قراءة في كتاب العيساوية: روايات العزل والفصل

كمال جهاد الجعبري
25-01-2021
قراءة في كتاب العيساوية: روايات العزل والفصل

كمال الجعبري

باحث فلسطيني

روايات العزل والفصل

المؤلف: أحمد عز الدين أسعد

مكان النشر: القدس

الناشر: مركز القدس للمساعدة القانونية وحقوق الإنسان

عدد الصفحات:48

سنة النشر: 2020

 

غزة الصغرى أو القرية المنسية، بلدةٌ شاء الله أنّ تشكل لعنةً جغرافيةً على المحتل، وشوكةً في حلق المحتل، إذ تقع العيساوية في موقعٍ بين مستوطنتي التلة الفرنسية، والجامعة العبرية، ما جعلها في قلب الأحداث الساخنة والمواجهات في القدس خلال كل موجة تصعيد تمر بها القدس المحتلة، وانعكس ذلك على دور العيساوية في فعاليات المقاومة الشعبية في القدس، ومن هنا تكمن أهمية تحليل المشهد اليومي، والواقع الذي يعايشه المقدسي في العيساوية، ومن هنا تولدت أهمية الكتاب، أو الدراسة التي أعدها الباحث الفلسطيني أحمد عز الدين أسعد، تحت عنوان (العيساوية: روايات العزل)، الصادر عن مركز القدس للمساعدة القانونية وحقوق الإنسان.




مؤلف الكتاب

أحمد عز الدين أسعد مؤلف الكتاب، باحثٌ مختصٌ في الدراسات العربية والإسرائيلية، حصل على الشهادة الجامعية الأولى في تخصص علم الاجتماع من جامعة بيت لحم، والماجستير في الدراسات الدراسات العربية المعاصرة من جامعة بير زيت، وأيضًا في الدراسات الإسرائيلية من نفس الجامعة.

كتب أحمد عز العديد من الأبحاث المهمة في دراسة الحراكات الشعبية في فلسطين، مثل: "سيسيولوجيا المقاومة والحراك في فضاءات مدينة القدس المستعمرة"، الصادر عن مركز أبحاث منظمة التحرير الفلسطينية، في العام 2017، والذي درس الحراك الشعبي، والمقاومة الشعبية في القدس، خلال انتفاضة القدس (هبة السكاكين)، مركزًا على أحداث هبة باب الأسباط، واعتمد عز في معالجته هذا البحث على المعايشة والمشاهدة والرصد من الداخل، كما هو الحال مع كتابه الذي نتناوله اليوم، "العيساوية: روايات العزل والفصل"، بخلاف ما اعتمد عليه أحمد عز في كتابه "على أُهبة الفجر: العصيان المدني والحياة اليومية في بيت ساحور"، الذي سيصدر قريباً عن مشروع بحث وتوثيق القضية الفلسطينية في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، فقد استخدم في أحمد عز في بنائه المواد الأرشيفية، من: بياناتٍ للقيادة الموحدة للانتفاضة، ومجلاتٍ ونشراتٍ سردت حكاية الإضراب والعصيان المدني في بيت ساحور، خلال الانتفاضة الفلسطينية الأولى، ودعّم ذلك بعددٍ من المقابلات الشفوية التي أجراها مع من عاصروا الحدث.




بين دفتيّ الكتاب

يقع الكتاب في 48 صفحة تحوي 12 فصلاً، من بينها مقدمة الكتاب التي أشارت إلى أنّ مبحث هذا الكتاب هو دراسة السياسات الاستعمارية التي يطبقها الاحتلال الإسرائيلي تجاه العيساوية، إذ بدأ الاستهداف الصهيوني للعيساوية، قبل إنشاء الكيان الصهيوني، حينما اغتصبت كلٌ من مستوطنتيّ الجامعة العبرية، والتلة الفرنسية، أجزاء من الأراضي التاريخية للعيساوية، وبعد الاحتلال الإسرائيلي لشرق مدينة القدس، في 7 حزيران 1967، ضُمت العيساوية إلى أحياء بلدية الاحتلال في القدس، ليبدأ تهويد العيساوية واستهدافها بتغيير تعريفها من قرية من قرى قضاء القدس، إلى حيٍ من أحيائها، خاضعٍ للاحتلال الإسرائيلي، أو تجري محاولات إخضاعه بمعنى أدق.

