كامب ديفيد 2 فشلت حقيقة.. ووقع الانفجار أواخر أيلول

سري سمور
27-07-2022
تحميل المادة بصيغة PDF

رأي

كامب ديفيد 2 فشلت حقيقة.. ووقع الانفجار أواخر أيلول

سري سمور

عانى الشعب الفلسطيني كثيرًا من الدسائس والمؤامرات، بل هو ضحية لتآمر القريب والبعيد، فلطالما كان من يعده بتحريره واسترداد حقوقه، يبرم من وراء ظهره تفاهمات واتفاقيات مع أعدائه أو مع داعميهم، ولطالما كان ثمن بقاء حكومات ونظم وتدبير انقلابات يتم تحت يافطة فلسطين وقضيتها، وليس لهذه ولا تلك شأن ولا صلة بذاك، ولطالما صدّق الشعب الفلسطيني زعيمًا أو دولة ووثق بها وعلّق عليها الآمال، وإذ به يكتشف أن هذا الزعيم أو تلك الدولة تلعب دورًا في مسرحية سياسية أو عسكرية كبيرة ليس إلا.

ومن كثرة المؤامرات والمسرحيات وتكرارها، ومن ثقل صناعة التاريخ على كاهل الشعب الفلسطيني، صار كثير من أبناء الشعب الفلسطيني، من مختلف المشارب الفكرية، ومن جميع المستويات التعليمية، يرتابون في أي تحرك أو حدث، حتى لو كان واضحًا غير قابل للتأويل.

بل صار كثير من الناس يحبذون تفسير الظواهر السياسية، تفسيرًا مبنيًّا على أن تحت السطح شيء آخر مختلف عمّا يرونه طافيًا فوقه، وأن خلف كل شيء مخطط متكامل وسيناريو معد سلفًا؛ حتى وصل بهم الحال إلى الظن بأن أسيرًا فنيت أيام عمره القصير في السجن، إنما زجّ به العدو في السجن من أجل (تلميعه) وتهيئته للقيادة، وأن هناك خططًا في الأدراج جاهزة للتنفيذ وكل ما يجري وكل حدث وقع إنما هو في حقيقة الأمر من أضابير تلك الخطط!

وانسحب هذا النمط من التفكير على العمليات التي تستهدف العدو من قبل أفراد أو تنظيمات، من كونها -وفق نظر هؤلاء- سيناريوهات جاهزة أو خطط معدة أو أن العدو معني بوقوعها ضمن خططه، علمًا بأن الأمن هو أولوية (مقدسة) عند الصهاينة ويعلو مفهوم الأمن عندهم على كل ألاعيب السياسة وعوامل الاقتصاد وغيرها.

وهذا النمط من التفكير جعل شريحة من الناس تقول: إن قمة كامب ديفيد الثانية لم تفشل، وأن ثمة اتفاقيات أبرمت (تحت الطاولة) ولم يتم الإعلان عنها، لتهيئة الرأي العام لذلك.

نقاش نظريات التفاهمات السريّة

غالبا استند أصحاب نظريات وجود شيء في العمق مغاير لما على السطح، إلى تجارب طويلة وخيبات كبيرة، أصابتهم بالهوس، وفي المثل الشعبي يقال "المقروص بخاف من جرة الحبل"؛ فمثلاً ربما قالوا: ألم تكن المفاوضات الحقيقية التي أفضت إلى توقيع إعلان المبادئ في حدائق البيت الأبيض في أيلول/ سبتمبر 1993 بعيدة عن الأعين، وكان الوفد المفاوض الرسمي في واشنطن متشددًا وثابتًا بتعليمات من القيادة في تونس، حتى نضجت (الطبخة) وكان ما كان، فلماذا نفترض فشل قمة رعاها الرئيس الأمريكي شخصيًّا، وجرى الترويج الإعلامي لها، وكان باديًا أن الفشل ممنوع؟!

