقيقة ما تتعرّض له من سحق لمستقبلها ووجودها السياسي. كما أنّ الاندماج مع منظومة القوّة يساهم في الترويج لدعايتها، كما في انفتاح بوابات التطبيع مع "إسرائيل"، وتمكّنها من إعادة تسويق نفسها بعد اتفاقية أوسلو. فالمشهد السائد هو الهدوء، والتعاون، ورغبة الطرفين في التفاهم! وعربيّاً ستعلو مقولة "لن نكون ملكيين أكثر من الملك! وما يقبل به الفلسطينيون نقبل به!".
والأمر لن يتوقّف على إعادة صياغة صورة الصراع، بما يخدم العدوّ ثقافيّاً ودعائيّاً، ويعيد تشكيل وعي الضعفاء بما يناسب العدوّ. فعلى فداحة ذلك، فإنّ هذا في حدّ ذاته سيسمح للعدوّ بالتمدّد في الواقع المادي، وتكريس نفسه بما يجعل أيّ محاولة تالية للمقاومة صعبة للغاية، وهو أمر ماثل في ساحة الضفّة الغربية، التي ظلّ العدوّ، مستغلاً الفراغ والهدوء، يتمدد فيها استيطانيّاً، ويعيد هندستها استراتيجيّاً وعسكريّاً وأمنيّاً، لا بما يحمي وجوده من أيّ تهديد خارجي فحسب، بل وبما يلغي الوجود السياسي ذا المعنى للفلسطينيين، ويضبط حركتهم تماماً، ويجعلها مستحيلة خارج قدرته على الرصد والمراقبة. فالهندسة الاستعمارية للضفّة، بما يلحقها من عمليات عزل، وفصل، وتقسيم، وتحكم بالمفاصل، وحدّ للحركة، ورصد ومراقبة؛ تفوق التصوّر.
- رفض التسليم لموازين القوى.. موقفان متباينان
يفترض أن تكون خطورة التسليم لموازين القوى في الصراعات الجذرية، بدوافع خَلاصية أو ذرائعية ضيقة، واضحة بداهة، بيد أنّها بعد التجربة تبلغ اليقين في وضوحها، وهو ما يقتضي القول إنّ الطريق الوحيد الصحيح هو رفض التسليم لموازين القوى، وهذا الرفض يتدرج في أساليبه، من الرفض المجرّد إلى المقاومة في أقصى عنفها الممكن، واللجوء للدرجات المتباينة في مستوى قوّة الرفض، يمليه الإدراك لطبيعة موازين القوى وتناقضاتها، مما يعني أن الرفض لا يخلو من الوعي الواقعي والسلوك العملي، لكنّ واقعيته لا تعني أبداً التسليم لتلك الموازين.
ينفتح الرفض لموازين القوى بدوره على موقفين متباينين؛ الموقف المدرك لطبيعة الموازين، ومن ثمّ المدرك للأساليب المناسبة، والتي تضمن استمرارية رفض أطول، ومناعة داخلية أفضل، وقدرة أحسن في التحايل على نقاط تفوّق العدوّ، ومن ثمّ فهو الموقف الواقعي، والآخر الذي يستبطن دافعاً خَلاصيّاً، وهو الذي يذهب بالرفض إلى حدود احتراقية، أو بحسب تعبير الدكتور عبد الوهاب المسيري "النموذج الاحتراقي". وخطورة هذا النموذج تظهر في استنزافه السريع لقدرة الجماهير على الاستمرار في الرفض والمقاومة، واستهلاك الكوادر والعناصر التي تتولى عبء المواجهة.
لقد ظهرت الدوافع الخَلاصية في الانتفاضة الثانية، حينما اعتقد البعض من قادة الفصائل بإمكان أن تنجز الكثافة المسلّحة تحرير الأراضي المحتلة عام 1967. وهذا الضَرب من الاعتقادات يخفي قصوراً عن الوعي بتعقيد الصراع، وموقع الضفّة الغربية في الاستراتيجية الوجودية للاحتلال، ومن ثمّ إفضاؤه إلى نتائج معاكسة؛ في حال لم تسفر الكثافة النضالية الاحتراقية عن تحقيق أهدافها بيد أنّه - أي الدافع الخلاصي في شكله الرفضي - قد يخفي دوافع انهزامية أمام طول أمد الصراع، فتستعجل خلاصاً، أو تستعجل استنفاد ما لديها سريعاً ومرّة واحدة، وهو ما ينتهي إلى نضوب القدرة على المواصلة.
ينبثق عادة عن هذا النوع من السجالات، وفي الصراعات المعقدة، سؤال البديل، وهو سؤال لا يمكن المرور عليه سريعاً، لما ينطوي عليه في بعض أحواله من تضليل، بيد أنّه وفي مكانه هنا - إذ يفترض أن نبسط حيّزاً خاصّاً به لاحقاً - يمكن القول إن البديل هو في الأصل، أي بالخروج من الاستثناء الذي فرضه التفاهم مع العدوّ، وبالتخلص من الفكر الخَلاصي، ومن المسلكيات الاحتراقية، بالتمتع بطول النفس في الصراعات الطويلة، الذي يضمن بمجرد الصراع وعياً متحفّزاً عند الشعب، ويحرم العدوّ من دعايته، ويُمكّن من التحايل على نقاط قوّته، وذلك بمستويات رفض ومقاومة؛ تراعي ضرورات تعزيز صمود الناس في أرضهم، وممكنات طول المقاومة، واستيعاب الضربات الناجمة عن الصراع مع العدوّ المتفوق من حيث القوّة.
المصدر: عربي21