العيساوية تحت المجهر

في فصول الكتاب الأولى لمحة عامة تتضمن المعلومات والحقائق الجغرافية والتاريخية والديموغرافية حول بلدة العيساوية، ويعرّج الباحث على خارطة التوجهات السياسية والتنظيمية لأهالي العيساوية، معتمدًا على عدد من المصادر الأولية، مثل كتاب "بلادنا فلسطين"، للمؤرخ الفلسطيني مصطفى مراد الدباغ، مدعمًا ذلك بمصادره الحية من مقابلاتٍ شفوية، أسند بها نص الكتاب في معظم فصوله.



سياسات المحو – عرب أقل أرض أكثر

تضمنت، أيضًا، الفصول الأولى من الكتاب تأطيرًا وتفسيرًا نظريًّا لسياسة الاحتلال الإسرائيلي تجاه العيساوية، وينطلق التأطير النظري في الكتاب من استعراض النظريات التي يمكن من خلالها تعريف الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، بشكل عام، نموذجًا للاستعمار الاستيطاني، مثل نظريّات كلٍ من: المؤرخ الأسترالي باتريك وولف، والباحث الأسترالي فلورنزو فراسيني، والباحث الفلسطيني ساري حنفي، الذي زاد في تعريف ممارسات الاحتلال الإسرائيلي، حين عرف التطهير المكاني، بأنه أهم مهمات الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي لفلسطين.

ومن الأطر النظرية التي عرضها الباحث، في الفصول الأولى من الكتاب، مفهوم تخطيط الهيمنة الذي عرضه الباحث الفلسطيني يوسف جبارين، والذي يعدّ ما طبقته سلطات الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، مثالاً لما تطبقه سلطات الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين، والقدس تحديدًا.

وفي الفصل الرابع من الكتاب يبدأ الباحث في استعراض واستقراء الاعتداءات الإسرائيلية تجاه العيساوية وأهلها، ويتبع أحمد عز في هذا الفصل أسلوب إيراد الإحصائيات والأرقام، والمعلومات حول اعتداءات الاحتلال الإسرائيلي في العيساوية، من: اقتحاماتٍ، واعتقالاتٍ، وحبسٍ منزلي، ومداهمة البيوت وتفتيشها، واستهدافٍ للعيون خلال المواجهات، مستندًا إلى عددٍ من التقارير التي أعدتها جهاتٌ دوليةٌ، مثل مكتب الأمم المتحدة في الأرض المحتلة (أوتشا)، والتقارير الميدانية من إعداد مركز معلومات وادي حلوة، مدعمًا ذلك بعددٍ من المقابلات الشفوية مع من تضرروا من اعتداءات الاحتلال الإسرائيلي من أهالي العيساوية.

يحاول أحمد عز الدين، في الفصل الرابع من كتابه، تفسير عددٍ من السياسات التعسفية التي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي تجاه أهالي العيساوية، مثل الاعتقالات والإبعادات المتكررة، ضمن مبدأ أرض أكثر، عرب أقل، الذي تناوله الباحث نور الدين مصالحة، في كتابه "أرض أكثر عرب أقل" المنشور من مؤسسة الدراسات الفلسطينية، في بيروت، في العام 2002، والذي يشير للسعي الإسرائيلي المتكرر منذ توقيع اتفاقية أوسلو إلى قضم أكبر مساحة ممكنة من أراضي الضفة الغربية، والقدس ولكن بدون أهلها، وهذا ما يفسر حجم الاستهداف الكمي والنوعي الهائل لأهالي العيساوية، فجغرافية البلدة مهمةٌ للغاية بالنسبة للاحتلال، ولكن بدون أهلها.

لا تتوقف سياسات الاحتلال تجاه العيساوية على ما يجري في الميدان من اعتداءات، بل إنّ جانبًا لا يقل خطورةً عن ذلك تنطوي عليه الخطط الهيكلية التي أعدتها بلدية الاحتلال الإسرائيلي في القدس للبلدة، إذ تستثني تلك الخطط أكثر من 90٪ من أراضي العيساوية التاريخية من التنظيم، مانعةً أهلها من استخدامها للبناء أو الزراعة، مبقيةً لأهالي العيساوية 1500 دونم، هي مساحة المناطق المبنية اليوم في العيساوية، والتي تُعاني من الاكتظاظ، وتهالك البنية التحتية، والمعزولة بسبب وقوعها ضمن تجمع استيطاني، وكأنها سجنٌ كبير، ولربما لهذا السبب سُميّت العيساوية بـ(غزة الصغرى).