هذا صحيح ، ولكن السياق التاريخي والظرف الموضوعي مختلف، وحتى اتفاق أوسلو كاد ينفجر عند أكثر من محطة، ولم تمر الأمور بسلاسة، وهي مرحلة استثنائية في تاريخ القضية، ليس من المعقول تعميمها وتصديرها على مستقبل القضية، وفي النهاية فإن أوسلو هو اتفاق مرحلي، تجنب في نصوصه المعلنة البتّ في قضايا الوضع النهائي.

وليس من المعقول ولا المنطق وجود اتفاق على قضايا مثل القدس واللاجئين يتم التستر عليه وإخفاؤه، والعودة من كامب ديفيد بإعلان مغاير، فلا عرفات ولا باراك بوارد خوض مغامرة كهذه.

وبالتأكيد فإن عدم تفجر الأوضاع تلقائيًّا وفوريًّا بعد عودة الوفود من كامب ديفيد أثار مثل هذه الشكوك أو النظريات والتحليلات، وتعززت بتصريحات تنفي فشل قمة كامب ديفيد2، وقد نشرت صحيفة الرسالة الأسبوعية المقربة من حماس تقريرًا مفصلاً يناقش فشل القمة من عدمه، ليخلص التقرير بأنها (لم تفشل) مرتكزًا على تصريحات لبعض المسئولين البارزين. كان الانفجار الذي حدث بعد أسابيع هو القنبلة الناسفة لهذه التصورات، علمًا بأن بعض الناس حتى والطائرات تقصف والشهداء يرتقون، ظلوا يؤمنون بأن كل هذا سيناريو وتمهيد لاتفاقيات (تحت الطاولة)، وهذا نابع من سوء فهم العقل الصهيوني، وقد تحدثت عن هذه الجزئية سابقًا.

مواقف الأطراف المختلفة

عربيًّا كما قلنا سابقًا أدار النظام الرسمي العربي ظهره إلى قضية فلسطين، وصار يتعامل معها كأنها قد حلّت ولم يتبق سوى اتفاقيات على تفصيلات جزئية لا قضايا مصيرية حساسة، مثل القدس واللاجئين، إن لم يكن بلسان المقال فبلسان الحال، ولم تخفت فرحة هؤلاء بصعود باراك إلى الحكم، حتى وهم يرونه يريد من عرفات التنازل عن القدس (وإلا...!).

الولايات المتحدة يهمها الهدوء وعدم انفجار الأوضاع ، وربما أخذ كلينتون تعهدات شفوية، أو حتى مكتوبة بألا يكون فشل القمة صاعق تفجير للأوضاع؛ ولكن باراك وفريقه كانوا وبطريقة محمومة يعدون العدة، ولربما استكملوا خططهم العدوانية على الفلسطينيين، أما  الرئيس عرفات فقد أدرك أين تسير الأمور، وهو في وضع صعب، فلا ظهير ولا ناصر له من العرب، والأمريكان منحازون تمامًا لـ "إسرائيل"، ولا خيار له سوى الدفاع عن النفس من العدوان الذي يقترب بسرعة من ساعة الصفر.

وباراك عاد برواية وجدت رواجًا كبيرًا في مجتمع عنصري مجرم بطبيعته (لا يوجد شريك لعملية السلام وعرفات ظهر على حقيقته بأنه لا يريد دفع ثمن هذا السلام المزعوم!)

حماس والجهاد الإسلامي كانتا تميلان ولو نظريًّا إلى احتمالية عدم فشل القمة عمليًّا، أو على الأقل فإن الفشل لن يفجّر الأوضاع، وستستمر الأوضاع بالسير على ما هي عليه، ولعل الدافع إلى ذلك أن قبضة السلطة عليهما لم تخف أو تتراخى بعيد فشل القمة، واستمرت الحركتان بتأكيد الدعوة إلى انتهاج خيار المقاومة، مع تطعيم الدعوة بالحديث عن فشل القمة وبالتالي لا جدوى من المفاوضات أبدًا، يضاف إليه كما ذكرت سابقًا الاستشهاد بانتصار حزب الله دليلاً على صوابية النهج والأطروحة.

