قراءة نقدية لرواية أرض قديمة جديدة للكاتب: بنيامين زئيف هرتسل
لقد اهتم الصهاينة بالأدب كسلاح أساسي في بناء المشروع الصهيوني، ليس بأقل من اهتمامهم بالوسائل السياسية، ولا شك ان رواية ارض قديمة جديدة التي تخيل فيها هرتسل كيف ستكون فلسطين عندما يعود اليها اليهود، متسلحين بالإرادة والعلم والتحالف مع المسيحية الأوروبية التي جسدها في شخص كينغزكورت، مجسدا اليهود او كيف يتمنى ان يكونوا بشخص دافيد ليفتاك الطموح والمسكون بضرورة العودة الى فلسطين كشرط لتحقيق الاحلام، هي رواية معبرة عن عقلية الاستعمار الاستيطاني في بداية نشأته.
يبدع الكاتب في وصف تعلق اليهود بفلسطين على لسان الصبي الفقير، واملهم الشبه اكيد بالعودة الى هناك من خلال الوعد الذي قطعه الصبي لفريدريك بان يسد له النقود عندما يعود الى وطن الأجداد، ويصبح قويا وكأنه يريد القول ان هذا اليهودي المستضعف الفقير سيتحول الى غني قوي بمجرد العودة الى فلسطين، (" وماذا تبغي ان تكون في المستقبل؟" " اريد ان اتعلم.. ان اتعلم كثيرا"، وعندئذ سنذهب الى ارض إسرائيل."، " الى فلسطين؟ وماذا تفعلون هناك؟" " انه وطننا.. وهناك نستطيع ان نكون سعداء"[1] كما انه عاد ليؤكد على ذلك في الحوار بين فريدريك وكينغزكورت.
يأتي ذلك بعد ان وصفت الرواية حالة اليهودي في أوروبا الممتلئة عزلة وفقر الا إذا انغمس في نفاق الطبقة الارستقراطية، "اذن؟ ما عليك الا ان تدخل هذا الوسط من عائلة لفلر وتتكيف معه،...وتدافع عن قضايا أصحاب مال يشك في نزاهتهم،.... او ان كنت تكره كل هذه الأمور-فليس امامك غير العزلة والفقر[2].
يعبر هرتسل عن ضرورة تسلح اليهود بالإرادة واثبات ذاتهم بين الأمم وانهم يستحقون الاحترام من خلال قصة الجندي كوهين الذي اثبت قدراته وحظي باحترام قائده بعد ان قفز بالحصان من على الحاجز، (" وماذا بوسع اليهود ان يفعلوا؟، ان عليهم ان يفعلوا امرا شبيها بما فعل كوهين.. لقد شعرت ازاءه بنوع من الاحترام،...لو كنت مكانكم لحاولت ان أقوم بعمل ما كبير ضخم يفغر حتى الأعداء افواههم اعجابا به)[3].
يصف هرتسل فلسطين كما أراد ان يتصورها العقل الجمعي الصهيوني، ارض جدباء قاحله تفوح منها رائحة الفقر وهي بالتأكيد غير مكتظة بالسكان، حيث يقول في وصف يافا،" الازقة مليئة بالروائح الكريهة، قذره، مهملة – وحيث ما كنت تتجه ببصرك – لا ترى غير الفقر الذي عرفه الشرق."[4]. كذلك لابد من اظهار كل معاني التقدم والحياة عندما يتعلق الامر باليهودي في فلسطين فالمستوطنات هي واحات في ارض قاحلة اما الحديث عن القدس فياتي ليؤكد على قدسيتها لدى اليهود وعلى قدرتها في اثارة عواطفهم ومشاعرهم حتى وان كان المرء ذاهبا الى الجحيم، كما ان هرتسل هنا ادخل بذكاء الكاتب عن التكاتف المسيحي اليهودي عندما وصف سير كينغزكورت وفريدريك في ازقة المدينة المقدسة وهما متشابكا اليدين، " وهكذا في ليلة قمراء رائعة كان مسيحي ويهودي يسيران متأبطين ذراع أحدهما الاخر باتجاه المدينة المقدسة اورشليم"[5].