ويُقَسّم الباحث، خلال ما يعرضه ضمن الفصل الرابع من كتابه، سياسات الاحتلال الإسرائيلي تجاه العيساوية إلى سياسات هندسة عرقية، وسياسات تسييج ومحو، وتتمثل الأخيرة في هدم المنازل، وقد أورد الباحث شهاداتٍ شفوية حوله، دون إدراج أرقام تدلل عليه، خلال السنوات الثلاث الأخيرة، على الرغم من توفر ذلك في معظم التقارير السنوية، الصادرة عن مؤسسات فلسطينية ترصد اعتداءات الاحتلال الإسرائيلي في القدس، ولكن عند الحديث عن سياسات المحو الثقافي التي يمارسها الاحتلال باستهدافه قطاع التعليم في العيساوية، أورد الباحث أرقامًا تشير إلى الاكتظاظ الذي تعاني منه مدارس العيساوية، بسبب منع الاحتلال بناء المزيد من المدارس الخاصة في البلدة.




القوى الناعمة – أسلوبٌ فاشل في العيساوية

يختم الباحث الفصل الرابع من كتابه، وهو الأغنى بالمعلومات والتأطير النظري، بالحديث عن المحاولات الإسرائيلية الفاشلة لاستخدام القوى الناعمة وسيلة لتركيع العيساوية، وتطويعها، وذلك عبر إقامة مركز الاتصال الجماهيري التابع لسلطات الاحتلال فيها، والذي لم يعمل طويلاً فيها، فبعد سنتين من افتتاحه، تعرض للإحراق على يد شباب البلدة، بعد استشهاد محمد سمير عبيد، في حزيران 2019.

تخطيط الهيمنة والقرية المنسية

يكرر الباحث، في الفصل الخامس من الكتاب، الحديث عن تخطيط الهيمنة المتبع من الاحتلال مع العيساوية، مسلطًا الضوء على سياسات العزل، وانعدام التخطيط، أو توظيفه لمصلحة الاحتلال، الذي يسعى لتحويل العيساوية إلى جزيرة معزولة عن محيطها العربي، في مركز القدس، وفي ذات الوقت يقوّض الاحتلال كل سبل الاكتفاء الذاتي والصمود فيها ليجعل من الحياة في العيساوية، أمرًا شبه مستحيل.

وتضمن الفصل الخامس شهاداتٍ مهمةً لعدد من أهالي العيساوية حول دور ضباط (الشباك)، الذين يفرزهم الجهاز للبلدة في محاولات إحداث الفتن وضرب الجبهة الداخلية للعيساوية.




يوميات العزل والمعاناة

يستعرض الكتاب، في فصله السادس، تفاصيل المعاناة اليومية للمواطن الفلسطيني المقدسي في العيساوية، عبر استعراض عددٍ من الشهادات الحية للطلاب والتجار والسيدات في العيساوية، ووجهاء البلدة الذين تحدثوا عن مشكلة الاكتظاظ السكاني في العيساوية، وتهالك البنيان فيها، وتزيد اقتحامات قوات الاحتلال شبه اليومية لها من معاناة المواطنين فيها.

ومما يلفت النظر في الفصلين السابع والثامن من الكتاب اعتمادهما على ذكر ما ورد من عيّنات المبحوثين، من أهالي العيساوية، دون تدخلٍ في التحليل أو التقييم من الباحث، فنلاحظ مثلاً أنّ بعض شهود العيان يشيرون إلى أنّ تحسن الأوضاع في العيساوية بما في ذلك وقف الهدم داخل القرية، يأتي مقابل إنشاء الاحتلال لحديقة (وطنية) إسرائيلية استيطانية على الأراضي التاريخية للعيساوية، أو مقابل توقف فعاليات المقاومة الشعبية في البلدة، أي مقابل (الهدوء).

تبدو المعالجة قاصرة على عرض توصيف عيّنات من المبحوثين، دون إبداء موقف، أو تحليل للمشهد، ولكن على الرغم من ذلك يحتوي الفصل الثامن من الكتاب على مجموعةٍ من الشهادات الحية التي تصف حالة التضامن وقوة النسيج المجتمعي في العيساوية، بوصفها ضربًا من ضروب الصمود المقاوم، كما يصفها الباحث.




أوسلو وتكريس عزل القدس والعيساوية

يتطرق الكتاب في فصله التاسع لموضوعٍ جريءٍ ومهمٍ، ليس على صعيد العيساوية فحسب، بل عل الصعيد المقدسي ككل، وهو دور السلطة الفلسطينية في تعزيز صمود المقدسيين، وخاصة أولئك القاطنين، ضمن حدود ما يسمى ببلدية الاحتلال الإسرائيلي، إذ يسلط الباحث الضوء عبر استعراضه لعددٍ من الشهادات الحية إلى ما أسست له أوسلو من انقسامٍ فلسطينيٍ، وعزلٍ لمدينة القدس، والعيساوية بطبيعة الحال عن محيطها وامتدادها الفلسطيني، في الضفة الغربية.