أما حزب الله من جهته فاستمر بدعوة الفلسطينيين إلى تفجير الأوضاع، وأنهم سيحرزون نصرًا كالذي أحرزه، نظرًا لوجود عوامل مشتركة بين الحالتين، ولقد عرض الأمين العام للحزب حسن نصر الله رؤيته ومع أنه قال أن موضوع الحدود المريحة الذي حظي به الحزب فارق بين الحالتين، ولكنه لم يتوقف كثيرًا عنده، على كل سأناقش هذا الموضوع لاحقًا.

الأقصى هو العنوان ومنه تنطلق الأحداث

لا يبدي الفلسطينيون أي تساهل تجاه موضوع المسجد الأقصى، فكيف إذا تزامن أي اعتداء على المسجد مع انسداد سياسي تام؟

إيهود باراك أعطى الضوء الأخضر لزعيم المعارضة آنذاك (أرئيل شارون) باقتحام المسجد الأقصى، وشارون من الشخصيات المرتبطة ذهنيًّا في الوعي الجمعي الفلسطيني بحلقات متصلة من العداوة الموغلة في تطرفها والمجازر البشعة (قبية وصبرا وشاتيلا وغيرها) ومع أنه منذ 1982 ظل على هامش السياسة الإسرائيلية فإنه في تلك الأثناء وصل إلى زعامة الليكود، وهو ما يؤهله إلى منافسة باراك وكلاهما جنرال له مكانته عند الجمهور الصهيوني، ولكن مكانة شارون أعلى خاصة في الأزمات الأمنية كما يعتقدون.

وكيف يسمح الفلسطينيون بتمرير اقتحام شارون للمسجد الأقصى كحدث عابر؟ هذا محال، وقد كانت هناك تهيئة إعلامية لذلك الاقتحام الذي حمل عنوان (زيارة) والرئيس عرفات أكد في غير مناسبة أنه طلب من باراك عدم السماح لشارون باقتحام المسجد الأقصى، لأن هذا أمر لا يمكن التغاضي عنه، وفي ذات الوقت رأى "الختيار" أن الأقصى أفضل وأنسب العناوين لإعادة القضية الفلسطينية إلى الواجهة ومحاولة وضع زعماء الأمة أمام مسئولياتهم.

ولكن باراك كان يريد توريط شارون لعله ينهي منافسته، ويريد من ناحية أخرى تبرير العدوان الذي يعدّ له العدّة منذ الاندحار من جنوب لبنان.

ونعود إلى السؤال المكرر: هل وقعنا في فخ إسرائيلي محكم بتفجير الأوضاع؟

والجواب أن المسجد الأقصى فوق كل حسابات السياسة ونظريات الأحزاب الإسرائيلية ومن خلفها أمريكا، ولم يكن ثمة بدّ من صد العدوان، ولا حصافة ولا ذكاء سياسي بأن تمد رقبتك للجزّار بدعوى سحب الذريعة منه، وأيضًا كان الشارع محتقنًا وبحاجة إلى شرارة تشعل الوضع.

اقتحم شارون المسجد الأقصى برفقة حوالي 2000 عنصر أمن ولكن المقدسيين تصدوا له ومنعوه من دخول المصلى القبلي وقذفوه بالأحذية وحمالات المصاحف، ولكن توقيت الاقتحام بحد ذاته عامل مساعد على الاشتعال، فهذا يوم الخميس 27 أيلول/ سبتمبر 2000 أي قبل حوالي 24 ساعة من موعد خطبة وصلاة الجمعة.

حيث ستستأنف الاشتباكات والصدامات في اليوم التالي (الجمعة) 28 أيلول/ سبتمبر 2000 الذي سيكون محطة فارقة لها تداعياتها وتفاعلاتها التي ما زالت القضية الفلسطينية تعيشها حتى اللحظة، وتدحرجت الأمور بسرعة.

وفي المقال القادم إن شاء الله سأتحدث أكثر عن انتفاضة الأقصى.

  • المواد المنشورة في موقع مركز القدس للدراسات تعبّر عن آراء كتباها وقد لا تعبّر عن رأي المركز بالضرورة.