الإشارة الى الاخلاق اليهودية في التعامل مع الناس على أساس انسانيتها فقط وليس شيئا اخر، جاءت لتعبر عن الشكل المتخيل لدولة اليهود كما ادعى هرتسل وان التعامل مع الانسان يكون على أساس انه انسان بمعزل عن دينه او عنصره أوغير ذلك، "الا انه يجب ان تعلم انني والذين يشاركونني الراي لا نميز بين انسان وانسان، اننا لا نسأل عن دين الانسان اوعنصره. يكفينا ان يكون انسان فقط"[6]، بل ويستغرق الكاتب في تعداد الفوائد التي جلبها اليهود الى البلاد واصحابها من خلال الحوار بين رشيد بك وكينغزكورت.
يتضمن تصوير هرتسل للقدس إعادة بناء الهيكل ومع ذلك، في رأيه، لم يكن الهيكل بحاجة إلى أن يُبنى على الموقع المحدد حيث كان الهيكل القديم والذي يقع الآن المسجد الأقصى مكانه بما يحتله من مكانة مقدسة جدا عند المسلمين. من خلال تحديد موقع الهيكل في موقع مختلف في القدس، تتجنب الدولة اليهودية التي تصورها هرتزل التوتر الشديد بشأن هذه القضية، الامر المغاير لما عليه الحال في إسرائيل اليوم وفي سياستها تجاه المكان. كما يظهر مشهد الانتخابات حالة العدالة والمساواة بين كل الأعراق والديانات دون تمييز.
بعد ان قضى لوينبيرج وكينجسكورت 20عاما، معزولين عن الحضارة. توقفوا في فلسطين في طريق عودتهم إلى أوروبا في عام 1923، اندهشوا لاكتشاف أرض تحولت بشكل جذري. منذ ذلك الحين نشأت منظمة يهودية أطلق عليها رسميًا اسم «المجتمع الجديد» حيث أعاد يهود أوروبا اكتشاف وطنهم الخاص بهم، واستعادة مصيرهم في فلسطين، البلد الذي أصبح الآن مزدهرًا ومكتظًا بالسكان، ويفتخر بصناعة وزراعة حديثة مزدهرة تعتمد على أحدث التقنيات، وهي موطن لمجتمع متحضر حر وعادل، يتمتع العرب فيه بحقوق متساوية تمامًا مع اليهود، مع وجود مهندس عربي بين قادة المجتمع الجديد، ومعظم التجار في البلاد من أعضاء الجماعات العرقية الأخرى.
بينما يضم الكتاب العشرات من الصور التي تظهر حجم التحول الحاصل في البلاد ومدى التقدم الذي وصلت اليه، يتغافل واضع الصور عن الاف المشاهد من المجازر بحق الفلسطينيين ومئات الحالات من ترحيل بلدات بأكملها الى جانب اقتلاع الفلاحين من أراضيهم وهدم بيوتهم في كافة ارجاء فلسطين، وبالتأكيد لم تضم الراوية أي صوره للعشرات من مخيمات اللاجئين الفلسطينيين الذين عانوا النكبة جراء عدوان المشروع القومي اليهودي الغربي في فلسطين.
تشير الرواية الى الظروف والتطورات التي عاشها اليهود في أوروبا خاصة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وما القت به هذه الظروف من تطورات سياسية واجتماعية وثقافية على واقع اليهود والذي قاد في النهاية الى التحول نحو مشروع قومي يهودي في "ارض الأجداد".
[1] هرتسل، ثيودور: "ارض قديمة جديدة" ترجمة مئير حداد، دار النشر العربي. 1968. تل ابيب: ص 30
[2] نفس المصدر السابق 24
[3] نفس المصدر 41
[4] نفس المصدر 43
[5] نفس المصدر 45
[6] نفس المصدر 64