فقد أصبح تحويل الدعم المالي بالطرق الرسمية من السلطة الفلسطينية، الناتجة عن تفاهمات أوسلو، للمجالس القروية والمؤسسات الفلسطينية، ضمن المناطق الخاضعة لبلدية الاحتلال في القدس، كتحويل الدعم من دولةٍ إلى أخرى، فيما حوّلت حواجز الاحتلال عملية انتقال المسؤولين الفلسطينيين إلى ما هو أشبه بالمرور عبر المعابر الدولية، وكما يقول المواطن خالد الرشق، أحد أهالي العيساوية، الذين أجريت معهم مقابلات الكتاب: " أهل العيساوية بقلعوا شوكهم بإيدهم".

في تلك الظروف برز للواجهة لاعبٌ جديدٌ في مضمار التمثيل السياسي لأهالي العيساوية والقدس، وهم النواب العرب في الكنيست الإسرائيلي، والذين لا يعدوا دورهم المطالبة بتخفيف المعاناة عن العيساوية، واللعب على وتر الهدوء والتسويات، وهذا الذي لم يتطرق الكتاب أيضًا لتحليله وتوصيفه.

صوت المظلومين

في الفصل العاشر من الكتاب، يبدو إيقاع أصوات أهالي العيساوية عاليًا، معبرين فيه عن ما يحتاجونه، فقد أجمعت فيه آراء من أجريت معهم المقابلات على أنّ المخطط الهيكلي الصادر من بلدية الاحتلال، يجب أن يعترف بكامل مساحة العيساوية التاريخية، وأن يتيح للمواطنين التوسع أفقيًا وعموديًا في البناء، بحيث يبلي الاحتياج الأساسي للمواطنين في العيساوية.

تنوعت باقي الاحتياجات التي عبّر أهالي العيساوية عنها، بين: وجود المؤسسات الفلسطينية الأهلية الفاعلة في البلدة، وزيادة التوعية والدعم القانوني الموجه لأهالي العيساوية، وتأهيل البنية التحتية في البلدة.




المشهد العام

تتضمن خاتمة الكتاب محاولة تلخيص وتوصيف للوضع الميداني الجيوسياسي والاقتصادي والاجتماعي للعيساوية، وتشريح الاعتداءات، أو الانتهاكات، كما يصفها الباحث، والتي تتعرض لها العيساوية، إذ يؤكد أحمد عز أنّ كافة أشكال الاعتداءات والاستهداف الإسرائيلي للعيساوية تصب في مسار تنفيذ سياسات المحو والإزالة للمقدسي بكافة أشكالها: الثقافية والاقتصادية والمكانية، وتحويل العيساوية إلى أمثولة اجتماعية، يتم من خلالها كيّ الوعي الجمعي للمقدسيين.




توصيات بانتظار المبادرة

يخرج كتاب "العيساوية: روايات العزل والفصل" بعددٍ من التوصيات الموجهة للجهات الرسمية والشعبية والأهلية الفلسطينية، مثل: توثيق الاعتداءات التي تجري تجاه المواطنين في العيساوية، وخاصةً تلك التي تستهدف الأطفال فيها، وإنتاج فيلم وثائقي يعرض المعاناة اليومية للمقدسيين في العيساوية، والعمل على إنشاء مؤسسات ترفيهية وتثقيفية لمختلف فئات المجتمع في البلدة، وإطلاق حملات شعبية داعية لإصدار مخطط هيكلي يراعي الحاجات السكانية والعمرانية لأهالي العيساوية.




ما يميز الكتاب

يقدم الكتاب نفسه ناقلاً لروايات العزل والاستهداف من الاحتلال الإسرائيلي في العيساوية، بلسان أهلها، وهذا ما قدمه الكتاب فعلاً عبر 15 مقابلة تنوعت بين مختلف شرائح ومكونات المقدسيين في العيساوية، وفي جزءٍ من التأطير النظري لتفسير سلوك الاحتلال الإسرائيلي في العيساوية، استند الباحث لنظريات باحثين فلسطينيين، مثل: نور الدين مصالحة، وساري حنفي، ويوسف جبارين، كما قدم الكتاب رؤيةً عمليةً، وإن اختلفنا معها في بعض حيثيّاتها، في سبيل تمكين ودعم المقدسيين الصامدين في العيساوية. قراءة في كتاب العيساوية: روايات العزل والفصل

كمال الجعبري

باحث فلسطيني

المؤلف: أحمد عز الدين أسعد

مكان النشر: القدس

الناشر: مركز القدس للمساعدة القانونية وحقوق الإنسان

عدد الصفحات:48

سنة النشر: 2020

 

غزة الصغرى أو القرية المنسية، بلدةٌ شاء الله أنّ تشكل لعنةً جغرافيةً على المحتل، وشوكةً في حلق المحتل، إذ تقع العيساوية في موقعٍ بين مستوطنتي التلة الفرنسية، والجامعة العبرية، ما جعلها في قلب الأحداث الساخنة والمواجهات في القدس خلال كل موجة تصعيد تمر بها القدس المحتلة، وانعكس ذلك على دور العيساوية في فعاليات المقاومة الشعبية في القدس، ومن هنا تكمن أهمية تحليل المشهد اليومي، والواقع الذي يعايشه المقدسي في العيساوية، ومن هنا تولدت أهمية الكتاب، أو الدراسة التي أعدها الباحث الفلسطيني أحمد عز الدين أسعد، تحت عنوان (العيساوية: روايات العزل)، الصادر عن مركز القدس للمساعدة القانونية وحقوق الإنسان.




مؤلف الكتاب

أحمد عز الدين أسعد مؤلف الكتاب، باحثٌ مختصٌ في الدراسات العربية والإسرائيلية، حصل على الشهادة الجامعية الأولى في تخصص علم الاجتماع من جامعة بيت لحم، والماجستير في الدراسات الدراسات العربية المعاصرة من جامعة بير زيت، وأيضًا في الدراسات الإسرائيلية من نفس الجامعة.

كتب أحمد عز العديد من الأبحاث المهمة في دراسة الحراكات الشعبية في فلسطين، مثل: "سيسيولوجيا المقاومة والحراك في فضاءات مدينة القدس المستعمرة"، الصادر عن مركز أبحاث منظمة التحرير الفلسطينية، في العام 2017، والذي درس الحراك الشعبي، والمقاومة الشعبية في القدس، خلال انتفاضة القدس (هبة السكاكين)، مركزًا على أحداث هبة باب الأسباط، واعتمد عز في معالجته هذا البحث على المعايشة والمشاهدة والرصد من الداخل، كما هو الحال مع كتابه الذي نتناوله اليوم، "العيساوية: روايات العزل والفصل"، بخلاف ما اعتمد عليه أحمد عز في كتابه "على أُهبة الفجر: العصيان المدني والحياة اليومية في بيت ساحور"، الذي سيصدر قريباً عن مشروع بحث وتوثيق القضية الفلسطينية في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، فقد استخدم في أحمد عز في بنائه المواد الأرشيفية، من: بياناتٍ للقيادة الموحدة للانتفاضة، ومجلاتٍ ونشراتٍ سردت حكاية الإضراب والعصيان المدني في بيت ساحور، خلال الانتفاضة الفلسطينية الأولى، ودعّم ذلك بعددٍ من المقابلات الشفوية التي أجراها مع من عاصروا الحدث.




بين دفتيّ الكتاب

يقع الكتاب في 48 صفحة تحوي 12 فصلاً، من بينها مقدمة الكتاب التي أشارت إلى أنّ مبحث هذا الكتاب هو دراسة السياسات الاستعمارية التي يطبقها الاحتلال الإسرائيلي تجاه العيساوية، إذ بدأ الاستهداف الصهيوني للعيساوية، قبل إنشاء الكيان الصهيوني، حينما اغتصبت كلٌ من مستوطنتيّ الجامعة العبرية، والتلة الفرنسية، أجزاء من الأراضي التاريخية للعيساوية، وبعد الاحتلال الإسرائيلي لشرق مدينة القدس، في 7 حزيران 1967، ضُمت العيساوية إلى أحياء بلدية الاحتلال في القدس، ليبدأ تهويد العيساوية واستهدافها بتغيير تعريفها من قرية من قرى قضاء القدس، إلى حيٍ من أحيائها، خاضعٍ للاحتلال الإسرائيلي، أو تجري محاولات إخضاعه بمعنى أدق.

العيساوية تحت المجهر

في فصول الكتاب الأولى لمحة عامة تتضمن المعلومات والحقائق الجغرافية والتاريخية والديموغرافية حول بلدة العيساوية، ويعرّج الباحث على خارطة التوجهات السياسية والتنظيمية لأهالي العيساوية، معتمدًا على عدد من المصادر الأولية، مثل كتاب "بلادنا فلسطين"، للمؤرخ الفلسطيني مصطفى مراد الدباغ، مدعمًا ذلك بمصادره الحية من مقابلاتٍ شفوية، أسند بها نص الكتاب في معظم فصوله.




سياسات المحو – عرب أقل أرض أكثر

تضمنت، أيضًا، الفصول الأولى من الكتاب تأطيرًا وتفسيرًا نظريًّا لسياسة الاحتلال الإسرائيلي تجاه العيساوية، وينطلق التأطير النظري في الكتاب من استعراض النظريات التي يمكن من خلالها تعريف الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، بشكل عام، نموذجًا للاستعمار الاستيطاني، مثل نظريّات كلٍ من: المؤرخ الأسترالي باتريك وولف، والباحث الأسترالي فلورنزو فراسيني، والباحث الفلسطيني ساري حنفي، الذي زاد في تعريف ممارسات الاحتلال الإسرائيلي، حين عرف التطهير المكاني، بأنه أهم مهمات الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي لفلسطين.

ومن الأطر النظرية التي عرضها الباحث، في الفصول الأولى من الكتاب، مفهوم تخطيط الهيمنة الذي عرضه الباحث الفلسطيني يوسف جبارين، والذي يعدّ ما طبقته سلطات الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، مثالاً لما تطبقه سلطات الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين، والقدس تحديدًا.

وفي الفصل الرابع من الكتاب يبدأ الباحث في استعراض واستقراء الاعتداءات الإسرائيلية تجاه العيساوية وأهلها، ويتبع أحمد عز في هذا الفصل أسلوب إيراد الإحصائيات والأرقام، والمعلومات حول اعتداءات الاحتلال الإسرائيلي في العيساوية، من: اقتحاماتٍ، واعتقالاتٍ، وحبسٍ منزلي، ومداهمة البيوت وتفتيشها، واستهدافٍ للعيون خلال المواجهات، مستندًا إلى عددٍ من التقارير التي أعدتها جهاتٌ دوليةٌ، مثل مكتب الأمم المتحدة في الأرض المحتلة (أوتشا)، والتقارير الميدانية من إعداد مركز معلومات وادي حلوة، مدعمًا ذلك بعددٍ من المقابلات الشفوية مع من تضرروا من اعتداءات الاحتلال الإسرائيلي من أهالي العيساوية.

يحاول أحمد عز الدين، في الفصل الرابع من كتابه، تفسير عددٍ من السياسات التعسفية التي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي تجاه أهالي العيساوية، مثل الاعتقالات والإبعادات المتكررة، ضمن مبدأ أرض أكثر، عرب أقل، الذي تناوله الباحث نور الدين مصالحة، في كتابه "أرض أكثر عرب أقل" المنشور من مؤسسة الدراسات الفلسطينية، في بيروت، في العام 2002، والذي يشير للسعي الإسرائيلي المتكرر منذ توقيع اتفاقية أوسلو إلى قضم أكبر مساحة ممكنة من أراضي الضفة الغربية، والقدس ولكن بدون أهلها، وهذا ما يفسر حجم الاستهداف الكمي والنوعي الهائل لأهالي العيساوية، فجغرافية البلدة مهمةٌ للغاية بالنسبة للاحتلال، ولكن بدون أهلها.

لا تتوقف سياسات الاحتلال تجاه العيساوية على ما يجري في الميدان من اعتداءات، بل إنّ جانبًا لا يقل خطورةً عن ذلك تنطوي عليه الخطط الهيكلية التي أعدتها بلدية الاحتلال الإسرائيلي في القدس للبلدة، إذ تستثني تلك الخطط أكثر من 90٪ من أراضي العيساوية التاريخية من التنظيم، مانعةً أهلها من استخدامها للبناء أو الزراعة، مبقيةً لأهالي العيساوية 1500 دونم، هي مساحة المناطق المبنية اليوم في العيساوية، والتي تُعاني من الاكتظاظ، وتهالك البنية التحتية، والمعزولة بسبب وقوعها ضمن تجمع استيطاني، وكأنها سجنٌ كبير، ولربما لهذا السبب سُميّت العيساوية بـ(غزة الصغرى).

ويُقَسّم الباحث، خلال ما يعرضه ضمن الفصل الرابع من كتابه، سياسات الاحتلال الإسرائيلي تجاه العيساوية إلى سياسات هندسة عرقية، وسياسات تسييج ومحو، وتتمثل الأخيرة في هدم المنازل، وقد أورد الباحث شهاداتٍ شفوية حوله، دون إدراج أرقام تدلل عليه، خلال السنوات الثلاث الأخيرة، على الرغم من توفر ذلك في معظم التقارير السنوية، الصادرة عن مؤسسات فلسطينية ترصد اعتداءات الاحتلال الإسرائيلي في القدس، ولكن عند الحديث عن سياسات المحو الثقافي التي يمارسها الاحتلال باستهدافه قطاع التعليم في العيساوية، أورد الباحث أرقامًا تشير إلى الاكتظاظ الذي تعاني منه مدارس العيساوية، بسبب منع الاحتلال بناء المزيد من المدارس الخاصة في البلدة.




القوى الناعمة – أسلوبٌ فاشل في العيساوية

يختم الباحث الفصل الرابع من كتابه، وهو الأغنى بالمعلومات والتأطير النظري، بالحديث عن المحاولات الإسرائيلية الفاشلة لاستخدام القوى الناعمة وسيلة لتركيع العيساوية، وتطويعها، وذلك عبر إقامة مركز الاتصال الجماهيري التابع لسلطات الاحتلال فيها، والذي لم يعمل طويلاً فيها، فبعد سنتين من افتتاحه، تعرض للإحراق على يد شباب البلدة، بعد استشهاد محمد سمير عبيد، في حزيران 2019.

تخطيط الهيمنة والقرية المنسية

يكرر الباحث، في الفصل الخامس من الكتاب، الحديث عن تخطيط الهيمنة المتبع من الاحتلال مع العيساوية، مسلطًا الضوء على سياسات العزل، وانعدام التخطيط، أو توظيفه لمصلحة الاحتلال، الذي يسعى لتحويل العيساوية إلى جزيرة معزولة عن محيطها العربي، في مركز القدس، وفي ذات الوقت يقوّض الاحتلال كل سبل الاكتفاء الذاتي والصمود فيها ليجعل من الحياة في العيساوية، أمرًا شبه مستحيل.

وتضمن الفصل الخامس شهاداتٍ مهمةً لعدد من أهالي العيساوية حول دور ضباط (الشباك)، الذين يفرزهم الجهاز للبلدة في محاولات إحداث الفتن وضرب الجبهة الداخلية للعيساوية.




يوميات العزل والمعاناة

يستعرض الكتاب، في فصله السادس، تفاصيل المعاناة اليومية للمواطن الفلسطيني المقدسي في العيساوية، عبر استعراض عددٍ من الشهادات الحية للطلاب والتجار والسيدات في العيساوية، ووجهاء البلدة الذين تحدثوا عن مشكلة الاكتظاظ السكاني في العيساوية، وتهالك البنيان فيها، وتزيد اقتحامات قوات الاحتلال شبه اليومية لها من معاناة المواطنين فيها.

ومما يلفت النظر في الفصلين السابع والثامن من الكتاب اعتمادهما على ذكر ما ورد من عيّنات المبحوثين، من أهالي العيساوية، دون تدخلٍ في التحليل أو التقييم من الباحث، فنلاحظ مثلاً أنّ بعض شهود العيان يشيرون إلى أنّ تحسن الأوضاع في العيساوية بما في ذلك وقف الهدم داخل القرية، يأتي مقابل إنشاء الاحتلال لحديقة (وطنية) إسرائيلية استيطانية على الأراضي التاريخية للعيساوية، أو مقابل توقف فعاليات المقاومة الشعبية في البلدة، أي مقابل (الهدوء).

تبدو المعالجة قاصرة على عرض توصيف عيّنات من المبحوثين، دون إبداء موقف، أو تحليل للمشهد، ولكن على الرغم من ذلك يحتوي الفصل الثامن من الكتاب على مجموعةٍ من الشهادات الحية التي تصف حالة التضامن وقوة النسيج المجتمعي في العيساوية، بوصفها ضربًا من ضروب الصمود المقاوم، كما يصفها الباحث.




أوسلو وتكريس عزل القدس والعيساوية

يتطرق الكتاب في فصله التاسع لموضوعٍ جريءٍ ومهمٍ، ليس على صعيد العيساوية فحسب، بل عل الصعيد المقدسي ككل، وهو دور السلطة الفلسطينية في تعزيز صمود المقدسيين، وخاصة أولئك القاطنين، ضمن حدود ما يسمى ببلدية الاحتلال الإسرائيلي، إذ يسلط الباحث الضوء عبر استعراضه لعددٍ من الشهادات الحية إلى ما أسست له أوسلو من انقسامٍ فلسطينيٍ، وعزلٍ لمدينة القدس، والعيساوية بطبيعة الحال عن محيطها وامتدادها الفلسطيني، في الضفة الغربية.

فقد أصبح تحويل الدعم المالي بالطرق الرسمية من السلطة الفلسطينية، الناتجة عن تفاهمات أوسلو، للمجالس القروية والمؤسسات الفلسطينية، ضمن المناطق الخاضعة لبلدية الاحتلال في القدس، كتحويل الدعم من دولةٍ إلى أخرى، فيما حوّلت حواجز الاحتلال عملية انتقال المسؤولين الفلسطينيين إلى ما هو أشبه بالمرور عبر المعابر الدولية، وكما يقول المواطن خالد الرشق، أحد أهالي العيساوية، الذين أجريت معهم مقابلات الكتاب: " أهل العيساوية بقلعوا شوكهم بإيدهم".

في تلك الظروف برز للواجهة لاعبٌ جديدٌ في مضمار التمثيل السياسي لأهالي العيساوية والقدس، وهم النواب العرب في الكنيست الإسرائيلي، والذين لا يعدوا دورهم المطالبة بتخفيف المعاناة عن العيساوية، واللعب على وتر الهدوء والتسويات، وهذا الذي لم يتطرق الكتاب أيضًا لتحليله وتوصيفه.

صوت المظلومين

في الفصل العاشر من الكتاب، يبدو إيقاع أصوات أهالي العيساوية عاليًا، معبرين فيه عن ما يحتاجونه، فقد أجمعت فيه آراء من أجريت معهم المقابلات على أنّ المخطط الهيكلي الصادر من بلدية الاحتلال، يجب أن يعترف بكامل مساحة العيساوية التاريخية، وأن يتيح للمواطنين التوسع أفقيًا وعموديًا في البناء، بحيث يبلي الاحتياج الأساسي للمواطنين في العيساوية.

تنوعت باقي الاحتياجات التي عبّر أهالي العيساوية عنها، بين: وجود المؤسسات الفلسطينية الأهلية الفاعلة في البلدة، وزيادة التوعية والدعم القانوني الموجه لأهالي العيساوية، وتأهيل البنية التحتية في البلدة.




المشهد العام

تتضمن خاتمة الكتاب محاولة تلخيص وتوصيف للوضع الميداني الجيوسياسي والاقتصادي والاجتماعي للعيساوية، وتشريح الاعتداءات، أو الانتهاكات، كما يصفها الباحث، والتي تتعرض لها العيساوية، إذ يؤكد أحمد عز أنّ كافة أشكال الاعتداءات والاستهداف الإسرائيلي للعيساوية تصب في مسار تنفيذ سياسات المحو والإزالة للمقدسي بكافة أشكالها: الثقافية والاقتصادية والمكانية، وتحويل العيساوية إلى أمثولة اجتماعية، يتم من خلالها كيّ الوعي الجمعي للمقدسيين.




توصيات بانتظار المبادرة

يخرج كتاب "العيساوية: روايات العزل والفصل" بعددٍ من التوصيات الموجهة للجهات الرسمية والشعبية والأهلية الفلسطينية، مثل: توثيق الاعتداءات التي تجري تجاه المواطنين في العيساوية، وخاصةً تلك التي تستهدف الأطفال فيها، وإنتاج فيلم وثائقي يعرض المعاناة اليومية للمقدسيين في العيساوية، والعمل على إنشاء مؤسسات ترفيهية وتثقيفية لمختلف فئات المجتمع في البلدة، وإطلاق حملات شعبية داعية لإصدار مخطط هيكلي يراعي الحاجات السكانية والعمرانية لأهالي العيساوية.




ما يميز الكتاب

يقدم الكتاب نفسه ناقلاً لروايات العزل والاستهداف من الاحتلال الإسرائيلي في العيساوية، بلسان أهلها، وهذا ما قدمه الكتاب فعلاً عبر 15 مقابلة تنوعت بين مختلف شرائح ومكونات المقدسيين في العيساوية، وفي جزءٍ من التأطير النظري لتفسير سلوك الاحتلال الإسرائيلي في العيساوية، استند الباحث لنظريات باحثين فلسطينيين، مثل: نور الدين مصالحة، وساري حنفي، ويوسف جبارين، كما قدم الكتاب رؤيةً عمليةً، وإن اختلفنا معها في بعض حيثيّاتها، في سبيل تمكين ودعم المقدسيين الصامدين في العيساوية.